كتاب عربي 21

علماء الشريعة والسياسة.. بداية الإشكال وأخطاء الاشتباك

شريف أيمن
"كم عالما راسخا في مجال سقط لأنه تحدث دون علم في غير فنِّه وتخصُّصِه، وهذا ما ينبغي أن ينأى عنه حَمَلة الشريعة"أ ف ب
"كم عالما راسخا في مجال سقط لأنه تحدث دون علم في غير فنِّه وتخصُّصِه، وهذا ما ينبغي أن ينأى عنه حَمَلة الشريعة"أ ف ب
منذ قرن على الأقل ويوجد دعاة إلى إبعاد الدين عن الشأن العام، وقد تنامت هذه الدعوات مع ظهور المشروعات القومية ووصول الحكام العسكريين إلى الحكم، وصدامهم مع حركات سياسية ترتكن إلى الدين في مرجعيتها، ولعل أولها وأبرزها إلى الآن؛ جماعة الإخوان المسلمين. ولا يمكن فصل هذا التوجه السياسي للجماعة عن نشأة حركات سياسية دينية في الغرب، وأحزاب مسيحية أوروبية، وهو ما استهوى الشيخ الكبير الراحل حسن البنا، فأنشأ تنظيما يغلب عليه الطابع السياسي، رغم محاولته المزاوجة بين الهيكل الصوفي السائد في الثقافة الإسلامية لقرون سابقة، والهيكل السياسي للأحزاب المسيحية الأوروبية، وليته ما فعل.

كان الشيخ الراحل صاحب لسان طلق، وقدرة هائلة على الحشد والتجييش، وأراد -فيما يبدو- قطع الفصام بين الديني والسياسي الذي تعاظم -حينها- مع ظهور كتب مثل "الإسلام وأصول الحكم" عام 1925، وذيوع مظاهر التغريب الثقافي والقيمي، فأراد إنشاء تنظيم حديث مرتكن إلى أصالة حضارة الأمة، كما فعل محمد علي عندما أنشأ جيشا على النظام الحديث، وعلي مبارك عندما أنشأ كلية دار العلوم، وغير ذلك من المؤسسات القديمة التي بدأت حينها تكتسي بحلة الحداثة مهتدية بالأنماط الغربية، فأنشأ الشيخ الراحل حركة دينية بدأت بالشكل الصوفي الذي يشكِّل مجموعات من نقباء يجمعهم مرشد عام للطريقة، ووضع نظام الأذكار مهتديا بالوظيفة الزَّرُّوقِيَّة للشيخ أحمد زَرُّوق الفاسي، وجعل لهم وِرْد رَابِطَة كالصوفية الذين يستحضرون هيئة الشيخ عند الدعاء بالوِرد، وما إلى ذلك من الصور الصوفية الطيبة.

وال نحو قرن من مسألة وجود الدين في الشأن العام تشكَّلت أفكار وممارسات، لكن السمة التي وُجدت في الأغلب الأعم من المنتسبين إلى الشريعة، سواء كانوا تابعين للأنظمة أو معارضين لها أو من الذين نَحَوْا إلى العنف أو الغلو في مسائل التكفير، أن جُلَّهُم يفتقدون إلى دراسة السياسة

بالطبع تحولت الجماعة مع مرور الزمن، خاصة مع انتقال الكثير من قادتها إلى السعودية في الخمسينيات وما بعدها، وأصبح عموم أفرادها أقرب للفكر الديني السلفي، مع مجافاتهم للسلفية في الجانب السياسي، وأصبحت الجماعة أقرب للخصومة مع الفكر الصوفي، لكن هذه مسألة ليست محل النقاش هنا.

الحاصل أن ما فعله الشيخ الراحل البنا اصطدم مع نظام الحكم في مصر، انتهى باغتياله -رحمه الله- ثم استمر النزاع مع الجماعة بعد انقلاب تموز/ يوليو 1952، وهنا بدأت العداوة مع الدين في الشأن العام تأخذ منحى أكثر سفورا، نتيجة الخلاف السياسي بين عبد الناصر والجماعة، خاصة عقب أزمة آذار/ مارس 1954 التي انحاز الإخوان فيها إلى محمد نجيب ومطالبه الديمقراطية. ونكَّل عبد الناصر بمواطنين مصريين بذريعة الخلاف السياسي، على نحو لم يُعهَد في المجتمعات العربية، وحذت أنظمة القمع العربية حذوه. ولا يزال الصراع مستعرا بين الجماعة والحكَّام العرب إلى يومنا هذا، ولم تسلم أي حركة أو حزب سياسي ديني من الاكتواء بنيران الاستبداد، سواء كانت مصيبة في قراراتها أم مخطئة، فالعلاقة بين الدين والشأن العام باتت علاقة صراع فقط، وأحسب أن ما سبق يمثِّل جذور هذا الصراع وبدايته.

فَهِمَ الحكَّام أن الهجوم على التنظيمات الدينية ينبغي أن يكون بالثقافة نفسها التي ينطلق منها رجال الحركات السياسية الدينية، فاستمالوا إليهم شيوخا ينافحون عما تدعو إليه الأنظمة الحاكمة، أيّا كان ما تدعو إليه، فأصبحت هناك فتاوى ومواقف لرموز دينية متضاربة، إحداها تدعو إلى أمر، والأخرى تجافيه وتعاديه، لتدخل المسألة الدينية في صراع يشعله الاستبداد، ووقوده دعاة السلطان من جهة وغير المختصين من أبناء الحركات السياسية الدينة من جهة أخرى، ويكتوي المجتمع بهذه النيران.

طَوال نحو قرن من مسألة وجود الدين في الشأن العام تشكَّلت أفكار وممارسات، لكن السمة التي وُجدت في الأغلب الأعم من المنتسبين إلى الشريعة، سواء كانوا تابعين للأنظمة أو معارضين لها أو من الذين نَحَوْا إلى العنف أو الغلو في مسائل التكفير، أن جُلَّهُم يفتقدون إلى دراسة السياسة، والمقصود هنا من ينشغل بالسياسة والكلام عنها لا المنكفئون إلى الدراسة والتدريس.

فمثلا حديث مفتي الجمهورية في مصر الذي انتقد فيه دعوات الجهاد، كان خادما بصورة واضحة لرؤية الكيان الصهيوني، من جهة الدعاية لقوته وقوة الدول الداعمة له، فقال بيان الإفتاء: "إن الدعوة إلى الجهاد دون مراعاة لقدرات الأمة وواقعها السياسي والعسكري والاقتصادي، هي دعوة غير مسؤولة وتخالف المبادئ الشرعية التي تأمر بالأخذ بالأسباب ومراعاة المآلات، فالشريعة الإسلامية تحث على تقدير المصالح والمفاسد، وتحذر من القرارات المتسرعة التي لا تراعي المصلحة العامة، بل قد تؤدي إلى مضاعفة الضرر على الأمة والمجتمع". وما قدمه اليمنيون طوال معركة إسناد غزة يكذِّب تماما هذه الرواية الغربية، بوقوفهم أمام الأمريكان والإنجليز وكيان الاحتلال.

كذلك، نجد دعاة من المعارضين لأنظمة الحكم القمعية، يتخذون مواقف سياسية شديدة الخطأ، وهي مواقف لا تُحصى في الفترة ما بين 2011 و2013، وهذه المواقف تسببت في انتكاسة كبرى لمصر وللمنطقة، وآخرها كان مؤتمر دعم سوريا، ورغم أن كثيرا من المواقف قد لا يكون خطأ من نواحٍ عديدة، لكن سوء التقدير السياسي للظرف، قد يؤدي إلى مفاسد دينية ودنيوية لا حصر لهما، ومصر خير شاهد على ذلك.

ربما يشترك دعاة السلطان ومعارضوهم من الدعاة في مطلب منع الإفتاء لغير المتخصص، وهو مطلب ضروري لضبط الفتوى، ومع ذلك، ينبغي على المنشغل بالشأن العام من المنتسبين إلى حَمَلَة الشريعة أن يحترموا التخصص في العلوم الاجتماعية، ومنها السياسة، فحديثهم بغير علم إما أن يؤدي إلى فساد بسبب اتباع جماعة لهم، أو إلى إسقاط حملة الشريعة من أعين الناس، فلا ينتفعون منهم ولا من وعظهم، وهذا بدا في مصر أيضا، عندما تورط دعاة وعلماء في قضايا سياسية، واستدرجهم المستبدون في قضايا تُسقطهم من أعين الناس، فاستباح بعض الناس المنابرَ وحُرْمَتَها، وأهانوا الخطباء على المنابر لتورطهم في شؤون سياسية كان ينبغي عليهم إما اجتنابها أو صياغة خطابهم بتوازن.

التخصص في كل علم مطلوب، والتخصص لا يعني احتكارَ العلم أو دراستَه أو التحدثَ فيه، لكن من أراد أن يتكلم فعليه أن يتكلم بوعي، وإذا كان رجل الشارع البسيط لا يأبه بالقواعد العلمية في أي مسألة بما فيها المسائل الطبية، فإن حامل المسؤولية والمتصدِّر لا ينبغي عليه أن يساوي نفسه بغيره ممن لا يحرِّك كلامه أحدا

صحيح أن الحديث في السياسة ليس حكرا على أحد، ومن حق الجميع أن يبدي رأيه، لكن الحقوق مقيدة بحسب المقام والمكان، فالمسؤول يضبط خطابه كي لا يتسبب في أزمة، ومن يقف في مسجد لا يتحدث كمن يتحدث في مقهى، ومن يمارس دعاية سياسية في نقابة أو في الشارع له الحق في ذلك، ومن يقوم بدعاية سياسية في بيوت الله ربما يقع في مخالفة قول الله: "وأن المساجد لله فلا تدعو مع الله أحدا".

القصد أن المقام والمكان يحتِّمان على المتحدث مراعاتهما، وحَمَلَة الشريعة يحملون أعظم رسالة، ولا ينبغي عليهم أن ينخرطوا فيما يمس مقام الدعوة أو بيوت الله، وذلك دون مساس بحقهم في التكلم في الشأن العام، ودون فصل بين الدين والسياسة، فالسياسة لا يمكنها أن تكون منفصلة عن قيم تحكمها وتضع لها الحدود لضبط الممارسة، والعالم بأسره يستمد السلوك السياسي من التنظير، وبعض التنظير يرجع إلى أرسطو وأفلاطون من قرون سحيقة، ولن يجد البشر قيما أكثر حكمة أو عدالة مما شرعه خالق الخلق، الذي يعلم بما يصلحهم معاشهم ومعادهم.

إن التخصص في كل علم مطلوب، والتخصص لا يعني احتكارَ العلم أو دراستَه أو التحدثَ فيه، لكن من أراد أن يتكلم فعليه أن يتكلم بوعي، وإذا كان رجل الشارع البسيط لا يأبه بالقواعد العلمية في أي مسألة بما فيها المسائل الطبية، فإن حامل المسؤولية والمتصدِّر لا ينبغي عليه أن يساوي نفسه بغيره ممن لا يحرِّك كلامه أحدا، وكم عالما راسخا في مجال سقط لأنه تحدث دون علم في غير فنِّه وتخصُّصِه، فَبَدَا وكأنه أقرب للحمق فيما ولج فيه وهو غير خبير، وهذا ما ينبغي أن ينأى عنه حَمَلة الشريعة، إذ إن قيمتَهم مكتسبةٌ مما يبلّغونه عن الله، ومن وقوفهم على منابر المساجد، وإهانتهم تفتح الباب لإهانة التراث الفقهي وإهانة المنابر. وهذه مسؤولية كبيرة سيقفون بها أمام الله، سواء كانوا ممن باعوا دينهم لأجل دنياهم، أو كانوا يخوضون في قضايا لا علم لهم بها فتسببوا بانتقاص الناس للشريعة وأهلها.
التعليقات (0)

خبر عاجل