كتاب عربي 21

النقابة والسلطة في تونس.. حرب شقوق لا حرب حقوق

نور الدين العلوي
لقد رميت في السياق جمل من قبيل الحفاظ على التوازنات السياسية وترجمتها تمليك النقابة لليسار لمواجهة الإسلاميين لفائدة السلطة طبعا خارج كل عمل ديمقراطي.
لقد رميت في السياق جمل من قبيل الحفاظ على التوازنات السياسية وترجمتها تمليك النقابة لليسار لمواجهة الإسلاميين لفائدة السلطة طبعا خارج كل عمل ديمقراطي.
"شاعلة بين الاتحاد والرئيس". هذه الجملة الأكثر تداولا في مقاهي تونس حيث يجلس المتفرجون على معركة لا يعنيهم فيئها. تسود في الشارع التونسي قناعة واسعة، ما يجري لا يتعلق بحياة التونسيين ولا بواقعهم الضنك. ينطلق أنصار الرئيس في وصلة ردح بذيئة ضد النقابة بينما ترفع النقابة الصوت جامعة في جملة واحدة بين كلام البطل الشهم وكلام الضحية المسكينة. وللنقابة ألسنة تتقن الجمع بين المتناقضات. تهدد النقابة بالاضراب العام. لكن لا يقابلها هذه المرة حكومات ديمقراطية حريصة على سلامة البلد ودوام مؤسساته بما فيها النقابة. يقابل التهديد بالإضراب تهديد بالمزيد من قضقضة مكاسب النقابيين (لا مكاسب النقابة أو الطبقة العاملة).

في الإضراب العام دعوة أو استجداء التعاطف الشعبي (نحن ندافع عن حقوقكم) لكن قطاعا واسعا من الجمهور فهم اللعبة واعتلى الربوة، النقابة في صف النظام وجوهر "نضالها" يصب له. إنما هناك خلاف حول المغانم وهذه ليست معركة الناس. إنها شقوق النظام تتصارع على مغانم يعاد توزيعها. لم تقبض النقابة ثمن إسنادها للانقلاب رغم صبرها الاستراتيجي عليه لمدة أربع سنوات. يعاد ترتيب المشهد الاجتماعي والاقتصادي دون اعتبار النقابة. نحن في مرحلة ينهي فيها الانقلاب تغول النقابيين على الإدارة. وهذا مكسب أخلاقي وسياسي له عجز دونه من سبقه.

مخنق النقابة بيد السلطة

تم إرساء تقليد تفاوضي منذ السبعينات. وضعت فيه الاتفاقيات المشتركة المنظمة لسوق العمل والتأجير. وصمدت هذه الاتفاقيات لكل اضطراب اجتماعي وتكرس بموازاتها موعد تفاضي دوري (كل ثلاث سنوات) على الزيادات في الأجور في القطاعين العام والخاص. عمل نظام بن علي بهذا الموعد الدوري. تعلن النقابة طلب زيادات عالية وتعلن السلطة نسبة 3 بالمائة. تدوم جولة التفاوض نصف سنة ثم يقرر بن علي شخصيا النسبة وتلحس النقابة خطابها وتبرر الأمر وتبالغ في تجميل المكسب وتؤجل المواعيد الثورية.

اشتغلت النقابة دوما كصمام للضبط الاجتماعي لفائدة السلطة مضللة الجمهور الواسع بالخطاب الثوري. ويمكن القول أن هذا أكبر درس تعلمته من الصدام الذي عاشته سنة 1978 ويقنت أنها لا تملك تحويل النقابة إلى حزب ثوري ماركسي لينيني يؤسس دكتاتورية البروليتاريا.
تعرف السلطة القائمة الآن هذا التاريخ وتتذكر جيدا أن النقابة تتحدث بلغتين واحدة نضالية لجمهورها وأخرى متواطئة مع السلطة تنتهي دوما بقبول أمرها. حكومات ما بعد 2011 إلى تاريخ الانقلاب لم تتبع أسلوب بن علي مع النقابة القائم أصلا على الاحتقار والاذلال فخضعت للإملاءات النقابية وخسرت نفسها. لكن السلطة العائدة وخاصة القوة الصلبة (بجانب الرئيس) ولمعرفتها بمكنون النقابيين وسبل عملهم تتجاوز الآن أسلوب بن علي نفسه. إعلان الزيادات دون إشراك النقابة في الأمر.

مع أول تململ نقابي قطعت السلطة القائمة في أمر ارتعبت منه حكومات الثورة وهو إنهاء التفرغ النقابي. وهي عملية كانت تقبل بها الإدارة وضع موظفين على ذمة النقابة لفترات غير محددة ليقوموا بمهاهم النقابية ويحافظون فيها على أجورهم وامتيازاتهم الوظيفية بما فيها المنح والترقيات وحتى كوبونات الأكل بالمطاعم. وترفع الآن الورقة الثانية وهي الأخطر إنهاء الاقتطاع من الأجور لفائدة النقابة وهي أيضا وسيلة ترويض قديمة منذ السبعينات تقوم الإدارة بمقتضاها باستخلاص مبالغ الاشتراك في النقابة من كل الموظفين وتحويلها لحساب النقابة وهي المصدر الأول لميزانية النقابة. وما زالت ورقة ثالثة بيد السلطة هي المنحة السنوية التي تقدمها السلطة لكل المنظمات المهنية بما فيها نقابات الأعراف وتصل أحيانا إلى ملايين الدينارات لكل نقابة. تحال إلى حساب المؤسسة النقابية. وخطاب التصعيد النقابي يوشك أن يثير حساسية السلطة وقواها الصلبة فتستعمل هذه الأوراق. وفيها حياة النقابة وموتها. هنا توجد لعبة كسر أذرع نرجح فيها انحناء النقابة وجنوحها إلى الصمت. وسيسمح لها بتصدير الجمل الثورية للجمهور. الجمل الثورية هامش محتمل.

تاريخ من تواطؤ النقابة مع السلطة

هذا يعيدنا إلى تاريخ النقابة ذات اللغتين. اللغة الثورية والتي يتقنها خاصة يسار النقابة وتصور النقابة كحام الشعب والقوى العاملة ومحررة فلسطين أيضا. واللغة التفاوضية التي لا يسمعها إلا الوزير المفاوض وأعضاده في المكاتب والتي تنتهي دوما بقبول مقترح السلطة.

في الأثناء تغلق النقابة منافذ كل احتجاج اجتماعي خدمة للسلطة. ويعرف العمال الذين يتابعون الآن المعركة من المقاهي حالات تواطؤ نقابات مع أصحاب مؤسسات ضد العمال مقابل مكاسب يعاينونها يتمتع بها نقابيون بلا خجل.

اشتغلت النقابة دوما كصمام للضبط الاجتماعي لفائدة السلطة مضللة الجمهور الواسع بالخطاب الثوري. ويمكن القول أن هذا أكبر درس تعلمته من الصدام الذي عاشته سنة 1978 ويقنت أنها لا تملك تحويل النقابة إلى حزب ثوري ماركسي لينيني يؤسس دكتاتورية البروليتاريا.

لقد استعمل اليسار النقابة وحكم بها خاصة بعد الثورة فإذا استغنت السلطة (والقوة الصلبة بالتحديد) عن النقابة فهذا باب يؤدي إلى موت اليسار إنها عملية افتكاك سلاح كان يجلب منفعة ومكانة وهو فاتحة تغيير للمشهد السياسي برمته.
أما في المعارك السياسية فقد كانت النقابة رديف الحزب الحاكم في معاركه ضد الإسلاميين. وقد باركت باسم الحداثة والتقدمية كل الضربات التي تعرض لها الإسلاميون منذ أول الثمانينات. فعلت ذلك بحماس في مجزرة التسعينات وقامت بكل "ثوريتها ضد حكومات ما بعد الثورة التي شارك فيها إسلاميون وآخر اصطفافاتها كان الوقوف مع انقلاب 25 جويلية وتهدئة الشارع لمروره وهضمه من قبل الجمهور الحائر. إذن لماذا هذه الغضبة الآن؟

سر الغضبة المضرية

الجمهور يعرف أنها غضبة ميكروفونات لن تبلغ الشارع. لقد حل موعد التفاوض وأعلنت السلطة تجاوزها لرأي النقابة بما يعنيه من تهميش بل إلغاء الدور والمكانة والمكاسب. وهذا مؤذن بإنهاء الوجود الرمزي وخاصة المادي للنقابيين. والاستغناء عن النقابة وإن لم يبلغ الأمر حلها أو تأدبيها بالمحاكم (وهو سيف مسلط بتهم فساد) يعني نهاية الدور السياسي للحزيبات السياسية اليسارية والقومية الكامنة فيها. سقوط المتراس اليساري والقومي وعدم إفناء النظام للإسلاميين في المقابل يعني الذهاب إلى مرحلة سياسية لا يملك فيها اليسار النقابي أية وسيلة للمشاركة السياسية وهو المرعوب من الصندوق الانتخابي.

لقد استعمل اليسار النقابة وحكم بها خاصة بعد الثورة فإذا استغنت السلطة (والقوة الصلبة بالتحديد) عن النقابة فهذا باب يؤدي إلى موت اليسار إنها عملية افتكاك سلاح كان يجلب منفعة ومكانة وهو فاتحة تغيير للمشهد السياسي برمته. قد تبلغ تونس مرحلة سياسية بيسار أعزل يهرب من الصندوق إلى انقلاب فيقوم الانقلاب بنزع سلاحه. لقد رميت في السياق جمل من قبيل الحفاظ على التوازنات السياسية وترجمتها تمليك النقابة لليسار لمواجهة الإسلاميين لفائدة السلطة طبعا خارج كل عمل ديمقراطي.

هنا نعثر على مفتاح اللعبة/ المعركة المزيفة. لسان حال النقابة يقول"ساندنا الانقلاب فاعطونا مكاسب ولو قليلة نصلب بها وضعنا ونعود إلى دورنا الذي احتاجته السلطة دوما أما حديث الديمقراطية فباب شر ساهمنا معكم في إغلاقه ونود الحصول على المكافاة". لنختم إن الخير الكامن في الشر يطل برأسه. السلطة تكسر سيفها من غرور، وهذه فاتحة حرية لشارع مل من الأكاذيب الثورية لليسار المزيف خادم السلطة.
التعليقات (0)