قضايا وآراء

الإمارات بين السيطرة على جزر اليمن واستقدام إسرائيل إلى قلب باب المندب

أنيس منصور
"التطبيع مع إسرائيل ليس مجرد شأن ثنائي، بل جزء من شبكة مصالح أمنية تمتد إلى البحر الأحمر وباب المندب"- خرائط جوجل
"التطبيع مع إسرائيل ليس مجرد شأن ثنائي، بل جزء من شبكة مصالح أمنية تمتد إلى البحر الأحمر وباب المندب"- خرائط جوجل
يمكن النظر إلى ما كشفه التحقيق الاستقصائي الذي نشر، في مركز "هنا عدن للدراسات الاستراتيجية" بشأن الدور الإماراتي-الإسرائيلي في جزيرتي ميون (بريم) وزقر، وما يتصل به من تحولات في طبيعة السيطرة على المضائق البحرية اليمنية، بوصفه نموذجا مكثفا لطبيعة التحولات في النظام الإقليمي العربي في العقد الأخير.

فليست المسألة هنا مجرد خبر عن وجود قاعدة أو اتفاقية سرية، بل هي مؤشر على انتقال مركز الثقل من دول إقليمية كبرى إلى قوى وسطى تسعى إلى بناء نفوذ نوعي خارج أراضيها، مستخدمة الحروب الأهلية العربية كمنصات لتحقيق أهدافها.

تاريخيا، شكّل باب المندب وجزره اليمنية -ميون وزقر وسقطرى- عقدة جغرافية ذات أهمية إستراتيجية فائقة؛ السيطرة عليها تعني القدرة على التأثير في الملاحة بين البحر الأحمر والمحيط الهندي، ومن ثم التحكم في طرق التجارة والطاقة العالمية.

أمام مشروع أمني-استخباراتي يتجاوز الإمارات وإسرائيل؛ إلى بناء بنية تحتية للهيمنة على ممر دولي حيوي. في هذا السياق يصبح مفهوما لماذا لم تُطلع الإمارات حليفتها السعودية على التفاصيل الدقيقة لنشاطها في الجزيرة، بحسب الوثائق، فالتنسيق السري مع إسرائيل بعيدا عن علم الرياض يعكس أجندة إماراتية خاصة لا تندرج تلقائيا في إطار التحالف العربي

يمكن رصد ثلاثة مستويات في هذا المشروع: أولا، المستوى العسكري-الأمني الذي تجلّى في بناء بنى تحتية وقواعد ومطارات وحظائر للطائرات ومساكن للخبراء وغرف عمليات وسجون سرية. وثانيا، المستوى الاستخباراتي-التقني الذي يظهر في التعاون مع شركات متخصصة مثل "Janes Information Group"، وفي نصب أنظمة رصد واعتراض متطورة جُلها وارد من شركات إسرائيلية بعد اتفاقيات التطبيع. وثالثا، المستوى الاقتصادي-اللوجستي المتمثل في تحويل ميون إلى محطة ترانزيت وصيانة للسفن التجارية والحربية، تدر ملايين الدولارات شهريا خارج أي إطار قانوني يمني. هذا التعدد في المستويات يبيّن أن المسألة ليست عملية عسكرية عابرة، بل مشروع استراتيجي متكامل لإعادة تشكيل الجغرافيا السياسية في هذه المنطقة.

ما يعطي هذا المشروع بعده الأكثر حساسية هو انخراط إسرائيل فيه، فمحضر اجتماع تموز/ يوليو 2020 بين الوفدين الإماراتي والإسرائيلي في قاعدة عصب الإريترية؛ يكشف أن ثمة إدراكا مشتركا للأهمية الاستراتيجية للجزيرة، وأن ثمة خطة للسيطرة على الموانئ وطرق التجارة، وإرسال قوات من دولة عربية لإخفاء الوجود الإسرائيلي وتجنيد سكان محليين وتزويد القاعدة بالمؤهلات اللازمة. أي أننا أمام مشروع أمني-استخباراتي يتجاوز الإمارات وإسرائيل؛ إلى بناء بنية تحتية للهيمنة على ممر دولي حيوي. في هذا السياق يصبح مفهوما لماذا لم تُطلع الإمارات حليفتها السعودية على التفاصيل الدقيقة لنشاطها في الجزيرة، بحسب الوثائق، فالتنسيق السري مع إسرائيل بعيدا عن علم الرياض يعكس أجندة إماراتية خاصة لا تندرج تلقائيا في إطار التحالف العربي.

في الخطاب الرسمي، تقدم الإمارات نفسها بوصفها شريكا في التحالف العربي لدعم الشرعية في اليمن، هذا الخطاب يُغلفه ادعاء مكافحة الإرهاب وتقديم المساعدات الإنسانية وإعادة الإعمار. لكن التحقيقات الاستقصائية، والوثائق المسربة، والصور الجوية التي لا يمكن إنكارها؛ تكشف صورة مختلفة جذريا: بناء بنية تحتية عسكرية واستخباراتية واقتصادية على الجزر والموانئ اليمنية، واستخدام الهلال الأحمر الإماراتي كغطاء لأنشطة أمنية، وتعاون وثيق مع إسرائيل في مواقع استراتيجية بعد توقيع اتفاقيات التطبيع، ومحاولة تأجير أو "شرعنة" وجود طويل الأمد في جزيرة ميون. هذه ليست ممارسات دولة تحارب دفاعا عن "الشرعية"، بل سلوك قوة تسعى إلى اقتطاع موقع سيادي وتحويله إلى قاعدة نفوذ خاصة بها.

أسلوب الإمارات في ذلك يعكس مدرسة "الهيمنة الناعمة" في المنطقة: لا احتلال مباشرا بالمعنى التقليدي، ولا رفع رايات سياسية معلنة، بل بناء منظومات أمنية واقتصادية يشارك فيها مقاولون أجانب، من خبراء عسكريين أوكرانيين ومصريين، وشركات غامضة مسجلة في مناطق حرة، وتجنيد قوات محلية تحت مسميات يمنية. هكذا تتكون "قوة أمر واقع" لا تحتاج إلى رفع العلم الإماراتي حتى تكون فاعلة، وهذا ما يجعل من "الانسحاب الإماراتي" من اليمن مجرد إعادة تموضع لا أكثر: القوات النظامية تُستبدل بوكلاء محليين يدينون لها بالولاء المالي والسياسي، فيتحقق الهدف ذاته دون تحمل الكلفة السياسية المباشرة.

جزيرة ميون تقدم المثال الأوضح: موقعها في قلب مضيق باب المندب يجعلها نقطة تحكم في واحد من أهم ممرات التجارة والطاقة العالمية، ومن يسيطر عليها يستطيع مراقبة ناقلات النفط والسفن التجارية القادمة من قناة السويس وإليها. في الوثائق، نجد تفاصيل دقيقة عن بناء مطار عسكري موسع، وحظائر طائرات، ومساكن للخبراء، وغرف عمليات بحرية، ومنصات مراقبة، وورشات طبية، بل ونقل نظام باتريوت إسرائيلي إلى الجزيرة. هذه ليست تجهيزات لعملية عسكرية عابرة، بل لبنية تحتية دائمة. والتمويل جاء بعشرات ملايين الدراهم خلال أشهر قليلة، بما يشمل رواتب ومصاريف رقابة وبناء سجون سرية. حتى الهلال الأحمر الإماراتي، الذي يُفترض أنه ذراع إنساني، ورد ذكره في الوثائق كغطاء لمشاريع أمنية وتجسسية.

اقتصاديا، حولت الإمارات ميون إلى محطة ترانزيت وصيانة سرية للسفن الحربية والتجارية. التحقيق يوثق بناء رصيف بحري باستخدام وحدات مسبقة الصنع أُنزلت من سفن لوجستية إماراتية منذ 2017، وأصبح لاحقا محطة صيانة تقدم خدمات لسفن تحمل أعلاما مختلفة؛ بينها ناقلات نفط سعودية. الرسوم المفروضة تتراوح بين 80 و200 ألف دولار للعملية الواحدة، وتدر ملايين الدولارات شهريا تُحوَّل إلى حسابات في دبي دون أي رقابة يمنية أو دولية.

وفي الوقت ذاته، أقامت الإمارات في الجزيرة أنظمة رصد واعتراض إلكتروني متقدمة قادرة على التقاط إشارات السفن التجارية والعسكرية العابرة، جُلبت من شركات إسرائيلية عبر وسطاء. النتيجة: ميون تتحول إلى "منطقة حرة" ذات وجه عسكري، وقاعدة بحرية مغلقة تحقق أرباحا اقتصادية وتجسسية معا.

أما جزيرة زقر فتمثل الوجه الآخر لنفس المشروع. في أيلول/ سبتمبر 2016 تسللت القوات الإماراتية إليها، وبنت مدارج طيران وأبراج مراقبة ومخازن أسلحة وميناء صغيرا بوتيرة سريعة بعيدا عن أعين الحكومة اليمنية. في 2019 أعلنت أبو ظبي أنها سلّمت الجزيرة لخفر السواحل اليمني ضمن "إعادة الانتشار"، لكن هذه القوات كانت قد تلقت تدريبها وتسليحها من الإمارات وتتبع عمليا طارق صالح، أي أن السيطرة لم تعد للدولة اليمنية بل لوكيل إماراتي محلي. منذ ذلك الحين لم يُسمح لأي سلطة محلية أو مراقب دولي بدخول الجزيرة، فيما كشفت تحقيقات غربية عن سفينة مراقبة إماراتية راسية قربها تُستخدم كمركز عمليات عائم مزود بأجهزة تنصت ورادارات متطورة. كل هذا يؤكد أن سياسة أبو ظبي في زقر ليست معزولة، بل جزء من مشروع أوسع للسيطرة على الموانئ والجزر اليمنية من سقطرى إلى ميون، بذريعة الحرب على الحوثيين أو مكافحة الإرهاب.

هذا النمط يكشف بنية سياسية عميقة: الإمارات تحاول تعويض صغر مساحتها وسكانها بشراء النفوذ الإقليمي عبر السيطرة على نقاط استراتيجية في الجغرافيا العربية، مستفيدة من الفوضى والحروب وغياب الدولة. في اليمن، كان التدخل العسكري فرصة ذهبية لتحويل شراكة التحالف إلى مشروع خاص. في خطابها العلني، تدعم الشرعية؛ في ممارستها الفعلية تقيم قواعد، وتدير موانئ، وتدرب جيوشا محلية، وتستأجر الجزر لعقود، وتبني شبكات مراقبة بالتعاون مع إسرائيل. هذا هو "الاحتلال الناعم" في أبهى صوره: لا احتلال رسميا يثير الرأي العام الدولي، ولا ضم مباشرا، بل هيمنة بنيوية مستترة بأقنعة إنسانية وأمنية.

إلى جانب البنية العسكرية والاقتصادية، هناك البعد الحقوقي. تقارير هيومن رايتس ووتش والغارديان والأسوشييتد برس وثقت وجود سجون سرية واعتقالات تعسفية في المناطق التي تسيطر عليها الإمارات أو المليشيات المدعومة منها، بما في ذلك ميون. الوثائق تشير إلى بناء سجن سري من 16 غرفة في الجزيرة، وترميم السجن العام، وإنشاء ثلاثة سجون أخرى قرب المطار البحري، وتدريب الأفراد لحملة السجون، واستجواب السكان واعتقال الرافضين. هذه ممارسات قمعية تهدف إلى ترهيب السكان وإخضاعهم للسيطرة الإماراتية ومنع أي معارضة لوجودها وأنشطتها. هكذا يدفع السكان ثمن المشاريع الجيوسياسية: تعطلت أرزاقهم في الصيد والتجارة، وتضررت سكينتهم جراء عسكرة مدنهم وقراهم، وتعرض بعضهم لانتهاكات مروعة.

الإمارات دولة تستخدم ثروتها لشراء النفوذ العسكري والاستخباراتي في مناطق هشّة، وتتعاون مع قوى خارجية لبناء مشاريع استراتيجية، وتغلف كل ذلك بخطاب إنساني وأمني. في هذا النموذج، تتحول الجزر والموانئ العربية إلى أوراق تفاوض ومصالح

الخطورة أن هذا المشروع يجري وسط صمت حكومي يمني وتواطؤ إقليمي ودولي ضمني. لا توجد مساءلة حقيقية ولا شفافية من السلطة اليمنية، ولا ضغط شعبيا وإعلاميا كافيا لوقفه، ومع مرور الوقت، تصبح السيطرة الإماراتية واقعا اعتياديا في الوعي الوطني اليمني، وكأنها قدر لا فكاك منه. وهذا هو أخطر ما في "الاحتلال الناعم": أنه يطبع فكرة أن تُدار أرضك من وراء البحار، وأن تتحول الجزر السيادية إلى منصات لدول أخرى دون مقاومة.

المرحلة المقبلة ستكشف ما إذا كان اليمن قادرا على استعادة سيادته، فمع بوادر التهدئة الشاملة، يأمل أهالي المخا والساحل الغربي أن يعودوا إلى بحرهم وموانئهم دون حواجز المليشيات، وأن تُغلق السجون السرية وتُستبدل المدارس بالثكنات، لكن تحقيق ذلك مرهون بإنهاء لعبة تقاسم النفوذ الخارجي على أرضهم. فهل يشهد ما تبقى من 2025 خروجا فعليا للقوات الأجنبية بالوكالة وعودة المخا وميون وزقر إلى إدارة أبنائها؟ أم يدفع اليمنيون مجددا ثمن تسويات تتقاسم فيها القوى الإقليمية المغانم وتترك لهم المعاناة؟

التحليل الذي يفرضه هذا المشهد أن الإمارات دولة تستخدم ثروتها لشراء النفوذ العسكري والاستخباراتي في مناطق هشّة، وتتعاون مع قوى خارجية لبناء مشاريع استراتيجية، وتغلف كل ذلك بخطاب إنساني وأمني. في هذا النموذج، تتحول الجزر والموانئ العربية إلى أوراق تفاوض ومصالح، وتُهمش سيادة الدول الضعيفة، ويُختزل المواطن إلى مجرد عقبة أو عامل لوجستي في مشروع قوة أجنبية.

الوثائق المسربة حول ميون وزقر تعرّي هذه البنية بأكملها، هي تذكير بأن ما يُباع في الإعلام على أنه "دعم للشرعية" قد يكون في الواقع "احتلالا ناعما" يرسخ وجودا طويل الأمد. وهي تذكير بأن التطبيع مع إسرائيل ليس مجرد شأن ثنائي، بل جزء من شبكة مصالح أمنية تمتد إلى البحر الأحمر وباب المندب، وهي تذكير بأن الحرب على الحوثيين كانت أيضا فرصة لمشاريع نفوذ لا علاقة لها بالصراع الداخلي اليمني.

إذا كان من درس يمكن استخلاصه من هذا كله فهو أن استعادة السيادة يجب ألا تظل شعارا، وإنما عملية معقدة تتطلب مساءلة حقيقية، وشفافية، وضغطا شعبيا وإعلاميا محليا ودوليا. بدون ذلك، ستبقى ميون وزقر وغيرهما أمثلة حية على كيف تُسرق السيادة قطعة قطعة، وجزيرة جزيرة، في بلد مزقته الحرب وجعلته ساحة مفتوحة لحروب الآخرين ومشاريع النفوذ التي يُراد لها أن تبقى حتى بعد أن تصمت المدافع.
التعليقات (0)