مقالات مختارة

التحول الجيواستراتيجي في العالم قبل وبعد الطوفان…نهاية حقبة الهيمنة الصهيونية

محمد سليم قلالة
الأناضول
الأناضول
يُلاحِظ المُتَتبِّع لِلتحولات الكبرى على الصعيد العالمي قبل طوفان الأقصى، أنَّ الحرب في أوكرانيا كانت هي المفتاح الأساس الذي كان بالإمكان تفسير الصراع الدولي من خلاله. بدا وكأن الولايات المتحدة قد تمكَّنت من توريط روسيا في حرب طويلة الأمد لكي تتفرغ إلى منطقة المحيط الهادي وتتولى أمر الصين. لقد كان هذا في حينه متطابقا مع الخلاصات الاستراتيجية التي وصل إليها الأمريكيون:

أن العدو رقم واحد للولايات المتحدة في العقود القادمة هو الصين، لذا ينبغي التفرغ تدريجيا لهذا التهديد الاستراتيجي المرتفع.. جاء في استراتيجية الأمن القومي بايدن-هاريس الصادرة في شهر أكتوبر 2022 ما يلي: “سوف نتنافس بفعالية مع جمهورية الصين الشعبية التي تُعَد المنافس الوحيد الذي يمتلك النية، والقدرة على نحو متزايد على إعادة تشكيل النظام الدولي، في حين نعمل على تقييد روسيا الخطيرة”.

وكذلك كان الحال، بعد إغراق روسيا في الحرب مع أوكرانيا وإبقائها في حالة اللاّغالب واللاّمغلوب، ينبغي الخروج من أفغانستان ومن الشرق الأوسط والتركيز على التوجه شرقا نحو المحيطين الهندي والهادئ بسياسات مناسبة خاصة مع الهند وتايوان وأستراليا واليابان والفلبين وبقية جزر المحيطين الأخرى…

ولم تكن القيادات الإسرائيلية ببعيدة عن هذا التحليل، كان عليها أن تُكيِّف استراتيجيتها الإقليمية مع القادم من التحولات العالمية لتحقيق أقصى ما يمكن من مكاسب سياسية وأمنية واقتصادية، والأهم من كل ذلك تغيير الواقع الجيواستراتيجي في المنطقة لصالحها وتصفية القضية الفلسطينية.

وهكذا لاحظنا كيف تسارعت الأحداث موازاة مع الحرب في أوكرانيا، تم الانتقال من مشروع صفقة القرن التي بموجبها يتم التنازل عن الحقوق الفلسطينية مقابل مشاريع تنموية ضخمة إلى التركيز على الاتفاقيات الإبراهيمية التي جرَّت إليها كل من الإمارات والبحرين والمغرب بسرعة فائقة، حتى بات وكأن الأمر كان مُعَد سلفا، (وفي ذلك بعض الواقع لما للعلاقات غير العلنية السابقة من تأثير على هذا التوجه)…

كما لم تكترث قيادة الاحتلال الإسرائيلي لردود الأفعال العربية الرافضة لهذا “الهرولة” نحو التطبيع كما سمّتها الجزائر، بل اعتبرت ذلك تغريدا خارج السرب، باعتبار أن الأمر محسوما انطلاقا من حسابات عالمية وإقليمية ومحلية وانطلاقا من مصالح لا يمكن القفز عليها لمنع تحقيقها في الميدان. فلِيُثَرثِر من أراد أن يُثَرثِر، كان لسان حال الإسرائيلي يقول، مادام الأمر محسوبا ومحسوما بهذه الكيفية، ومادام التحول الجيواستراتيجي في المنطقة أصبح واقعا وليس مُجرد سيناريوهات يجري بناؤها أو هي بصدد المراجعة.

بدا وكأن الأمر قد حُسِم وتَحدّد مستقبل المنطقة وانتهي الأمر. وتعزَّز هذا التوجه بلقاء مجموعة العشرين في الهند بتاريخ9 سبتمبر 2023(شهر قبل الطوفان) حيث اجتمع على هامش هذه المجموعة، كبار العالم الغربي مع الممثلين الإسرائيليين ليناقشوا المخطط التنفيذي (وليس المشروع) لما سيكون عليه الشرق الأوسط وعلاقته بالغرب والشرق ولما ستكون عليه مكانة “إسرائيل” المحورية من كل هذا.

واغتنم ممثل الصهيونية العالمية والغرب الفرصة التي منحتها إياه الأمم المتحدة ليعلن “نتنياهو” يوم 23 سبتمبر 2023(15 يوما قبل الطوفان) وبالخرائط تفاصيل هذا العالم الجديد ويرسم خارطة الممر بين الشرق والغرب الذي يُبشِّر به،لاغِيًا أي وجود للعرب والمسلمين إلا كأدوات ضمنه، وناكرًا تماما وجود أرض اسمها فلسطين أو شعب اسمه الشعب الفلسطيني، بل ماحيًا من خرائطه التي رفعها بيده أمام الحضور الأممي أي وجود لإقليم اسمه غزة أو أرض محتلة اسمها الضفة الغربية ناهيك عن فلسطين!.الكائن الوحيد الذي أبقاه على خريطته للمنطقة والذي يُمثِّل الغرب والحضارة والمستقبل،أعلنها يومها هو “إسرائيل”!!، والبقية إنما هي أدوات تندرج ضمن مشروعها العالمي الضخم الذي يتقاطع مع المشروع الجيواستراتيجي الكبير للولايات المتحدة ويدعمه، وفي ذات الوقت يخدم الاتحاد الأوروبي- بزعمه- الذي ستتعزز قوته من الآن فصاعدا تجاه القوة الروسية القادمة من الشرق إن لم تقض عليها..

وانقسم العالم بين مُنبهر بهذا المظهر وخائف منه، وسارع البعض للتودد إليه مادام الأمر هكذا! لم يبق إلا مجاراة هذا التّحول الكبير في النظام العالمي وعدم الوقوف في وجه رياحه العاتية…

كاد هذا الواقع يتحول إلى مُسَلَّمَة، على الجميع القبول بها والرضوخ لها أو دفع الثمن غاليا. ولَعِبَت وسائل الإعلام الثقيلة وشبكات التواصل الاجتماعي عبر العالم الدور المنوط بها لترسيخ هذه الصورة وتحضير الدول والحكومات ثم الرأي العام للقبول بها في انتظار المعركة الكبرى القادمة مع الصين…

حتى قَرَّرَ قادة ذوو بصيرة ورؤية مستقبلية من داخل فلسطين المحتلة أمرا آخر، سيُحدِث إرباكا في هذه الإستراتيجية الصهيونية العالمية لم يسبق أن عرفته من قبل بل سيُسقطها، فكان قرار تفجير معركة طوفان الأقصى فجر السابع من أكتوبر 2023…

وأدرك قادة المشرع الصهيوني العالمي من الوهلة الأولى الأبعاد العميقة لهذا القرار، لذلك كانت كل هذه الإبادة وكل هذه الهمجية لمحاولة إفشاله، ولذلك كان كل هذا الإصرار لعدم وقف الحرب.. ذلك أن المسألة لا تتعلق بغزة وحدها أو بالمقاومة وحدها أو بحماس وحدها أو بأسرى لدى حماس وحدهم إنما بخسارة جيواستراتيجية عالمية قادمة، لها ما بعدها من انعكاسات على الحرب في أوكرانيا وعلى الصراع القادم مع الصين وعلى استمرار الهيمنة الصهيونية على بقية العالم. إذْ لا يمكن هزيمة الصين أو تحجيم قدراتها دون الهيمنة كليا على الشرق الأوسط ودون منع الهند من التحالف معها.

وهو ما أصبح اليوم غير قابل للتحقق بعد سنتين من الحرب على غزة دون أن تُعلِن استسلامها أو تراجعها عن التمسك بتحرير فلسطين وعاصمتها القدس المحتلة. إن مثل هذا الهدف لا يمس فقط بالاستراتيجية الصهيونية العالمية بل يُصحِّح وضعا جائرا للنظام العالمي ويوقف ظُلما حضاريا دام لعقود، بل هو البداية لِتمكين الإسلام الآسيوي من استعادة مبادرة النهضة من خلال تحالف محتمل بين باكستان وإيران والمملكة العربية السعودية بتشجيع من الصين كما بدت ملامحه تبرز بعد العدوان الصهيوني الأخير على قطر وانكشاف وهْم الحماية الأمريكية لدول الخليج العربية…

ومن شأن هذا التحول أن يؤثر علي كافة المنطقة العربية والإفريقية ويَدفع باتجاه فشل الاتفاقيات الإبراهيمية ومشروع التطبيع الذي نَشط بوتيرة متسارعة قبل الطوفان، وبدل أن يُقوِّى الدول التي انضمت إلى هذا المشروع يزيد من هشاشتها مثل المغرب والبحرين والإمارات فضلا عن دول التطبيع السابقة التي ستضطر إلى مراجعة حساباتها مع الكيان الصهيوني وبخاصة مصر والأردن.

وهو ما بدت تظهر ملامحه في الآونة الأخيرة. وهذا يدل أننا بصدد الدخول في مرحلة موت مشروع الشرق الأوسط الإسرائيلي لصالح بداية عودة الحياة للمشروع العربي الإسلامي المتحالف مع الجنوب العالمي والقوى المناهضة للصهيونية العالمية عبر العالم، بكيفية أقوى من تلك التي سبقت مرحلة ما قبل موجة مناهضة الاستعمار التقليدي بعد الحرب العالمية الثانية. وهنا تكمن الأبعاد العالمية لمعركة طوفان الأقصى وتبدو فلسطين بحق هي بارومتر الصراع الدولي، والقدس هي نقطة القياس الجوهرية في هذا البارومتر. استعادتها أو استعادة أجزاء منها مرحليا فيه الدليل على تحول كبير جار في العالم.
ينبغي ألا يُستهان أبدا بعبارة “الدولة الفلسطينية المستقلة بعاصمتها القدس”

لذا، ينبغي ألا يُستهان أبدا بعبارة “الدولة الفلسطينية المستقلة بعاصمتها القدس”، فذلك، يُعَد عنوانَ تبدل جوهري على الصعيد العالمي، تُدرِك أبعاده الصهيونية العالمية أكثر مِمَّا نُدركه نحن وبقية العالم. فهل سيتم ذلك؟

**العناصر الجيواستراتيجية الجديدة في الشرق الأوسط والعالم بعد طوفان الأقصى
الإجابة عن هذا السؤال تستمد عناصرها الأولية من التبدل الحاصل في الموقف الغربي الذي كاد يَنسى قُبيل طوفان الأقصى أن هناك قضية في الشرق الأوسط اسمها القضية الفلسطينية. فاليوم لم يبق إلى جانب الولايات المتحدة الأمريكية في موقفها من حرب الإبادة على غزة سوى ثلاث قيادات دول تربطها علاقات شخصية مع القيادة الأمريكية الحالية والصهاينة في كل من المجر والأرجنتين والباراغواي، إضافة لبعض الدول “الجزر” المتباعدة في المحيط الهادي(ميكرونيزيا (115ألف نسمة) وبالاو (18ألف نسمة) وتونغا (100ألف نسمة) وناورو (13ألف نسمة) وبابوا (10.3 مليون نسمة)!!

والتي تحكُمها اتفاقيات دفاع مشتركة مع الأمريكيين وتستفيد من تمويل مالي منتظم مثلها مثل الكيان الصهيوني، أما باقي الدول الغربية فهي إِنْ لم تتخذ موقفا مُتباينا مع الأمريكيين في ما يتعلق بالاعتراف بالدولة الفلسطينية فهي لا تتنكر صراحة لحقوق الشعب الفلسطيني مثل ألمانيا واليابان اللّذان مازالتا لحد الآن لم تُعلنا اعترافهما بالدولة الفلسطينية خلافا لبقية الدول الغربية (أرمينيا، سلوفينيا، أيرلندا، النرويج، إسبانيا، البهاماس، ترينيداد وتوباغو، جامايكا، باربادوس–اعترافات سنة 2024))- و(فرنسا، بريطانيا، أستراليا، كندا، بلجيكا، لوكسمبورغ، البرتغال، مالطا، أندورا، سان مارينو)-اعترافات يوم 21 سبتمبر الجاري- (عامين بعد إشهار نتنياهو خارطة الشرق الأوسط في الأمم المتحدة بدون فلسطين)!…

و إذا ربطنا هذه المواقف بما يحدث من خلافات تجارية متعلِّقة بالرسوم الجمركية التي أفرط فيها “دونالد ترامب”، ومطالبه المتكررة بزيادة المساهمات الدفاعية في الحلف الأطلسي إلى 5% من الناتج الداخلي الخادم لدول الحلف،ثم أضفنا إلى كل ذلك مواقف الشعوب الغربية الداعمة للحق الفلسطيني بوضوح من خلال المسيرات والمظاهرات ومواقف الكثير من ممثلي النخبة في الغرب، يتبين لنا أن المواقف الغربية الرافضة للسياسات الأمريكية ليست مؤقتة أو لها علاقة فقط باحترام القانون الدولي أو هي متعاطفة مع الشعب الفلسطيني، بل هي مواقف تكشف عن بداية تبدل هيكلي حقيقي وعميق في الجسم الغربي وإشارات حاملة للمستقبل تدل أن الغرب غير الأمريكي الصهيوني سيتعامل مع عالم ما بعد طوفان الأقصى ورموزه بغير الأسلوب الأمريكي.

** عناصر المستقبل المتوقّعة
هذا الوضع يمكِّننا من استشفاف العناصر التي ستحكم الشرق الأوسط والمنطقة العربية في السنوات القادمة، ومن ثَم تسمح لنا بتصور السيناريوات الأرجح للتجسيد وكيفية التعامل معها.
بطبيعة الحال لا يمكننا في هذه العجالة بناء السيناريوهات المستقبلية المتوقَّعة للمنطقة والعالم لأن ذلك يحتاج إلى استخدام أدوات ومنهجيات وتقنيات كمية ونوعية مُركَّبة، فضلا عن الذكاء الاصطناعي، ولكنه يمكِّننا من رصد أهم المتغيرات التي ينبغي على الباحث متابعة مسارها الاستشرافي لكي يتمكن من إحداث التوليفات الأكثر احتمالا القادرة على التنبيه إلى السيناريوهات الجزئية التي يمكن أن ينبثق منها السيناريو الكلي الأرجح عند القيام بالخيارات الاستراتيجية في السنوات القادمة.

ومن أهم المتغيرات التي تبدو لنا ذات أهمية في المستقبل ويمكنها أن تتحول إلى مكونات رئيسة عند تشكيل مستقبل المنطقة الجيواستراتيجي نذكر:

– نهاية مرحلة التحالف المطلق – غير المشروط – بين دول المنطقة والولايات المتحدة الأمريكية وبروز إمكانية تنويع وتوسيع الشراكة الاستراتيجية بين هذه الدول والشريك الصيني والروسي والهندي والأوروبي دون الخوف من ردة الفعل الأمريكية أو التدخل الإسرائيلي.

– تقلص فرص إنشاء الممر الرابط بين الهند ويافا المحتلة مرورا بالإمارات والمملكة السعودية والأردن.

– تنامي التقارب الخليجي الباكستاني التركي وتقلص الفجوة بين إيران ودول مجلس التعاون الخليجي.
– الضعف التدريجي لمشروع الاتفاقيات الإبراهيمية وتزايد الشك في الاعتماد على القدرات الإسرائيلية في مجال الدفاع والأمن بالنسبة للدول التي ربطتها اتفاقيات دفاع وتصنيع مشترك مع الصناعات العسكرية الإسرائيلية.

– عودة الثقة تدريجيا بين دول التطبيع والدول الرافضة له مما يسهم في تقليل التوترات في المنطقة…

– بروز إمكانية تشكل محور شراكة إستراتيجية بين الدول العربية والإسلامية قد يربط الجزائر والدول الإفريقية بدول الخليج العربية بإيران وباكستان وتركيا تدعمه الصين.

– بروز إمكانية بناء شراكة أوروبية -عربية على أسس مغايرة عن ذي قبل.

ولا شك أن الطرف الأمريكي – الإسرائيلي سيتعامل مع هذه المتغيرات لإفراغها من محتواها بطريقة أو بأخرى لإبقاء الوضع على حاله أو إعادته إلى مرحلة ما قبل الطوفان، وستبدو ردود أفعاله عنيفة وأحيانا غير مدروسة في بادئ الأمر في محاولة منه لإخافة جميع الأطراف التي تسعى لتبني توجهات جديدة، ولكنه في آخر المطاف سيرضخ لتقليل خسائره الاستراتيجية، وسيكون ذلك عنوان تبدل جوهري في المنطقة سيحكم مستقبلها لعقود قادمة، وبذلك تكون معركة طوفان الأقصى هي التي غيَّرت الشرق الأوسط، وليست سياسة الصهيونية العالمية هي التي استمرت في مخططها…

وهذا كاف لكي نُدرك أن دماء عشرات آلاف من شهداء القضية في فلسطين ولبنان واليمن، وتضحيات الملايين وصبرهم على الأذى غير المسبوق تاريخيا، ومناصرة مئات الملايين من البشر عبر العالم لفلسطين لم تذهب سُدى، وأن هذا الظلم زائل ذات يوم مهما طال، ومعه ستزول هذه الحقبة الصهيونية التي فاقت همجيتها كافة الهمجيات التي عرفتها البشرية عبر التاريخ.

الشروق الجزائرية
التعليقات (0)