في لحظة مفصلية من تاريخ الشرق الأوسط،
التقى الرئيس الأمريكي دونالد ترامب بالرئيس السوري المؤقت أحمد الشرع في العاصمة
السعودية الرياض، في أول
لقاء علني بين رئيس أمريكي وزعيم من رحم الثورة
السورية.
مشهد بدا كأنه طيّ لصفحة سوداء امتدت لسنوات، وفتحٌ لمرحلة جديدة تعاد فيها كتابة
قواعد اللعبة السياسية في المنطقة.
اللقاء، الذي تم بحضور عدد من زعماء الخليج
والشرق الأوسط، حمل دلالات أبعد من كونه مجرد اجتماع سياسي؛ فقد مثّل إعلانًا
صريحًا بانتهاء عصر تصنيف القوى الثورية كقوى إرهاب، واعترافًا أمريكيًا بدور تلك
القيادات في صياغة مستقبل مستقر لسوريا والمنطقة.
الرئيس الشرع، الذي كان إلى وقت قريب يُطارد
بتهم “الإرهاب والتطرف”، ظهر بثقة وهو يضع أوراقًا سياسية متماسكة على الطاولة،
ويتحدث عن مشروع وطني جامع، يدمج بين العدالة الانتقالية، والمصالحة المجتمعية،
والسيادة الوطنية. واشنطن من جانبها، لم تكتفِ بالتصفيق، بل ذهبت أبعد من ذلك في
رفع العقوبات الأميركية المفروضة على سوريا منذ ما يقارب عقدين، وفتحت الباب أمام
استعادة الأموال المجمدة، والاندماج في النظام المالي الدولي.
150 يومًا… من الخراب إلى بدء التعافي
لم يكن لقاء الرياض حدثًا معزولًا، بل جاء
تتويجًا لسلسلة تحولات ميدانية وسياسية بدأت بعد سقوط نظام البعث في دمشق قبل خمسة
أشهر، عندما فقد النظام السيطرة الكاملة تحت ضغط الانتفاضة الشعبية وتكسر
التحالفات الإقليمية التي كانت تحميه.
في غضون 150 يومًا فقط، تحققت، وفق الإعلامي
السوري أحمد كامل، إنجازات ضخمة كانت قبل أشهر ضربًا من الخيال:
ـ رفع كامل للعقوبات الأمريكية والدولية.
ـ ارتفاع قيمة الليرة السورية إلى الضعف.
ـ عودة أكثر من 500 ألف لاجئ إلى سوريا،
و850 ألف نازح داخلي إلى مدنهم.
ـ استعادة 340 ألف نازح في المخيمات
لمنازلهم.
ـ تمثيل علم الثورة في الأمم المتحدة.
ـ اعتقال الآلاف من مجرمي النظام، وإفشال
انقلاب لإعادة إنتاج النظام في ذكرى الثامن من آذار.
ـ إطلاق سراح 22 ألف معتقل سياسي، وإفراغ
السجون من المعارضين.
ـ تفكيك الأجهزة الأمنية، وإلغاء التجنيد
الإجباري.
ـ وقف كامل للقصف والتهجير والكبتاغون
والاحتلال الإيراني.
ـ طرد الميليشيات الطائفية، والحد من الوجود
الروسي إلى قاعدتين فقط.
ـ استعادة الجنوب من قبضة إسرائيل
والميليشيات الموالية لها، وإنهاء مشروع التقسيم والانفصال.
سلامٌ مشروط… وصفقة غير مكتملة
ورغم كل هذه المؤشرات الإيجابية، إلا أن
كثيرين في الداخل السوري ينظرون بعين القلق إلى الثمن السياسي الذي يُطلب مقابل
هذا الاعتراف الدولي والرفع السريع للعقوبات.
فواشنطن تربط دعمها الكامل للمرحلة
الانتقالية بشروط أبرزها:
ـ التطبيع الكامل مع إسرائيل، ضمن رؤية
موسّعة لاتفاقيات إبراهيم.
ـ التنكر لشركاء النضال، وخاصة أولئك
المصنّفين كـ”أعداء واشنطن”، سواء من فصائل إسلامية قاتلت النظام، أو أطراف دعمت
المقاومة الفلسطينية.
ـ تعديل القوانين بما يتماشى مع رؤية غربية
محددة لطبيعة الدولة والدستور والهوية الوطنية.
هذه الشروط تُقرأ داخليًا كنوع من الابتزاز
السياسي، وتشكل ضغطًا متزايدًا على القيادة الجديدة، التي تجد نفسها محاصرة بين
مطالب الشارع الثوري وبين ضرورة التعاطي مع متطلبات الشرعية الدولية.
بين الاستقلال الحقيقي والسلام المشروط
لقاء الرياض لم يكن نهاية الطريق، بل
بدايته. وعلى الرغم من أن قرار ترامب برفع العقوبات عن سوريا قد مهّد الطريق نحو
مرحلة جديدة، إلا أن السلام القادم ليس خاليًا من الألغام. فالثورة السورية تقف
اليوم على مفترق طرق حقيقي: إما بناء دولة مستقلة بحق، أو الانزلاق في صفقات سلام
تُفرغ النصر من مضمونه.
يبقى السؤال مفتوحًا: هل يمكن للثوار أن
يوازِنوا بين الواقعية السياسية والحفاظ على المبادئ؟ وهل يقبل السوريون بسوريا
محررة من الأسد، لكنها مكبّلة بشروط الاحتلال والتطبيع والوصاية؟
الإجابات لم تُكتب بعد، لكن الأيام القادمة
وحدها ستكشف أي سلام ينتظر السوريين.
السعودية تتحول إلى صانع سلام إقليمي
نجحت السعودية، بقيادة ولي العهد الأمير
محمد بن سلمان، في تنفيذ رؤية استراتيجية أعادت دمشق إلى محيطها العربي، عبر جهود
دبلوماسية رصينة وتعاون دولي. رفع العقوبات الأمريكية عن سوريا جاء كخطوة تاريخية،
لكنه لم يكن بلا شروط مجحفة، لا سيما ما يتعلق بضرورة التطبيع مع الاحتلال
الإسرائيلي والتنكر لشركاء الكفاح والمقاومة ضد الاستبداد والاحتلال.
وفي الوقت الذي يتراجع فيه دور القاهرة في
السياسة الإقليمية، تبرز السعودية كقوة محورية تصنع توازناً جديداً، مستفيدة من
ثقلها الديني والسياسي والاقتصادي. تحرك الرياض لم يتوقف عند حدود سوريا، بل امتد
ليشمل السعي الحثيث لوقف الحرب في غزة، حيث ظلت المبادرة السعودية للسلام قائمة،
متبنية موقفاً معتدلاً تجاه حماس، تراعي فيه البعد الإنساني والسياسي، رغم الضغوط
الدولية والإقليمية.
ولم تأت هذه النجاحات دون تحديات داخلية.
فبينما تتوسع الرياض في نفوذها الإقليمي، يبقى ملف حقوق الإنسان والحريات السياسية
في الداخل بعيداً عن التطور الحقيقي. لا تزال الاعتقالات السياسية مستمرة، لا سيما
لمعتقلي الفكر الإسلامي المعتدل مثل سلمان العودة، الذين يمثلون صوت الوسطية
والاعتدال، في سجون لا تراعي مبادئ العدالة.
ويأتي هذا في ظل محاولة الدولة إعادة تشكيل
الهوية الوطنية تحت شعار محاربة التطرف، لكن الرهان على تغيير الهوية الاجتماعية
والثقافية للمجتمع السعودي عبر سياسات قسرية لن يحقق أهدافه المرجوة، وفق مراقبين،
بل قد يؤدي إلى مزيد من الاحتقان الاجتماعي والانعزال الشعبي. إذ لا يمكن فرض
تغييرات عميقة على مجتمع متجذر بقيمه وعاداته بهذه الطريقة.
وفيما يواصل محمد بن سلمان تحوله من شخصية
مستهدفة دولياً عقب ملف جمال خاشقجي إلى صديق وحليف رئيسي للولايات المتحدة، تستمر
السعودية في لعب دور قيادي على الساحة العربية، لكن طريقها نحو قيادة إقليمية
مستقرة يتطلب برأي مراقبين التوفيق بين نجاحاتها الخارجية وإصلاح واقعها الداخلي،
بما يعزز مصداقيتها ويصنع مستقبل سلام شامل ومستدام لشعوب المنطقة.
اظهار أخبار متعلقة