قضايا وآراء

القلب الذكي والصارم والأنف الحميّ.. المعادلة المفقودة

عماد الدايمي
الدولة التي تحترم إنسانها وتضمن حقوقه وتطلق إمكاناته، هي وحدها القادرة على فرض احترامها في محيطها الإقليمي والدولي.. الأناضول
الدولة التي تحترم إنسانها وتضمن حقوقه وتطلق إمكاناته، هي وحدها القادرة على فرض احترامها في محيطها الإقليمي والدولي.. الأناضول
متى تجمع القلب الذكيّ وصارما
وأنفـا حمـيّا تجتنبـك المـــظالــمُ


بيت شعر بديع للشاعر الجاهلي عمرو بن برّاقة الهمداني، اقتبسه الرئيس السوري أحمد الشرع في خطابه القصير في القمة العربية الإسلامية الطارئة بالدوحة، التي جاءت ردا على العدوان الاسرائيلي الغاشم على الشقيقة قطر.

وبقطع النظر عن موقفي الشخصي من صاحب الاقتباس، تبادر إلى ذهني حال سماع البيت التمعن فيه وتنـزيله على واقع الدول العربية بصفة عامة، وبلادي تونس بصفة خاصة. فوجدت فيه دستورا متكاملا لارساء الدولة القوية والعادلة والفعالة المنشودة في أوطاننا.

هذا البيت القديم يقدّم ثلاث ركائز لا غنى عنها: عقل راجح وقوة رادعة وكرامة عزيزة، باعتبارها شروط لازمة لأي دولة تريد أن تصون العدل وتقي نفسها من المظالم بما تعنيه من : ظلم الداخل والتبعية إلى الخارج والهزائم  المذلّة المتكررة أمام الأعداء.

وعندما نتأمل حال أمتنا العربية اليوم، وحال بلادنا، نجد أن أزمتها العميقة تكـمن في غياب هذا المثلث المتوازن: العقل والقوة والكرامة.

العقل الاستراتيجي الغائب

القلب الذكي، حسب ما أفهمه، هو بوصلة الدولة أو رؤيتها الاستراتيـجية. بمعنى آخر هو العقل السياسي الرشيد: العقل الذي يميّز بين الجوهر والأمور الهامشية، والذي يتجاوز التفاصيل المعطِّلة ويرسم صورة المستقبل المنشود ويعمل على بناء جسر يقود إليه مع مراعاة الواقع دون الارتهان له. إنه يمثل عقل الدولة حين يخطط بوعي ويصوغ المستقبل بصفته مهندس البناء، ولا يكتفي بإدارة الواقع المرير واطفاء الحرائق.

وعندما يغيب هذا العقل أو يُقصى، كما هو الحال في منطقتنا، يندفع الحكم إلى منطق آخر تُهيمن عليه الاعتباطية والشعارات الشعبوية، ويتم استنزاف الموارد في إجراءات ظرفية قصيرة المدى هدفها تهدئة الشارع أو إرضاء دوائر النفوذ. ومع تراكم هذه المقاربة، ينحرف المسار عن المصلحة الوطنية العليا، ويصبح الفشل القاعدة لا الاستثناء، ينتج الأزمة من رحم الأزمة، ويُبقي الدولة عالقة في حلقة لا تنتهي من الارتجال والتراجع.

إن خارطة الطريق للخروج من هذا النفق، سواء في تونس التي انطلقت منها شرارة "الربيع العربي"، أو في أي عاصمة عربية أخرى تسعى للنهوض، تبدأ حتما من إعادة بناء هذا المثلث المفقود. عندها فقط، عندما يجتمع العقل المنظم والقوة العادلة والكرامة الأصيلة، يمكن أن تجتنبنا المظالم كما قال الهمداني: ظلم الداخل واستبداده، وظلم الخارج وهيمنته.
في تونس، تجسّد هذا الغياب بشكل صارخ. دولة الاستقلال بنت منظومة مركزية بيروقراطية ريعية قوية، لكنها لم تفتح الباب أمام طاقات المجتمع، ولم تستثمر في المستقبل، وفشلت في تحقـيق التنمية المنشودة. وعندما جاءت الثورة، كان من الممكن أن تنبعث عقلانية جديدة، لكن النخب ضيّعت البوصلة، فانشغلت بالصراعات الصغيرة بدل وضع مشروع جامع. واليوم، الشعبوية الحاكمة أنهت ما تبقى من السياسة، فغاب “القلب الذكي” تماما، وصارت البلاد بلا أفق وطني يوجّهها ولا مشروع جامع يوحّدها. ونفس الحال في عديد البلدان العربية ولو اختلفت المسارات.

انحراف قوة الدولة

الصارم في بيت الهمداني هو السيف القاطع. أظن أن الجميع ذهب إلى معنى القوة العسكرية الرادعة والامكانات الحربية التقنية منها والبشرية، بما فيهم صاحب الاقتباس نفسه. ولكن فكري يذهب إلى أن يراه في لغة الدولة الحديثة يرتقي إلى معنى أعمق وأكثر جوهرية: هيـبة القانون وقدرة مؤسسات الدولة على إنفاذه بعدل وحزم على الجميع. هذا هو سيف المؤسسات الصارم الذي لا يميّز بين قوي وضعيف، والذي يردع الفساد قبل أن يستشري، ويحمي حقوق المواطن وكرامته، ويضمن أن تكون سلطة الدولة هي المرجعية الوحيدة والنهائية.

في هذا المجال، ظلت التجربة العربية تتأرجح بين نقيضين: دول تمتلك سيفا باطشا يُستخدم ضد المواطنين بدل أن يحميهم. ودول فقدت سيفها كليا، فصارت عاجزة عن فرض القانون، فانتشر الفساد والتهريب وتفككت مؤسساتها.

تونس عرفت الوجهين معا: في عهد بن علي، كان السيف قمعيا، يفرض الخوف لكنه لا يبني وطنا. بعد الثورة، ارتخت قبضة الدولة حتى عجزت عن حماية القانون من لوبيات المصلحة ومافيات الفساد. واليوم، الخطاب الشعبوي يعيد رفع شعار “استعادة الدولة”، لكنه يسعى لتفعيل ذلك بغباء وتعثر عبر إحياء القمع لا عبر بناء مؤسسات قوية.

الصارم الذي نحتاجه هو مؤسسات رادعة وعادلة تساوي بين المواطن القـوي والضعيف، وتحمي الحقوق كما تحمي الحدود. بدون هذا السيف، تُفرغ الدولة من دورها، ويصبح المجتمع ساحة مفتوحة للفوضى.

تراجع الكرامة والسيادة

أما "الأنف الحميّ“، فهو يجسّد كرامة الدولة وسيادتها. وهذه الكرامة تتجاوز حدود الخطاب السياسي الحماسي لتتجذر في واقع مادي ومجتمعي صلب. إنها السيادة التي تنبع من اقتصاد منتج يطعم أبناءه، ومن عقول تبني مصانعها ومدارسها، ومن قرار وطني مستقل لا يُرهن ل“شركاء“ سياسيين وماليين أجانب أو يُباع في سوق التحالفات. الكرامة الحقيقية هي انعكاس مباشر لكرامة المواطن داخل وطنه.

فالدولة التي تحترم إنسانها وتضمن حقوقه وتطلق إمكاناته، هي وحدها القادرة على فرض احترامها في محيطها الإقليمي والدولي. وعندما تُفرغ السيادة من هذا المضمون، تتحول إلى مجرد شعار أجوف، يُستخدم للاستهلاك المحلي وإخفاء التبعية العميقة. تصبح "رفض الإملاءات" و“التعويل على الذات“ شعارات شعبوية فارغة، بينما تُكـتب القرارات المصيرية للبلاد بحبر الديون والقروض المشروطة في دول تستورد أكثر من نصف غذائها وتجاوزت نسبة الدين العمومي من الناتج المحلي في بعضها أو تكاد سقف 100٪. فالأنف الحميّ ليس قناعا يستر عورة الضعف، بقدر ما هو التعبير الطبيعي عن أمة قوية وعادلة ومكتفية بذاتها.

واقعنا العربي يكشف مفارقة مريرة: دول غنية مرتهنة للخارج بتبعيتها الاقتصادية وحمايتها العسكرية، ودول فقيرة وضعت سياساتها تحت وصاية مالية وسياسية، ودول تبيع قرارها السيادي مقابل حماية شكلية أو دعم قصير الأجل.

في تونس، رفعت الثورة شعار الكرامة، لكن بعد عقد من الزمن صار المواطن يشعر بالمهانة أمام إدارة بيروقراطية متعسفة واقتصاد منهار، وصارت الدولة نفسها فاقدة لأنفتها أمام الدائنين والضغوط الدولية. أما الخطاب الشعبوي الذي يرفع لواء “السيادة”، فهو يستخدمه ذريعة للعزلة والانغلاق، بينما الواقع يشهد على تعمّق التبعية لا تراجعها.

عندما يغيب المثلث

بيت الهمداني يذكّرنا أن غياب أحد الأركان الثلاثة يفضي إلى سقوط الدولة في أحد أمراضها القاتلة: بدون العقل تسقط في الشعبوية والفشل، وبدون القوة تنتكس إلى الفوضى والتفكك، وبدون الكرامة ترتهن إلى التبعية والانكسار.

الرسالة التي يوجّهها الهمداني إلينا بعد ألف وخمسمائة عام هي أن الدولة العادلة لا تتحقق إلا بتركيب ثلاثي متوازن: قلب ذكي بما يعنيه ذلك من عقل استراتيجي يقود الإصلاح، وسيف عادل يتجسد في مؤسسات قوية تفرض القانون بلا تمييز، وأنف حميّ يترجم إلى كرامة وطنية وسيادة حقيقية لا تخضع للبيع أو الابتزاز.
وهذا واقع معظم دولنا: دول تائهة بلا بوصلة، أو دول بوليسية بلا عقل، أو دول مستلبة بلا سيادة. وتونس اليوم نموذج حيّ لهذا التلاشي الثلاثي: غياب الرؤية وضعف القانون وانكسار السيادة.

نحو معادلة جديدة.. خارطة طريق للخروج من زمن الانكسار

الرسالة التي يوجّهها الهمداني إلينا بعد ألف وخمسمائة عام هي أن الدولة العادلة لا تتحقق إلا بتركيب ثلاثي متوازن: قلب ذكي بما يعنيه ذلك من عقل استراتيجي يقود الإصلاح، وسيف عادل يتجسد في مؤسسات قوية تفرض القانون بلا تمييز، وأنف حميّ يترجم إلى كرامة وطنية وسيادة حقيقية لا تخضع للبيع أو الابتزاز.

من هذا المنطلق يمثل بيت الشعر المذكر معادلة بقاء متكاملة. فأمة بلا عقل هي أمة متهورة، وأمة بلا قوة هي أمة مستباحة، وأمة بلا كرامة هي أمة منكسرة.

ويتجسد انهيار هذه المعادلة بشكل ملموس اليوم في المأزق التونسي، الذي كشف عن مدى هشاشة الدولة عندما تفقد بوصلتها الاستراتيجية وقوة قانونها وسيادتها الفعلية.

وفي أزمتها هذه، تعمل تونس كمرآة مكثفة لأزمة عربية مشتركة. فمن المحيط إلى الخليج، تتكرر فصول القصة ذاتها بدرجات متفاوتة: غياب الاستراتيجية الوطنية (القلب ذو الذكاء المنقوص)، وتآكل سلطة القانون لصالح أشخاص أو جماعات (السيف المكسور)، والتبعية الاقتصادية والسياسية التي تنخر في جسد الكرامة الوطنية (الأنف المهان).

ولذلك، فإن خارطة الطريق للخروج من هذا النفق، سواء في تونس التي انطلقت منها شرارة "الربيع العربي"، أو في أي عاصمة عربية أخرى تسعى للنهوض، تبدأ حتما من إعادة بناء هذا المثلث المفقود. عندها فقط، عندما يجتمع العقل المنظم والقوة العادلة والكرامة الأصيلة، يمكن أن تجتنبنا المظالم كما قال الهمداني: ظلم الداخل واستبداده، وظلم الخارج وهيمنته.
التعليقات (0)