في 15 أيلول/سبتمبر 2025، صعد بنيامين
نتنياهو إلى منصة في منتزه «مدينة داوود» في
القدس الشرقية المحتلة، وأطلق صرخته المدوية: «نحن هنا، هذه مدينتنا يا سيد إردوغان. ليست مدينتك. إنها مدينتنا، وستبقى دائماً كذلك، ولن تُقسَّم مرة أخرى». لم يكن مجرد خطاب سياسي عابر، بل محاولة لإعادة صياغة تاريخ مدينة لم تكفّ عن تحدي الأساطير.
ووسط تصفيق الحاضرين، كشف نتنياهو سرّاً ظلّ طي الكتمان لعقود: في أواخر التسعينيات، حاول إقناع تركيا بإعادة «
نقش سلوان» (Siloam Inscription)، الحجر المنقوش الذي يعود إلى عام 1880، والمحفوظ في متحف إسطنبول. لكن رئيس الوزراء التركي آنذاك مسعود يلماز رفض، مدفوعاً – كما قال نتنياهو – بخوفه من الغضب الشعبي الذي كان يقوده رئيس بلدية إسطنبول حينها، رجب طيب إردوغان.
بحسب رواية نتنياهو، هذا النقش، يوثّق حفر نفق وبركة مياه لتخزين الماء قبل نحو 2700 عام في عهد الملك حزقيا، هو أهم: «الاكتشافات الأثرية الإسرائيلية بعد مخطوطات البحر الميت». وقال إنه عرض على يلماز مبادلة أي قطعة عثمانية موجودة في المتاحف الإسرائيلية مقابل النقش، بل عرض لاحقاً التخلي عن جميع القطع الأثرية العثمانية أو دفع ثمن مالي، لكن يلماز رفض بشكل قاطع. ويضيف نتنياهو أن يلماز قال له حينها، هناك: «دائرة انتخابية إسلامية متنامية بقيادة إردوغان وسيكون من المثير للغضب أن تسلّم تركيا لإسرائيل لوحاً يثبت أن القدس كانت مدينة يهودية قبل 2700 عام».
نحن هنا... وهذه مدينتنا!
في كل مرة يخرج بنيامين نتنياهو ليعلن أن القدس «مدينتنا»، لا يتحدث كسياسي يطرح موقفاً عابراً، بل كمن يحاول إعادة كتابة التاريخ من جديد، ومحو التاريخ الحقيقي لمدينة القدس. يريد أن يحوّل القدس، التي عاشت قروناً كمدينة متعددة الثقافات، إلى كيان أحادي مغلق، «يهودي» الهوية والسيادة إلى الأبد.
هذه الصرخة تتهاوى أمام حقائق الحفريات الأثرية. فالقدس، تاريخياً، لم تكن عاصمة لما يُسمى «الشعب اليهودي»، لأنه لا وجود لليهود كـ «أمة وشعب وعرق»، ولا وجود لليهود كـ «هوية قومية أو عرقية مشتركة كمجتمع إنساني» (راجع: جمال حمدان، «اليهود أنثربولوجيا». أرثر كوستلر، «القبيلة الثالثة عشرة ويهود اليوم». شلومو ساند، «اختراع الشعب اليهودي»، وغيرهم).
الأسطورة التوراتية عن «مملكة إسرائيل» الموحدة ومؤسسيها داوود وسليمان تتهاوى أمام الأدلة الأثرية. فالحفريات المكثفة في القدس، كما توضح عالمة الآثار الهولندية، مرغريت شتاينر: «إن الحفريات الكثيرة التي جرت في القدس وحولها، لم يُعثر فيها على أي أثر لمدينة محصنة: «لا أسوار كبيرةً ولا بيوت ولا حتى أي قطع من أوان فخارية سائبة... لا وجود لمدينة القدس قبل القرن السابع قبل الميلاد كمدينة مأهولة تدب فيها الحياة» (مرغريت شتاينر «القدس في العصر الحديدي» (1300- 700 ق.م)
بالتالي، لا وجود لأدلة أثرية مقنعة تثبت وجود مملكة إسرائيلية عاصمتها القدس. فلا يمكن الحديث عن مملكة بلا سكان، أو عاصمة بلا مدينة. الروايات التوراتية وحدها لا تكفي لبناء تاريخ. (لمزيد من التفاصيل يُراجع مؤلفنا: القدس التاريخ الحقيقي، مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت، 2020).
الحقيقة التي لا تزال تكرر نفسها: بعد مرور أكثر من قرن ونيّف على التنقيب الأثري الذي لم يترك شبراً أو حجراً من أرض فلسطين من دون قلبه، لم يعثر على أثر واحد يربط «الكتاب المقدس» بها، وأي ادعاء بغير ذلك غير صحيح على الإطلاق وتزوير للحقائق.
نقش سلوان... أسئلة بلا إجابات
النقش الذي يعلّق نتنياهو عليه آماله، اكتُشف داخل نفق في بلدة سلوان عام 1880. يوثّق ببضع جمل حفر قناة مائية لنقل مياه نبع جيحون إلى داخل المدينة. عام 1891، قَطَع مجهول الحائط الذي حمل النقش، وأخرج النقش من النفق. وُجِد النقش مكسوراً، وبعد ترميمه نُقِلَ إلى «متحف إسطنبول الأثريّ». لكن النقش المكسور والمثير للجدل فتح أبواب الأسئلة: لماذا وُجد في عمق النفق لا عند مدخله؟ متى كُتِب ذلك النقش؟ من كتب النص؟ ولماذا لم يُذكر اسم الحاكم الذي أمر بحفر النفق؟
يذهب الباحثون التوراتيّون إلى أنّ هذا النقش، يلائم نصّاً من نصوص الكتاب المقدّس، التي تتناول مشاريع حزقيّا، ملِك يهوذا: «وَبَقِيَّةُ أُمُورِ حَزَقِيَّا، وَكُلُّ جَبَرُوتِهِ، وَكَيْفَ عَمِلَ الْبِرْكَةَ، وَالْقَنَاةَ، وَأَدْخَلَ الْمَاءَ إِلَى الْمَدِينَةِ، أَمَا هِيَ مَكْتُوبَةٌ فِي سِفْرِ أَخْبَارِ الأَيَّامِ لِمُلُوكِ يَهُوذَا؟» (سِفر المُلوكِ الثّاني (20: 20). «وَحَزَقِيَّا هذَا سَدَّ مَخْرَجَ مِيَاهِ جَيْحُونَ الأَعْلَى، وَأَجْرَاهَا تَحْتَ الأَرْضِ، إِلَى الْجِهَةِ الْغَرْبِيَّةِ مِنْ مَدِينَةِ دَاوُدَ. وَأَفْلَحَ حَزَقِيَّا فِي كُلِّ عَمَلِهِ» (سِفر أخبار الأيّام الثّاني (32: 30)
رغم أنّ النقش لم يُشِرْ إلى سنة أو إلى ملك؛ يفترض الكثيرون أنّ النقش، كُتِب بواسطة حزقيّا، أو بأمر منه.
المنهجيّة التي تدّعي امتلاك الحدّ الأدنى من المقوّمات العلميّة، تفرض أوّلاً، تقصّي إن كان النصّ التوراتيّ يعود فعلاً إلى القرن الثامن قبل الميلاد، أو إلى مدة قريبة من ذلك، وضرورة عدم استبعاد أنّ تلك المداخلة أو الملاحظة المختصرة عن النفق، تعود إلى القرن الثاني قبل الميلاد، وأنّها أضيفت إلى أخبار أقدم منها. وهنا يكمن أحد هموم كتبة التوراة الذي يهدف إلى وضع الزمن المطلق في جغرافيّة محدّدة؛ لذا فالاحتمال قائم بأنّ أولئك الكتبة أخذوا خبراً متأخّراً، وربطوه بزمن سابق ليمنحوا كتاباتهم الجديدة شرعيّة تاريخيّة لا تمتلكها، أو بالعكس.
من الجدير بالذكر أنّ الفهم التقليديّ لتاريخ هذا النقش يتعرّض لتحدٍّ من داخل البيت نفسه؛ ويرى بعض الباحثين أنّ «نقش سلوان» يعود إلى الفترة الهلنستيّة. وقد نشر جون روجرسون وفيليب ديوس وهما من أشهر علماء الكتاب المقدس، بحثاً في أيلول 1996، في مجلّة علميّة أميركيّة شهيرة، هي «Biblical Archaeologist, Ameriecan Schools of Oriental Research» وهي مجلة متخصصة، ذكرا فيه أنّ هذا النقش في أصله يرجع إلى القرن الثاني أو الثالث قبل الميلاد، وليس من القرن الثامن قبل الميلاد. وبما أنّ هذا النقش يُعدّ مقياساً لجميع النقوش التي تدّعي أنّها من القرن الثامن قبل الميلاد، فهدم هذا الأساس يسبّب انهدام أشياء كثيرة جدّاً.
صرخة كاذبة
هكذا يتحول «الدليل الأثري» الذي يرفعه نتنياهو كسيف في وجه العالم إلى شاهد ضده. فالنقش ذاته، حين يوضع تحت مجهر البحث العلمي، لا يؤكد «يهودية القدس»، بل يكشف هشاشة الأسطورة التوراتية.
إن صرخة نتنياهو: «هذه مدينتنا!» تتناقض مع صمت الحجارة والأرض، التي تروي قصةً مختلفة تماماً. فالحفريات التي لم تتوقف منذ أكثر من قرن من الحفريات لم يعثر العلماء فيها على أثر واحد يربط رواية التوراة بالقدس.
الأخبار