مقالات مختارة

رسائل تاريخية من السجون التونسية

محمد كريشان
إكس
إكس
سلسلة من الرسائل خرجت الأسابيع الأخيرة من السجون التونسية، ونشرتها عديد المواقع والمنابر، فكانت شهادات تاريخية على مرحلة من أقسى مراحل الحياة السياسية المعاصرة في البلاد.
أصحاب هذه الرسائل، التي تسلّلت بكبرياء من وراء القضبان، رموز بارزة في الساحة السياسية بعد نجاح الثورة التونسية مطلع 2011 أثروا سجالاتها وأحداثها، لكنهم اليوم جميعا في السجن بعد ما تم الانقلاب على مجمل التجربة فجاءت رسائلهم تشخيصا ناضجا لحال تونس اليوم.

في رسالته، يقول راشد الغنوشي زعيم حركة «النهضة» ورئيس مجلس النواب الذي حلّه الرئيس التونسي إن الديمقراطية كانت دائما «مشكلنا مع كل الأنظمة التي مرت على البلاد منذ الاستقلال ولا نزال حيث كنا، ننشد اللقاء مع الجميع على قاعدة تلك المبادئ، نلتقي لقاء الفكرة ولا نلتقي كلقائنا الآن: إسلامي، ليبرالي، يساري وغيره في السجون والمعتقلات، أو مشردون في دول العالم، تيارات اختلفت في رؤاها والتقت في سجون الدكتاتورية ومنافيها». ويضيف «هنا في سجن المرناقية (أناس) مختلفون لكن تجمعهم معارضة الدكتاتورية، فرقتهم السياسة وباعدتهم الإيديولوجيا وجمعهم سجن الدكتاتورية وقيود الاستبداد (…) يمينا ويسارا معتقلون بأمر من الدكتاتورية والحاكم المستبد على أنهم «إرهابيون» فمن يصدق أن هؤلاء إرهابيون؟!».

هنا يقول في رسالته، القاضي الإداري السابق والمحامي الحالي أحمد صواب الذي أثار اعتقاله موجة غضب واسعة عن اتهامه بالإرهاب «هل لها (أي السلطة) أن تختار إرهابيّيها على مزاجها… من لا يريد الفهم فلن تفحمه البداهة ومن يريد الإقصاء فلن يعدم التّعلاّت ومن يعجز عن مواجهة الحجّة فلا يبقى له غير استهداف صاحبها».

وفي نبرة تفاؤل وأمل يقول عصام الشابي زعيم الحزب الجمهوري في رسالته «‏سنواصل طرق أبواب الحرية إلى أن نفتح أبوابها وترفرف رايتها عاليًا فوق ربوع هذا الوطن، و‏لن ترهبنا محاكماتهم الصُوريّة ولا معتقلاتهم، فالاستبداد قوس لا بدّ أن يُغلق، وهو حتمًا إلى زوال»، مضيفًا أن «تونس تستدعي منا توحيد جهودنا جميعًا دون تأخير، حتى تشرق فيها شمس الحرية مجددًا».

الحكم الفردي المطلق لا يمكن له إلا أن ينتج الدمار والمعاناة ولا حل له سوى تعليق فشله المفضوح على شماعة تسمى «الآخر»، دون حتى تحديد هوية هذا «الآخر»
 أما ما يحزن فعلا جوهر بن مبارك الأستاذ الجامعي في القانون الدستوري فهو، كما جاء في رسالته، «الفرصة الضائعة على الشعب التونسي ليكتشف الحقيقة الصادمة ويعرف، بعد أن تيقّن من فشل هذه المنظومة الغاصبة، في أيّ هاوية أخلاقيّة سقطت ليعرف حجم الكذب والنفاق والتزوير والخيانة والافتراء والمراوغة والتلاعب بذكاء التونسيين والمصالح العليا للوطن».

وفي رسالته من المعتقل يقول عبد الحميد الجلاصي القيادي السابق في حركة النهضة بلهجة لا تخلو من التحدي إنه «للتذكير فقط، حاكمنا بورقيبة وذهب وبقينا صامدين، وطلبت لي النيابة العمومية لدى المحكمة العسكرية بتونس في يوليو /تموز سنة 1992 الحكم بالإعدام وأمضيت 17 سنة، وما زلت حيّا أرزق. حاكمنا (اليوم) غريب الأطوار الذي جاء من العدم وسيعود إلى العدم وسنحافظ على البوصلة ونبقى واقفين». نفس التحدي جاء كذلك على لسان جوهر بن مبارك حين قال إنه لا يشعر حيال الأحكام الثقيلة التي صدرت ضده وضد الآخرين في ما يعرف بقضية «التآمر على أمن الدولة الداخلي والخارجي إلا بلامبالاة وعدم الاكتراث (…) كيف أكترث لأحكام أصدرتها هراوة خشبيّة أكلها السوس، ملقاة في ركن من أركان البناية الهاوية للعدالة الواهية، لا تنتظر سوى أن يرفعها مستبد غاصب ليضرب بها الأحرار».

خلت الرسائل من شكاوى تتعلق بظروف السجن القاسية لكن شريفة الرياحي الناشطة في المجال الإنساني، والتي تقبع وراء القضبان بسبب عملها في أوساط اللاجئين الأفارقة في تونس، اعترفت بالقول إن «سجني في حد ذاته لم يكن أسوأ التجارب، بل كان أسوأها حرماني من زيارة مباشرة مع طفليّ، اللذين أحدهما يبلغ من العمر عاماً والآخر ثلاثة أعوام (…) كما تم حرماني من إرضاع طفلتي التي كانت لا تتجاوز ثلاثة أشهر وقت اعتقالي. وظل ارتباطي بابنتي وإرضاعها مشروطًا بوجودها معي في السجن، في حين أنني طلبت حلاً بسيطًا للغاية، يتمثل في إرضاع ابنتي يوميًا في غرفة مخصصة، ثم إعادة تسليمها إلى أمي».

أما رضا بلحاج المحامي ومدير مكتب الرئيس الراحل الباجي قايد السبسي فيقول في رسالته إن «الحكم الفردي المطلق لا يمكن له إلا أن ينتج الدمار والمعاناة ولا حل له سوى تعليق فشله المفضوح على شماعة تسمى «الآخر»، دون حتى تحديد هوية هذا «الآخر»، حتى يبقي لنفسه دائما مساحة للمناورة وتعبئة هذا الوعاء الفارغ المسمى «الآخر» بمن يريد الانتقام منهم، فيتغير هذا «الآخر» بتغير احتياجات هذا النظام».

وفي رسالته توجه الطبيب لطفي المرايحي الأمين العام لحزب الاتحاد الشعبي الجمهوري والمرشح السابق لرئاسة الجمهورية إلى التونسيين بالقول»هل أنتم تاركون بلادنا تمضي بلا هدى تتلاقفها أكفّ أثبتت عدم أهليتها للقيادة تصر على إنكار عجزها وفشلها وتخبطها وأعمت بصيرتها مكابرتها ونهمها للسلطة وقدمت مصلحتها الذاتية الضيقة على المصلحة الوطنيّة؟»، فيما يلخّص القيادي المعارض غازي الشواشي المشهد كلّه بالقول إن «ما يمر بنا من محن ليس إلا مرحلة في مسيرتنا السياسية والإنسانية نحو العدالة والحرية. لطالما ذكرت أن اليأس ليس صديقنا، بل هو عدوّنا الذي يحاول أن يثنينا عن المضي قدمًا في سبيل الحق».
(القدس العربي)
التعليقات (0)