قضايا وآراء

بين ممارسة السياسة وممارسة الحياة

بحري العرفاوي
السلطة "تفشل وتفقد كل عوامل الاستمرار وكل ما يشفع لها؛ حين تمارس البطش وحين تجعل من الدولة رهينة"- جيتي
السلطة "تفشل وتفقد كل عوامل الاستمرار وكل ما يشفع لها؛ حين تمارس البطش وحين تجعل من الدولة رهينة"- جيتي
قد يبدو العنوان مثيرا، لكون السياسة هي فرع من فروع الحياة، ولكون من يمارس السياسة إنما هو بالنتيجة ممارسٌ للحياة، وهذا هو المنطق السليم وهذه هي طبيعة العلاقة بين السياسة والحياة.

ولكن، هناك فرق بين ما هو نظري متعلق بالمبادئ في كلياتها، وبين ما هو عملي تُنتجه بيئات وتجارب ومستويات شعوب ثقافيا وسياسيا وأخلاقيا.

تجاربنا في بلادنا وقد عايشنا حقبا سياسية متعددة وتجارب في الحكم متفاوتة المُدَد، مكّنتنا من الوقوف على قناعات ومن تحصيل استنتاجات ترقى إلى أن تكون "نظرية" أو "قاعدة" أو "عادات"، ولعل علم الاجتماع السياسي يكون أكثر تفصيلا وأعمق تحليلا لهذه الملاحظات العاجلة.

نشأنا على خطاب سياسي ثقافي ديني، تجتمع فيه السلطة والدولة والحكومة والرئاسة، فلا تفصيل ولا فصل ولا تنسيب، بل إننا إذ نقول "الحاكم" أو نقول الدولة أو نقول السلطة أو نقول الحزب، فإننا نقول شيئا واحدا، أي نقول تلك الأشياء مجتمعة. ثم أصبح الخَلط أخطر حين أصبح "الوطن" بعضا من تلك "الخَلطة"،
نشأنا على خطاب سياسي ثقافي ديني، تجتمع فيه السلطة والدولة والحكومة والرئاسة، فلا تفصيل ولا فصل ولا تنسيب، بل إننا إذ نقول "الحاكم" أو نقول الدولة أو نقول السلطة أو نقول الحزب، فإننا نقول شيئا واحدا، أي نقول تلك الأشياء مجتمعة
فصار عموم الناس لا يفرّقون بين السلطة والوطن ولا بين الحكومة والوطن ولا بين الرئاسة والوطن.

هذا "الخلط" الذي تتعمّده الحكومات المتعاقبة بما هي حزب حاكم، أنتج حرجا نفسيا لدى "جيل الوعي" بداية من أواخر الستينات إلى الآن، حرجا نفسيا لا يستسيغ أصحابُه مفردة "وطن" وهي تصدر عن مسؤول سياسي حاكم، بل وصار كل حديث عن تنمية أو تقدم أو انتصار أو فوز؛ لا يُنظَر إليه إلا باعتباره حديثا في خدمة الحكومة وفي دعم السلطة وفي تمديد عمر "الدولة" التي لا يجد فيها معارضو السلطة ذواتِهم بما هي مواطنة في مختلف دلالاتها.

سينشأ لاحقا شعورٌ قد لا يكون واعيا، وهو الرغبة في ألا يشهد الوطن أي إضافة على أيدي من يحكمونه ممّن ليسوا محل تقديرنا لاعتبارات مختلفة؛ قد تكون أيديولوجية وقد تكون مصلحية وقد تكون مزاجية.

وليس مهما بالنسبة لمن لا تقنعهم السلطة، إن كان فشلها سيعود بالضرر على الوطن وعلى الشعب وعلى المستقبل، أم كان سيُلحق ضررا فقط على تلك السلطة، المهم أنها تفشل وأنها تفقد كل عوامل الاستمرار وكل ما يشفع لها؛ حين تمارس البطش وحين تجعل من الدولة رهينة ومن الوطن رسما عقاريا خاصا بها تتصرف فيه كما يحلو لها دون استشارة أحد.

هذا "الحرج النفسي" ينغّص على أصحابه "بهجة" الحياة، فلا يُقبلون عليها ويمارسونها ويُسهمون في جعلها مُبهِجةً يبذلون من كل جهدهم (العقلي والروحي والعضلي) بما يفيد في خدمة الناس وفي تنمية الوطن وفي جعل الحياة أقل سوءا وأوفر فرصا للسعادة.

الوعي بالحياة يتجاوز الوعي السياسي، أو هو يشمله، وصاحبُه لا تُوقفه المشاكل السياسة عن ممارسة الحياة بما هي فعل دائم وإنتاج مستمر، وبما هي تجدد وإبداع وإخصاب وتهذيب وتفجيرٌ للأمل الكامن في أعماقنا فلا نيأس ولا ننهزم

هذا "الحرج النفسي"، غالبا يجعل أصحابَه ذوي نزعة انتظارية، ينتظرون تبدّل الأحوال لتبديل مواقفهم، وهم عادة يبحثون في كل خيبة أو فشل أو عطب عما يبشر بنهاية حكم أو سقوط رئيس أو انهيار سلطة. وهذه الظاهرة شهدناها بل وعشناها في السنوات الأخيرة لحكم بورقيبة وفي بدايات حكم بن علي، وها هي تتجدد عند كثيرين الآن منذ 2011.

كل الأنظمة السياسية زائلة، ولكن يجب ألا تمنعنا معارضتنا لها من ممارسة الحياة، حتى لا نجد أنفسنا في حالة بهتة أو صدمة حين يطالبنا الوطن بالتقدم لخدمته، وقد كنا تكاسلنا فلم نمتّن به علاقة إذ شغلتنا عنه معارك يومية في السياسة.

إن الوعي بالحياة يتجاوز الوعي السياسي، أو هو يشمله، وصاحبُه لا تُوقفه المشاكل السياسة عن ممارسة الحياة بما هي فعل دائم وإنتاج مستمر، وبما هي تجدد وإبداع وإخصاب وتهذيب وتفجيرٌ للأمل الكامن في أعماقنا فلا نيأس ولا ننهزم ولا نفقد الثقة بأنفسنا ولا بشعبنا.

إن "المشاكل" السياسية تظل "أعطابا" جزئية ما لم تتحول إلى "أزماتٍ"، المشاكل السياسية تتيح دائما فُرصا للنقد وللمراجعات وتوفر فرصا للتدارك لأنها في جوهرها أخطاء في التقديرات السياسية أو تعثّر في فنون الادارة ومهارات الأداء، أما الأزمات فهي أشبه ما تكون بـ"أوحال" يعتجن فيها الجهل بالحقد بالأنانية، وكلها خمائر للصراع بما هو ممزق للوشائج الاجتماعية ومخرب للعمران المدني ومهلك لكل مقومات الحياة.

x.com/bahriarfaoui1
التعليقات (0)

خبر عاجل