كتاب عربي 21

تعقيب حول بيان الإيراد والإنفاق الأخير للمركزي الليبي

السنوسي بسيكري
 إن استمرار العجز وتآكل الاحتياطيات قد يغذي خطاب الانقسام ويقوض فرص الوصول إلى تسوية شاملة.. الأناضول
إن استمرار العجز وتآكل الاحتياطيات قد يغذي خطاب الانقسام ويقوض فرص الوصول إلى تسوية شاملة.. الأناضول
مع التأكيد على أهمية التزام المصرف المركزي بإصدار بيانات الإيرادات والنفقات بشكل دوري منضبط وتقديرنا لهذا الانضباط، الا هذا لا يمنع من متابعة مضامين تلك البيانات، خاصة وانها باتت تعطي مؤشرات مقلقة حول الوضع المالي والنقدي .

البيان الأخير الذي غطى شهر أغسطس المنصرم استلزم الوقوف عليه لما تضمنه من بيانات تتطلب التنبيه وتستدعي التصويب.

المؤشرات الأولية تؤكد أن الرياح لا تهب لصالح وضع اقتصادي أفضل، فالنفط لا يشهد تحسنا مهما في أسعاره، وسقف الإنتاج لا يتطور بشكل يصحح الخلل، فيما تشهد النفقات زيادة مضطردة، وإذا أضفت إلى ذلك الإخفاق في كبح الفساد ولجم الهدر، فإن الوعود بتعافي الدينار الليبي والسيطرة على ارتفاع سعر الدولار في السوق الموازي ستكون غير قابلة للتنفيذ إلا بمقدار محدود ولفترة محدودة.
بدأ الوضع مطمئنا بالنظر إلى إجمالي الإيرادات والنفقات خلال الثمانية اشهر محل النقاش، فقد تحقق فائض (الفروق بين إجمالي الإيرادات وإجمالي النفقات) بلغ نحو 13 مليار دينار ليبي، أي ما يعادل 2 مليار دولار أمريكي تقريبا، إلا إن الأرقام الواردة في بيان الايراد والانفاق الخاصة باستخدامات النقدي الأجنبي تظهر ان هناك عجز وعجز كبير،  وهذا يعكس تعقيدات وإشكاليات المالية العامة الليبية، فالمتصفح للبيان وغير الملم بتفاصيل مهمة تربكه البيانات التي تظهر الوضع المالي في عافية وسعة من جهة، وضيق وتأزيم من جهة أخرى.

وكالعادة تكشف الأرقام عن هشاشة واختلال بنية الاقتصاد الليبي، فالدخل مصدره الرئيسي النفط، وأظهر البيان ان مساهمة النفط في الإيرادات خلال الثمانية أشهر الماضية بلغت نحو 98% فيما تقاسمت نسبة 2% الضرائب والجمارك والاتصالات واخرى.

الخلل أساسي بالنظر إلى بنية النفقات العامة، فالمرتبات وما في حكمها سجلت نسبة 60% من إجمالي النفقات، وكذا الدعم الذي بلغ 24.3 مليار دينار ونحو 34% من إجمالي الإنفاق عن نفس الفترة.

المفارقة هي عن مبلغ النفقات على مشروعات وبرامج التنمية، فبرغم أن الجدل يدور في أروقة السياسة عن ما يذهب إلى تلك المشروعات إلا أن الرقم كان 403 مليون دينار.

الإيرادات والنفقات بالنقد الأجنبي خلال الفترة تظهر أن هناك عجز بلغ 5.9 مليار دولار، وهناك يكمن الخلل الأكبر،  ذلك أن النزيف في الاتفاق بالدولار مستمر وتراكم عجز هو زيادة شهر عن شهر وعاما عن عام، ما يعني أن الاستقرار المالي والنقدي ليس قريب المنال.

ما بعد هذا التقرير يفرض نفسه بإلحاح، فالأمر لا يقف عند حدود التوصيف أو عرض الأرقام، بل يتطلب أن تترجم هذه البيانات إلى إجراءات عملية تعزز الشفافية وتدفع نحو إصلاح جاد في السياسات المالية والاقتصادية.
المؤشرات الأولية تؤكد أن الرياح لا تهب لصالح وضع اقتصادي أفضل، فالنفط لا يشهد تحسنا مهما في أسعاره، وسقف الإنتاج لا يتطور بشكل يصحح الخلل، فيما تشهد النفقات زيادة مضطردة، وإذا أضفت إلى ذلك الإخفاق في كبح الفساد ولجم الهدر، فإن الوعود بتعافي الدينار الليبي والسيطرة على ارتفاع سعر الدولار في السوق الموازي ستكون غير قابلة للتنفيذ إلا بمقدار محدود ولفترة محدودة.

ما بعد هذا التقرير يفرض نفسه بإلحاح، فالأمر لا يقف عند حدود التوصيف أو عرض الأرقام، بل يتطلب أن تترجم هذه البيانات إلى إجراءات عملية تعزز الشفافية وتدفع نحو إصلاح جاد في السياسات المالية والاقتصادية. ذلك أن استمرار النهج القائم على المعالجات الجزئية وإدارة الأزمات بالحد الأدنى لا يمكن أن يضمن الاستقرار على المدى المتوسط والبعيد، بل سيضاعف من حدة التحديات ويجعل أي محاولة لاحقة للإصلاح أكثر كلفة وتعقيداً. المطلوب اليوم أن تتسع دائرة النقاش لتشمل المؤسسات الرقابية والتشريعية والخبراء المستقلين، حتى لا تتحول تقارير المركزي إلى مجرد وثائق دورية تحفظ في الأرشيف دون أثر فعلي.

أما عن انعكاس هذه الأوضاع على مسار المصالحة السياسية التي ترعاها بعثة الأمم المتحدة، فإن المعطيات الاقتصادية لا يمكن فصلها عن البيئة السياسية العامة. فاختلال المالية العامة وتراجع الثقة في قدرة الدولة على ضبط إيقاع الإنفاق والإيراد يضعف مناخ الثقة المطلوب لإنجاح أي عملية توافقية، ويمنح الأطراف المتنازعة مبرراً إضافياً للتشبث بمواقفها. بل إن استمرار العجز وتآكل الاحتياطيات قد يغذي خطاب الانقسام ويقوض فرص الوصول إلى تسوية شاملة. لذلك فإن أي مقاربة جدية للمصالحة لا بد أن تضع في حسبانها الإصلاح الاقتصادي كجزء أصيل من معادلة الحل، وإلا فإن فرص النجاح ستظل محدودة وهشة.
التعليقات (0)