كثيرا ما كان يطمح الرئيس الفرنسي إيمانويل
ماكرون، منذ استلامه الحكم منتصف العام 2017، أن يضع بلاده على خارطة الدول المؤثرة في المشهد العالمي، على شاكلة الولايات المتحدة الأمريكية وروسيا والصين، غير أن الرياح جاءت بما لا تشتهي السفن.
صحيح أن
فرنسا تعد من اللاعبين الدوليين الكبار، وهي عضو دائم في مجلس الأمن الدولي، لكن تأثيرها السياسي والعسكري يأتي في مرتبة متأخرة، لا تمكنها من صناعة السلام العالمي، أو حتى قيادة
أوروبا وحلف «الناتو»، بديلا عن غياب أو تراجع أمريكي في أداء هذا الدور.
منذ ولايته الرئاسية الأولى، حاول ماكرون جاهدا قيادة القاطرة الأوروبية، وأداء دور سياسي وعسكري أكبر من الذي تؤديه ألمانيا القوة الاقتصادية الأولى في أوروبا، وملء الفراغ الذي أحدثه انسحاب بريطانيا من الاتحاد الأوروبي في حزيران 2016.
في أيلول 2018، خلال خطاب ألقاه في باريس، دعا ماكرون إلى إنشاء جيش أوروبي موحد، ردا على تصريحات نظيره الأمريكي ترامب، التي قال فيها؛ إن بلاده لا يمكنها حماية أوروبا مجانا، وإن على الأخيرة حماية نفسها بأموالها وليس بالمال الأمريكي.
منذ ذلك التاريخ وحتى هذه اللحظة، لم تتمكن فرنسا من إنشاء جيش أوروبي موحد، والسبب أن الأولى غير قادرة على ممارسة دور القيادة في ظل إمكانيات سياسية واقتصادية صعبة، إذ إن توفر هذا الدور يتطلب أولا إرادة سياسية فرنسية موحدة، وهذا لم يحصل، وثانيا إنفاق الكثير من المليارات على تطوير الأسلحة والقدرات العسكرية الفرنسية والأوروبية، وهذا أيضا متطلب غير ناضج بعد.
ثم إن الحرب الروسية على أوكرانيا منذ ثلاثة أعوام، كشفت هشاشة الاتحاد الأوروبي على المستويَين السياسي والعسكري، إذ لم تتمكن الدول الأوروبية من إرسال العتاد العسكري الكافي لأوكرانيا حتى تقيها شر الحرب، ولولا الدعم الأمريكي لكانت كييف محتلة من جانب روسيا.
حرب أوكرانيا أثبتت أن أوروبا غير قادرة على الاعتماد على نفسها في مواجهة أي مخاطر وتهديدات كبرى، وأنها بحاجة فعلا إلى المظلة الأمنية الأمريكية التي ظلت تدعمها منذ الحرب العالمية الثانية وحتى هذه اللحظة، لكن ثمة تغيرات كبرى تحدث في هذا المربع من العالم.
حرب أوكرانيا أثبتت أن أوروبا غير قادرة على الاعتماد على نفسها في مواجهة أي مخاطر وتهديدات كبرى.
ترامب خلال فترة رئاسته الأولى، ظل «يتحركش» بأوروبا ويهددها حتى يقبض ثمن الحماية التي يؤمنها لها، وماكرون اكتفى بالكلام والتوعد، ولم يحدث أن وضعت فرنسا خطة متكاملة لقيادة أوروبا، سواء عبر بناء جيش موحد، أو حتى توحيد الجهود لتمكين التحالف العسكري بين دول «الناتو».
لم تكن تصريحات ماكرون الأخيرة بشأن استخدام المظلة النووية الفرنسية لحماية أوروبا جديدة، إذ سبق له أن تحدث في هذا الموضوع مرات كثيرة، وحديثه الأخير يبدو أنه موجه للاستهلاك الإعلامي، والغرض منه تلميع صورته أمام الرأي العام الفرنسي، وخارجيا القول بأن هناك رجلا قويا يمكنه الوقوف أمام روسيا وحضورها في أوروبا وعقيدتها النووية.
من الصعب على باريس إذا غابت واشنطن عسكريا عن أوروبا، أن تقوم بدور «سوبرمان» والتلويح بالسلاح النووي ضد روسيا، والسبب أنها أولا: تمتلك حوالي 290 رأسا نوويا، مقارنة بترسانة روسيّة تفوقها عددا بعشرات المرات، حوالي 6375 رأسا نوويا.
ثانيا: يمكن القول بأن فرنسا تركز على الردع النووي وحماية حلفائها في العمق الجغرافي الأوروبي، بينما تستخدم روسيا سلاحها النووي جزءا من استراتيجيتها العسكرية لحماية مصالحها والتلويح بالسلاح للتأثير في المشهد العالمي.
ثالثا: هناك فرق كبير بين القوتين الروسية والفرنسية لصالح الأولى، وعلى الرغم من تأثيرات الحرب على الاقتصاد الروسي، إلا أن روسيا ماضية بقوة في تحديث وبناء أسلحتها، ونلحظ أنها تُنوّع من إدخال طائرات جديدة وأخرى مُسيّرة وصواريخ باليستية قصيرة وطويلة المدى إلى ترسانتها العسكرية، حتى تلبي احتياجاتها الاستراتيجية والأمنية.
النتيجة أن أوروبا دون أمريكا، لن تكون قادرة على حماية مصالحها الاستراتيجية بالطريقة المطلوبة.
النتيجة أن أوروبا دون أمريكا، لن تكون قادرة على حماية مصالحها الاستراتيجية بالطريقة المطلوبة، وإن حاول الرئيس الفرنسي دفع نظرائه الأوروبيين إلى الاعتماد على أنفسهم، فإن ما ينقص أوروبا هو الإرادة السياسية للمضي في وحدة حال حقيقية، تؤدي في النهاية إلى إحداث فرق جوهري في القوة العسكرية.
ماكرون يُذكّر الاتحاد الأوروبي كثيرا أن عليه الاعتماد على نفسه، ويُذكّر نفسه هو الآخر أن عليه التقدم خطوات للأمام حتى يحقق الأمن والسلام لأوروبا، وفي الوقت نفسه يبقي الباب مفتوحا للترحيب بالحليف الاستراتيجي الأمريكي، حتى يظل حامي أوروبا.
أخيرا، مهما تحدثت أوروبا وماكرون عن بداية عهد جديد للتعاون الأوروبي، تظل أوروبا بحاجة إلى الولايات المتحدة حتى تدعمها في مواجهة التحديات والمخاطر الأمنية في الفضاء الأوروبي والعالمي، وتدرك أن عليها مغازلة ترامب ودفع الكثير حتى يصل الجميع إلى نقطة التلاقي.
(نقلا عن صحيفة الأيام الفلسطينية)