لا يمتلك هذا المقال تفسيرا واضحا لظاهرة الحدية السياسية التي وسمت
تاريخ سورية الحديث، سواء على مستوى الأفكار أو على مستوى المراحل التاريخية.
كانت سورية في مرحلة الاستعمار الفرنسي ومرحلة الاستقلال وما بعدها
بؤرة للأفكار السياسية والأيديولوجية المتعارضة، بل المتناقضة: الإخوان المسلمين
المؤمنين مقابل الشيوعيين المُلحدين، الليبراليين مقابل الاشتراكيين، القوميين
مقابل الوطنيين.
وفي كل أيديولوجيا من هذه الأيديولوجيات السياسية كانت الأفكار
متشنجة وحدية، فكل طرف اعتقد أنه يمتلك الطريق الحقيق الذي يؤدي إلى النهضة
والحداثة.
إن العقل الأيديولوجي الذي يمنع أو يُقنن الحريات الاجتماعية سرعان ما ينتهي إلى تقنين الحريات الأخرى، وهذا ما جرى في إيران تماما بعد الثورة الإسلامية، التي بدأت أولا بمحاصرة الحريات الاجتماعية ثم الحريات السياسية حين واجهت الدولة ليس التيارات العلمانية فحسب، بل أيضا التيارات الإسلامية المعارضة لنهج الثورة.
وبسبب هذه الأفكار من جهة، وهشاشة الدولة والمؤسستين العسكرية
والأمنية، انهار الاستقرار السياسي في البلد، وعمت الفوضى السياسية والعسكرية،
فكثرة الانقلابات العسكرية لدرجة مذهلة.
لكن هذه المرحلة من تاريخ سورية التي يمكن تحديدها من عشرينيات
القرن الماضي وحتى عام 1970، بأنها المرحلة الليبرالية ـ وفق معايير منطقتنا ـ حيث
توسعت الحريات السياسية والمدنية، وشهدت البلاد حراكا سياسيا قل نظيره في البلدان
العربية (باستثناء مصر) من تعدد الأحزاب والأيديولوجيات (ليبرالية، يسارية، قومية،
إخوانية) إلى تنوع الحراك المدني.
وكانت البلاد على موعد مع أول انتخابات ديمقراطية حقيقية عام 1954
نتج عنها برلمان فاعل على المستوى السياسي والاجتماعي والاقتصادي، هنا امتزجت
الليبرالية والديمقراطية معا، لدرجة يمكن وصف تلك المرحلة بالديمقراطية
الليبرالية، ومرة أخرى ضمن معطيات الإمكان التاريخي آنذاك، في بلد ما يزال يأنُ
بتاريخ مثقل من الهيمنة العثمانية الطويلة، وأكثر من عقدين من الاستعمار الفرنسي.
مع حافظ الأسد بدأت مرحلة مناقضة للسابقة، فما كان يعتبر ترياقا
للحياة السياسية تحول إلى داء لها، وبالتالي كان لا بد من إنهاء الفوضى السياسية
المتمثلة بالحريات وتأسيس الاستقرار السياسي في البلاد.
نشأ استقرار سياسي بفعل القوة العسكرية والأمنية، وليس نتاجا لتوافق
أو لنظام سياسي متطور، وكان من نتائج حكم الأسد على صعيد الليبرالية انهيار الجانب
السياسي منها وإطلاق العنان للجانب الاجتماعي منها: كُممت الأفواه السياسية فيما
تُركت الحريات الاجتماعية مفتوحة (اللباس، الزواج، المشروبات الكحولية.. إلخ).
وإذا ما استعرنا المنهج الماركسي في سيرورة التاريخ باعتبارها نفي
النفي، فإن المرحلة الثالثة التي أعقبت سقوط الأسد يجب أن تكون وفق الرؤية
الماركسية انعكاسا لتحول الكم الى كيف، أي إنتاج مرحلة جديدة تجمع إيجابيات
المرحلتين السابقتين، بحيث يجب أن تكون المرحلة الجديدة تتويجا للديمقراطية
والليبرالية على كافة مستوياتها: الجمع بين الحقوق المدنية والسياسية والاجتماعية
معا، إن الدولة هنا ستكون تجسيدا لتحقق المطلق في التاريخ حسب عبارات هيغل.
وحين يجري إسقاط النظام السلطوي أو الاستبدادي يحدث ارتفاعا في منسوب
الحريات المدنية والسياسية، فيما تبقى الحريات الاجتماعية على حالها.
غير أن الذي جرى منذ سقوط نظام الأسد في الثامن من ديسمبر الماضي
وحتى الآن، عبارة عن مفارقة تاريخية، حيث سُمح لليبرالية المدنية والسياسية
التعبير عن نفسها (حرية الكلام، حرية التظاهر، حرية التجمع، حرية تأسيس الحركات
والمنظمات.. إلخ)، بينما تم تحجيم الليبرالية الاجتماعية على مستوى الخطاب فقط حتى
الآن (إغلاق محال لبيع الكحول، عدم شرب الكحول في الفنادق وما شابهها، دعوة بعض
الشخوص المسيحيين لاعتناق الإسلام، دعوة البعض في الشوارع النساء إلى ارتداء
الحجاب).
يتحتم إعادة النظر بالإعلان الدستوري، فهو وإن كان يشكل حالة متطورة بالنسبة للعقل الإسلامي القائم على الحاكمية، إلا أن الواقع الاجتماعي والسياسي السوري يتطلب أكثر من ذلك، فهذا الإعلان قد يكون مقدمة لتطور سياسي لاحق، وقد يكون مقدمة لانتكاسات سياسية حادة.
وعلى الرغم من أن هذه الحالات تعتبر فردية، لكن المناخ الأيديولوجي
الديني السائد يشجع على مثل هذه التصرفات، وربما تتحول إلى سلوك شبه منظم.
وهذه مفارقة منطقية وتاريخية غريبة، إذ وفق منطق سيرورة التاريخ،
تكون الحريات الاجتماعية متواجدة دائما وإن بمستويات متعددة تبعا لثقافة
المجتمعات، في حين أن الحريات السياسية تكون ضعيفة جدا في الأنظمة السلطوية، أو
تكاد تكون منعدمة.
إن العقل الأيديولوجي الذي يمنع أو يُقنن الحريات الاجتماعية سرعان
ما ينتهي إلى تقنين الحريات الأخرى، وهذا ما جرى في إيران تماما بعد الثورة
الإسلامية، التي بدأت أولا بمحاصرة الحريات الاجتماعية ثم الحريات السياسية حين
واجهت الدولة ليس التيارات العلمانية فحسب، بل أيضا التيارات الإسلامية المعارضة
لنهج الثورة.
ويُخشى في إطار هذا العقل الحدي أن تنتهي الأمور في سورية إلى القضاء
على الحريات بكافة أنواعها، وبدون هذه الحريات، لا معنى للديمقراطية ـ إذا ما جرت
فعلا ـ، فديمقراطية من دون ليبرالية تؤدي إلى استبداد سياسي، وفي مرحلة مثل
المرحلة التي تمر بها سورية، سرعان ما يتم تأسيس الكاريزما التي تعلوا على
القوانين والدساتير.
هنا يتحتم إعادة النظر بالإعلان الدستوري، فهو وإن كان يشكل حالة
متطورة بالنسبة للعقل الإسلامي القائم على الحاكمية، إلا أن الواقع الاجتماعي
والسياسي السوري يتطلب أكثر من ذلك، فهذا الإعلان قد يكون مقدمة لتطور سياسي لاحق،
وقد يكون مقدمة لانتكاسات سياسية حادة.