بم
تمتاز هذه الشريحة من الناس؟ نفروا في سبيل الله ثم خاضوا غمار السجون لسنوات
طويلة قضوها في القراءة والبحث والتربية والتزكية النفسية والخبرات
الأمنية والبصيرة السياسية والتبحّر في معرفة العدوّ لغة وسياسة واقتصادا وأمنا
وثقافة، وأهم من هذا كلّه أنّهم فقهوا الدين على محك التجربة والعمل فوصلوا إلى ما
لا يصل إليه النظريون، الذين تفقهوا بعيدا عن ساحات العمل والمواجهة.
الفرق
بين هؤلاء وهؤلاء ما بين السماء والأرض، وهذا ما علينا أن ننتبه له جيدا وأن نعلي
من شأن من فقهوا في الميدان وأن نأخذ ما وصلوا إليه. وسأضرب لذلك أمثلة، ولكن قبل
ذلك أودّ أن نعرّج على قول الله تعالى: "فلولا نفر من كل فرقة منهم طائفة
ليتفقهوا في الدين ولينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم لعلهم يحذرون"، وهنا نقف
عند استخدام كلمة نفروا حيث إنّها تستخدم لمن خرج للجهاد، فهذا الفهم الذي وصل
إليه المجاهدون من أحكام من عمق تجربتهم ومن صميم خبرتهم في الميدان، هو الفقه
العملي الذي وصلوا إليه في جهادهم ولو لم يخرجوا لما وصلوا إليه أو لبقي فهمهم
نظريا بعيدا عن الاستفادة من واقع تجربتهم وجهادهم.
لذلك
فإن واجب هؤلاء المفكرين والفقهاء أن يُعلّموا من لم يخرجوا في سبيل الله ولم
تتغبّر أقدامهم ولم تكتو أمعاؤهم الخاوية ولم يشتبكوا مع الأعداء، ولم
يدركوا كيف تتنزّل آيات آل عمران والتوبة والأنفال والأحزاب ومحمد على قلوب الرجال
وعند اشتداد الالتحام مع صفوف الأعداء. عسكريا وسياسيا وأمنيا وثقافيا، هناك مسائل
كثيرة لا تتضح أمورها إلا في ميادين العمل والمواجهة.
إذا
هناك فقه لا يصل إليه القاعدون بينما يصل إليه المجاهدون فيسبرون غوره ويستنبطون
منه الأحكام، هناك مستجدّات تواجههم فيجتهدون وغالبا ما يكون ذلك بشكل جماعي
ليصلوا إلى ترجيح ما يرون فيه صوابا، فالفقيه هنا ليس الذي يميّز بين المصلحة
والمفسدة، وإنما قد يوضع في مواقف ليرجح أقلّ المفسدتين ضررا أو ليرجح بين مصلحة
ومصلحة ليصل إلى أفضل المصلحتين. كثير من أهل الفقه لا يفقهون
السياسة ولا يسبرون
غورها، فإذا تحدّثوا في السياسة ظهر ضعفهم وجمودهم الذي لا يصيب الدين ولا
السياسة، وهم يعتقدون أنّهم خير من يجسّد المبادئ والعقائد والأصول الدينيّة
الثابتة، بينما الأمر يتطلّب الحنكة السياسيّة والمرونة التي تتعامل مع معطيات
المسائل المطروحة بما يصل إلى الصوابية والرشد والوصول إلى الأهداف المطلوبة.
وهناك
أيضا "ولينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم لعلّهم يحذرون" يصلون إلى القدرة
العالية على تحسّس المخاطر التي تتعرض اليها شعوبهم وأمتهم خاصّة الأمنية
والسياسية، ويعرفون كيف توظّف الإمكانات المحدودة في لتجنّب هذه المخاطر.
"لعلّهم
يحذرون" يُحذّرون قومهم بعد أن درسوا تفاصيل المعركة المحتدمة في ميادين
السياسة والأمن والثقافة، ومن خلال معرفتهم التفصيلية والعميقة لعقل عدوّهم وطريقة
تفكيره السياسية والأمنية ومعرفة ثقافته بكلّ أبعادها من باب "من عرف لغة قوم
أمن شرّهم". هم بذلك الانخراط في معركة الوعي يملكون قدرات عالية على أن
يحذّروا أمّتهم بعد هذا الرجوع العظيم من تلك الرحلة الطويلة في ميدان الفقه
العملي ومعركة الوعي مع هذا العدو الذي اشتبكوا معه من خنادق متقدّمة عمرا مديدا
هو فترة وجودهم في السجن.
باختصار،
هم الأكثر كفاءة وقدرة على قيادة طوفان الوعي وهم المؤهّلون ليكونوا المرجعية
العليا لمسائل كثيرة لن يفقهها على أصولها مثلهم خاصة ما لها علاقة في فقه الأولويات
ومتطلبات المعركة، لأن هذه المعركة ليست معركة بين جماعة أو تنظيم صغير اشتبك مع
المشروع الصهيوني المدعوم من كل طواغيت الشرّ في العالم، بل هي معركة الأمّة.
لقد
وصلوا على سبيل المثال إلى القدرة العالية على بناء الذات بامتياز، وهم متفرغون
لهذا الأمر في محاضن خاصة شكّلتها تجربتهم التربوية في السجون، بإمكانهم المساهمة
تربويا في كيف يكون البناء للشخصية القادرة على مواجهة مخاطر المشروع الصهيوني العالمي.
وصلوا
إلى الكفاءة العالية في معرفة تفاصيل العقل الصهيوني وثقافته وسرديّته، وكيفية
الاشتباك مع هذه الثقافة بكفاءة عالية واقتدار يحسم الأمر لصالح هويتنا الثقافية
ويحسن تحصينها ويعزّز من قدراتها على الاشتباك المنتصر.
وصلوا
إلى الكفاءة السياسية العالية في الاستفادة من قدرات الأمّة، ومعالجة تراكمات
سلبية جعلت من التناقضات المذهبية تطغى على المشتركات التي تصنع وحدة الأمة وتوظف
قدراتها كافة؛ بدل تبديدها في حالة من التخلّف
الفكري الذي يشتّت ويضعف بدل أن
يجمع ويوحّد، إضافة إلى أنها تملأ مساحات واسعة من الفضاء المعرفي والفكري في
نقاشات لا طائل منها سوى الشحن الطائفي والمذهبي المقيت.
وصلوا
إلى فقه السياسات الاستعمارية والاستفادة من تجارب كثيرة من المجتمعات البشرية
التي خضعت وتحرّرت، فساروا في الجغرافيا والتاريخ ليصلوا للاستفادة من كل التجارب
وطرق توظيفها لصالح قضيتنا وأمتنا.
ميادين
فكرية نهضوية كثيرة يستطيع هؤلاء الأسرى الفقهاء والمفكّرون أن يكونوا عناوين
واضحة ومنارات فكرية تنشر ضوءها على مساحات الفكر الواسعة بما يحقّق النهضة
الفكرية للأمّة، وبصراحة بما يقطع الطريق على الحالة الهلامية التي شكّلها كثيرون
ممّن يتصدرون الخطاب الإسلامي بعيدا عن فقه الواقع وفقه السياسة، يظنهم الناس
بقدراتهم العالية على الوعظ وحسن الخطابة والكلام في جوانب محددة من العلوم الدين
أنهم المؤهّلون للحديث في شئون السياسة والأمن والاقتصاد والعلاقات والتحالفات
الدولية، بينما هم في الحقيقة لا يحسنون صنعا ولا يملكون خبرة ولا تجربة ولا معرفة
في هذه المجالات. الفقهاء والمفكرون المشتبكون في الميادين هم الذين يُستمع إليهم
وهم المرشّحون لهذه النهضة الفكرية، وقد يكون ذلك بشكل جماعي كمؤسسات دراسية وهو
الأفضل.
أذكر
على سبيل المثال مركز حضارات الذي تشكّل من قبل مجموعة ممن تحدّثت عنهم، كان ذلك
وهم في السجن قبل الحرب، الآن أُفرج عنهم بالتبادل وننتظر منهم أن يكملوا الطريق
وأن يزوّدوا الناس بما وصلوا إليه: "ولينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم لعلّهم
يحذرون".