قضايا وآراء

رد حماس على خطة ترامب بين الخذلان والإذعان

محمد الصغير
"ادر الأشقاء بقبول تعليمات ترامب والترحيب بها، قبل عرضها على أصحاب الشأن وسماع رأيهم"- جيتي
"ادر الأشقاء بقبول تعليمات ترامب والترحيب بها، قبل عرضها على أصحاب الشأن وسماع رأيهم"- جيتي
من المضحكات في مسيرة الرئيس الأمريكي ترامب، أنه يسعي بكل جد للحصول على جائزة نوبل للسلام وأن يوصف بأنه رجل السلام الأول في العالم، وفي الوقت ذاته غيّر وزارة الدفاع الأمريكية إلى وزارة الحرب، وعلل ذلك بأن الجيوش أنشئت للهجوم وليس للدفاع، ويرى في الوقت ذاته مقاومة المحتل جريمة، ونزع سلاحها واجبا!

عقلية تاجر العقارات تحكم تصرفات ترامب، وتحدد منطلقاته في أدق أمور السياسة، فهو يرى قطاع غزة أرضا تطل على البحر ولها شاطئ فخم، وتصلح لمشروع استثماري وتطوير عقاري بالشراكة مع صديقه الحميم نتنياهو؛ الذي مهمته إفراغ هذا القطاع من أهله، للانطلاق إلى خطوة أوسع هي إسرائيل الكبرى.

هذه الأحلام والكوابيس يصرحون بها صراحة بلا مواربة، وبعد عامين كاملين من حرب الإبادة الجماعية فشل الاحتلال في تحقيق أهدافه في غزة، واستطاعت المقاومة أن تكبده خسائر فادحة على الأصعدة كافة، حتى أصبح الكيان المحتل مذموما منبوذا، ورأينا عامة الوفود تغادر قاعة الأمم المتحدة أثناء كلمة نتنياهو وبقيت زوجته تسمعه في القاعة الفارغة، وخارج القاعة كانت مظاهرات حاشدة تندد بجرائمه، حتى إن رئيس كولومبيا غوستافو بيترو انضم إليها وشارك فيها. وكان الحديث عن غزة ومآسيها القاسم المشترك في كلمات أصحاب الضمائر الحية، وهنا قرر ترامب عمل خطة إنقاذ عاجلة لصديقه، كما قدم له آلة القتل العسكرية، وبسط عليه الحماية السياسية، ففي كل مرة يصوت فيها العالم على إيقاف الحرب يخرج لهم فيتو ترامب "راعي السلام"!

ملخص خطة ترامب هو إعلان الاستسلام انصياعا للقوى العظمى التي رأت ذلك وبدون مقابل، ليحقق نتنياهو كل المكاسب، ويتحمل الفلسطينيون كل الخسائر

على هامش اجتماع الجمعية العامة للأمم المتحدة، عقد مؤتمر لبلورة حل الدولتين من خلال توسيع نموذج السلطة الفلسطينية، وضم غزة إلى سلطة محمود عباس ليديرها وفق خبرته المتراكمة في التنسيق الأمني مع الاحتلال. ووصف رئيس وزراء بريطانيا الدولة المنتظرة بأنها دولة افتراضية -بلا معالم أو ملامح- وفي المقابل سيطبع العرب والمسلمون مع الصهاينة، ويتولون مهمة إخراج حماس من المشهد، ونزع سلاح المقاومة والتنازل عن الفكرة برمتها.

ومع ذلك، رفض نتنياهو فكرة الدولتين، التي كانت ستوفر غطاء مقبولا، وتعطي صورة نصر موهوم للحلفاء والشركاء، ثم قرر ترامب إعلان انتصار نتنياهو بقوة القرار السيادي من الدولة العظمى، واستضاف قادة من دول عربية وإسلامية وعرض عليهم خطته وأقروها. لكن نتنياهو أضاف عليها كل ما عجز عن تحقيقه من بداية طوفان الأقصى، واستجاب ترامب لذلك كله، وحدث تململ مكتوم من أطراف اعترضت على الإضافات الفجة التي لغمت الاتفاقية، مما أخّر انعقاد المؤتمر الصحفي أكثر من ثلاث ساعات، وفي النهاية انتصرت رغبات نتنياهو الجامحة، وخرج بعد المؤتمر منفردا موجها كلمة لشعبه، بأن خطة ترامب اشتملت على كل أهدافنا من الحرب.

وكعادة ترامب في فضح حلفائه من قادة الدول الإسلامية، ذكر في صلب المؤتمر أنه إبّان إعلانه عن القدس عاصمة لإسرائيل، حاولوا الاتصال به وأنه رفض الرد عليهم إلا بعد الإعلان، لأن تخوفاتهم من ردود الفعل ليست واقعية، وافتخر كذلك باعترافه بضم الجولان إلى دولة الاحتلال. ومع ذلك يرى نفسه رجل السلام، وهو كذلك، فهو سِلم وسلام لحكومة الاحتلال، وحرب ودمار على من يقف في طريقها.

ما عرف بخطة ترامب ليست إلا وثيقة إذعان، وإعلان انتصار كاذب لجيش الاحتلال، على حساب مقاومة صامدة وشعب أعزل محاصر من عشرين سنة، وهذه الخطة جمعت أسوأ ما في المؤامرات السابقة على الأمة، بداية من اتفاقية سايكس بيكو لتقسيم البلاد العربية، ثم وعد بلفور لتوطين اليهود في فلسطين، حيث جاء سايكس وبلفور معا في صورة توني بلير المرشح لحكم غزة، بعدما قتل مليون مسلم في العراق وجلب له الدمار والخراب. إنها خطة تقسيم جديد ليس للعرب فيها من نصيب، واحتلال مباشر من أمريكا وبريطانيا من خلال مجلس إدارة غزة، الذي اختار مدينة العريش المصرية مقرا له، ولم يفصحوا هل ستبقى العريش تحت السيادة المصرية، أم أنها ستكون العاصمة الإدارية للاحتلال الجديد؟

ملخص خطة ترامب هو إعلان الاستسلام انصياعا للقوى العظمى التي رأت ذلك وبدون مقابل، ليحقق نتنياهو كل المكاسب، ويتحمل الفلسطينيون كل الخسائر، حتى صورة القيادة التابعة المستسلمة لهم استنكفوا أن يجعلوها طرفا في سماع الإملاءات، وبادر الأشقاء بقبول تعليمات ترامب والترحيب بها، قبل عرضها على أصحاب الشأن وسماع رأيهم، وغادروا مقاعد الأشقاء إلى دكة الحلفاء.

أملى نتنياهو.. وأعلن ترامب: أن على حماس تسليم سلاحها، وخروجها من المشهد بالكلية، وتخليها عن فكرة المقاومة، في مقابل توقف الحرب دون التزام واضح بعدم تجددها، وتسليم الأسرى والموتى دفعة واحدة، وعندها يسمح بدخول مساعدات إغاثية، ويبدأ ترتيب خروج قوات الاحتلال على مراحل غير محددة ولا مؤقتة، وأن يدير غزة من الداخل من يختارهم مجلس توني بلير من جنسيات مختلفة، ولا حديث عن أكثر من 65 ألف شهيد وعشرات آلاف الجرحى والمصابين، ولا عن إبادة غزة بالكامل، أو تعويضات وإعادة إعمار، وربما يكون هذا هو الدور المحجوز للأشقاء.

ترامب ليست هدنة ولا اتفاق سلام، إنها شرعنة للاحتلال وقبول به، وتجريم لكل صور مقاومته، التي ينادي بها الشرع ويكفلها القانون، وبداية فعلية لحلم إسرائيل الكبرى الذي يتحدث عنه نتنياهو على حساب دول المنطقة

أكبر دليل على أنها خطة إذعان، أن ترامب أمهل المقاومة أربعة أيام، فإن رفضت فإنه سيكون إلى جنب نتنياهو في إكمال مهمته، مع أن الجميع يعلم أن سلفه بايدن ترأس مجلس الحرب في بدايتها، وجاء هو ليحقق لهم النصر الذي لم يحرزوه!

خطة ترامب ليست هدنة ولا اتفاق سلام، إنها شرعنة للاحتلال وقبول به، وتجريم لكل صور مقاومته، التي ينادي بها الشرع ويكفلها القانون، وبداية فعلية لحلم إسرائيل الكبرى الذي يتحدث عنه نتنياهو على حساب دول المنطقة، التي لو كانت صاحبة رؤية أو قرار لتمسكت بالمقاومة برزخا بينها وبين أطماع الاحتلال، ولو استسلمت المقاومة لتيار الخذلان، فستكون خطوة الاحتلال القادمة خارج فلسطين، وإعلان قيادته للمنطقة دون منازع أو مقاوم.

إذا تنازل المقاتل عن سلاحه فقد مكن عدوه من مقاتله، والتاريخ يشهد بأن من قبل التنازل لا يُقبل منه إلا الاستمرار فيه، ونموذج السلطة خير شاهد، وما فلسطين بدون المقاومة إلا محمود عباس، الذي يقبل بكل شيء إلا وجود المقاومة ورجالها، الذين ندرك أنهم في اختبار صعب، لأنهم لا يختارون لأنفسهم، وإنما يختارون لشعبهم وقضيتهم وأمتهم، ومهمتنا بذل النصيحة ووضعها بين أيديهم، دون افتئات عليهم أو مزايدة على مواقفهم، مع ثقتنا في لطف الله بهم، وحدبه عليهم، وأضفنا إلى القنوت للمقاومين بالنصر والثبات، الدعاء المفاوضين بالسداد والرشاد.

وبعد أن أخذ قادة حماس الوقت الكافي للنظر في الخطة من كل جوانبها، أعلنوا قبولها إجمالا فيما يملكون التفاوض فيه، والنقاش حوا التفاصيل المبهمة، ورد المسائل العامة الهامة للقرار الفلسطيني الجامع، الذي يسعون إلى إنجازه وتحقيقه! فجاء رد حماس منفردة أقوى من رد الدول الإسلامية مجتمعة، في توازن يدل على سداد الرأي، بعد إعمال كل مراحل الشورى الموسعة، مؤكدين أن المقاومة تتفاوض من منطلق ثوابتها، واستطاعت بمهارة أن تحيّد -مرحليا - ‎الرئيس ترامب، وألقت في وجه الاحتلال كرة اللهب.

من نبت في ميدان الجهاد، ثبت على طاولة التفاوض؛ واليد التي عرفت طريق الزناد، لا توقع على تسليم البندقية.
التعليقات (0)