من مداخل الفهم في
الإصلاح هو ذلك المدخل اللغوي والأنساق
المرتبطة به. ويمكن تعريف "النسق اللغوي" بأنه انتظام مجموعة من
الدلالات أو الإشارات اللغوية في بنية واحدة. وإذا كانت اللغة لفظ
ومعنى، وكل دراسة لغوية لا بدّ أن يكون موضوعها الأول والأخير هو المعنى وارتباطه بأشكال
التعبير المختلفة، وبما أنّ الارتباط بين الشكل والوظيفة هو اللغة وهو صلة المبنى بالمعنى،
فإن ارتباط الدّلالة بالأنظمة اللغوية المختلفة هو ما يعكس نسقيّة اللغة، وما
ينصرف إلى ماهية النسق اللغوي، وأنواعه، وتجلّياتها الدّلالية.
ويعد
الاشتقاق أحد أهم مسالك أن الزيادة في المبنى زيادة في المبنى ضمن ما يمكن تسميته
بالسعة الاشتقاقية وما يترتب عليه من اتساع دلالي. والاشتقاق ظاهرة لغوية في اللغة
العربية، وهو مصدر من مصادر استخراج الكلمات والمفردات اللغوية في اللغة العربية. وكثيرا ما نرى أن معظم الكلمات
يمكننا أن نشتق منها أكثر من كلمة، كما نكتشف أنها ذات أصل واحد، ولها معنى تشترك
فيه، وهنا تأتي وظيفة الاشتقاق في اللغة، حيث إنه بواسطته نتعرّف على مفردات اللغة
التي تضيف الثروة اللغوية القيمة.
الاشتقاق
لغة؛ اشتق الكلمة من الكلمة: أخرجها منها؛ واصطلاحا: هو أخذ كلمة أو أكثر من كلمة أخرى.
الاشتقاق: يقول صاحب التعريفات في كتابه "هو نزع لفظ من آخر بشرط مناسبتهما معنى
وتركيبا ومغايرتهما في الصيغة"، وكما يقول الثعالبي "الاشتقاق من سنن العرب".
مع الاشتقاق يظهر اجتماع الألفاظ أي الكلمات، فيفسره الفيروز آبادي في قاموسه بقوله:
"الكلمات في اللغة العربية لا تعيش فرادى منعزلات بل مجتمعات مشتركات كما يعيش
العرب في أسرٍ وقبائل. وللكلمة جسم وروح، ولها نسب تلتقي مع مثيلاتها، فتشترك هذه الكلمات
في مقدار من حروفها وجزء من أصواتها".
كلمة
صلح في هذا الجذر الثلاثي لا تغادر تلك السنن والقوانين اللغوية والدلالية، فهي
تكون أسرة ممتدة وعائلة منتسبة وتوليدات مشتقة؛ ومن أفراد أسرتها الصلاح والإصلاح
والاستصلاح؛ والصلاحية والمصلحية والمصلحة والمصالح؛ والتصالح والمصالحة وإصلاح
ذات البين؛ والإصلاح والمصلح والصالح والصلوح والمصلوح؛ والإصلاحات. وهو جذر غني
ليس فقط في مبانيه، ولكنه ثري في معانيه المشتركة والمفترقة والمرتبطة والمنتسبة،
وكلها تشير الى مستويات عدة وأدوار منشدة الى بعضها فتتكافل رغم تمايزها وتتكامل
رغم اختلافها وتأتلف رغم تنوعها.
وإذا كان
المدخل اللغوي يقوم بدور تأسيسي في عملية التنسيب والتوليد اللغوي؛ فإن الدور الرحمي
والتراحمي في الثنائيات المقترنة والمتزاوجة لا المتصارعة والمتنافية والمتناقضة تشكل
مدخلا إضافيا لفهم الإصلاح والسياسة عندما يتزاوجا سكنا ومودة ورحمة؛ لذا ليس من المصادفات
ذلك الارتباط الكيان بين مفهومي الإصلاح والسياسة، حتى أنه يمكننا القول إن مفهوم
السياسة
مسكون بتضميناته الإصلاحية، ومفهوم الإصلاح مصبوغ بمكنوناته ودلالاته السياسية.
وفي
تعريف استثنائي للسياسة ومعاني صناعة السياسة يؤكد أبو زيد البلخي؛ أن المادة في
السياسة أمور الرعية التي يتولى الملك القيام بها، والصورة فيها إنما هي
المصلحة التي ينحو بفعله نحوها وهي نظير الصحة، لأن المصلحة هي صحة ما، والصحة مصلحة
ما، وكذلك المفسدة سقم ما، والسقم مفسدة، والفاعل هو عناية الملك بما يباشره من
أمور الرعية، وغرضه فيما يفعله هو بقاء المصلحة ودوامها، والشيء الذي يقوم له
مقام الآلة في صناعته إنما هو الترغيب والترهيب.
وفعل السائس
الذي هو نظير المعالجة من الطبيب ينقسم بكليته إلى قسمين: أحدهما التعهد، والآخر الاستصلاح. أما التعهد فحفظ المستقيم وأمور الرعية على استقامة وانتظام من الهدوء
والسكون حتى لا يزول عن الصورة الفاضلة، وأما الاستصلاح فرد ما عارضه منها الفساد والاختلال
إلى الصلاح والالتئام. ونظير هذا التعهد والاستصلاح في صناعة السياسة من صناعة الطب
-التي هي صناعة الأجساد- حفظ الصحة وإعادة الصحة، وكما أن الطب كله مدرج في هذين البابين، كذلك السياسة كلها مدرجة في نظيريهما، يعني التعهد والاستصلاح.
أما السياسة فشرعية، عادلة، وصلاح في مواجهة فساد؛ وهي
من مخرجات الشريعة؛ ومن له ذوق في الشريعة واطلاع على كمالاتها وأنها لغاية
مصالح العباد، في المعاش والمعاد، ومجيئها بغاية العدل الذي يفصل بين الخلائق،
وأنه لا عدل فوق عدلها ولا مصلحة فوق ما تضمنته من المصالح، وعرف أن السياسة
العادلة جزء من أجزائها وفرع من فروعها، وأن من له معرفة بمقاصدها، ووضعها
مواضعها، وحسن فهمه فيها لم يحتج معها إلى سياسة غيرها البتة، فإن السياسة نوعان: سياسة ظالمة فالشريعة
تحرمها، وسياسة عادلة تخرج الحق من الظالم الفاجر بعين الشريعة علمها من علمها
وجهلها من جهلها.
وقال
ابن عقيل في الفنون جرى في جواز العمل في السلطنة بالسياسة الشرعية أنه هو الجزم،
ولا يخلو من القول به إمام، فقال الشافعي لا سياسة إلا ما وافق الشرع، فقال ابن
عقيل: السياسة ما كان فعلا يكون معه الناس أقرب إلى الصلاح وأبعد عن الفساد،
وإن لم يضعه الرسول ولا نزل به وحي، فإن أردت بقولك إلا ما وافق الشرع أي لم يخالف
ما نطق به الشرع فصحيح، وإن أردت لا سياسة إلا ما نطق به الشرع فغلط، وتغليط
للصحابة. وهذا موضع مزلة أقدام، ومضلة أفهام، وهو مقام ضنك، ومعترك صعب، فرط فيه
طائفة فعطلوا الحدود وضيّعوا الحقوق وجرأوا أهل الفجور على الفساد وجعلوا الشريعة
قاصرة لا تقوم بمصالح العباد، محتاجة إلى غيرها، وسدوا على نفوسهم طرقا صحيحة من
طرق معرفة الحق والتنفيذ له، وعطلوها مع علمهم وعلم غيرهم قطعا أنه حق مطابق
للواقع، ظنا منهم منافاتها لقواعد الشرع.
ولعمر
الله إنها لم تناف ما جاء به الرسول، وإن نافت ما فهموه من شريعته باجتهادهم والذي
أوجب لهم ذلك نوع تقصير في معرفة الشريعة، وتقصير في معرفة الواقع، وتنزيل أحدهما
على الآخر، فلما رأى ولاة الأمور ذلك وأن الناس لا يستقيم لهم أمرهم إلا بأمر وراء
ما فهمه هؤلاء من الشريعة؛ أحدثوا من أوضاع سياستهم شرا طويلا وفسادا عريضا،
فتفاقم الأمر وتعذر استدراكه، وعز على العالمين بحقائق الشرع تخليص النفوس من ذلك
واستنقاذها من تلك المهالك.
وأفرطت
طائفة أخرى قابلت هذه الطائفة فسوغت من ذلك ما ينافي حكم الله ورسوله، وكلا
الطائفتين أُتيت من تقصيرها في معرفة ما بعث الله به رسوله وأنزل به كتبه، فإن
الله سبحانه أرسل رسله وأنزل كتبه ليقوم الناس بالقسط وهو العدل الذي قامت به
الأرض والسماوات، فإذا ظهرت أمارات العدل وأسفر وجهه بأي طريق كان فثم شرع الله
ودينه. والله سبحانه أعلم وأحكم وأعدل أن يخص طرق العدل وأماراته وأعلامه بشيء ثم
ينفي ما هو أظهر منها وأقوى دلالة وأبين أمارة، فلا يجعله منها ولا يحكم عند
وجودها وقيامها بموجبها، بل قد بين سبحانه بما شرعه من الطرق أن مقصوده إقامة
العدل بين عباده وقيام الناس بالقسط، فأي طريق استخرج بها العدل والقسط فهي من
الدين ليست مخالفة له، فلا يقال إن السياسة العادلة مخالفة لما نطق به الشرع بل
موافقة لما جاء به، بل هي جزء من أجزائه، ونحن نسميها سياسة تبعا لمصطلحكم، وإنما
هي عدل الله ورسوله ظهر بهذه الأمارات والعلامات.
والمقصود
أن هذا وأمثاله (من أفعال الخلفاء الراشدين) سياسة جزئية بحسب المصلحة يختلف باختلاف الأزمنة فظنها من ظنها شرائع عامة لازمة للأمة إلى يوم القيامة.
ولكل عذر وأجر، ومن اجتهد في طاعة الله ورسوله فهو دائر بين الأجر والأجرين. وهذه
السياسة التي ساسوا بها الأمة وإضعافها هي من تأويل القرآن والسنة، ولكن هي من
الشرائع الكلية التي لا تتغير بتغير الأزمنة من السياسات الجزئية التابعة للمصالح
فيتقيد بها زمانا ومكانا. وهذا كما لو كان للناس عدة طرق إلى البيت وكان سلوكهم في
تلك الطرق توقعهم في التفرق والتشتيت ويطمع فيهم العدو، فرأى الإمام جمعهم على
طريق واحد فترك بقية الطرق جاز ذلك ولم يكن فيه إبطال، لكون تلك الطرق موصلة إلى
المقصود وإن كان فيه نهي عن سلوكها لمصلحة الأمة. والذي اختص به إياس وشريح من
مشاركتهما لأهل عصرهما في العلم الفهم في الواقع والاستدلال بالأمارات وشواهد
الحال، وهذا الذي فات كثيرا من الحكام فأضاعوا كثيرا من الحقوق.
وبالنظر العميق في تعريف السياسة في الرؤية الإسلامية
نلحظ أن هذا التعريف فضلا عن أنه يعيد الاعتبار لمفهوم السياسة ويجعل من اتساعه
ورحابته حالة بنيانية لازمة أصلية في داخلية المفهوم غير طارئة عليه من خارجه،
بحيث تستوعب المستحدث من تحيل أو ميل أو انحراف أو توظيف أو تبرير، واقع الأمر أن
هذا المفهوم وجد عناصر رسوخه ضمن "صبغة" وصيغة" المقاصد. فالسياسة على
قول الإمام ابن القيم فيما ينقله عن أستاذه ابن عقيل "ما كانت معه الأمور
أقرب إلى الصلاح وأبعد عن الفساد"، ومناقضة السياسة بمفهومها القيمي تعني أن
تكون حال ممارستها أقرب إلى الفساد وأبعد عن الصلاح بمفهوم المخالفة، إنه "السوس"
الذي ينخر في الكيان فيفسده ويهدمه.
والمقاصد -وفق هذه الرؤية- تصبغ وتصوغ مفهوم السياسة
على شاكلة العشرية المقاصدية؛ القيام على الأمر بما يصلحه: مقدمات ومقومات
ومكونات، ومجالات، وحفظ، وأولويات، وموازين، وواقع، ومناطات ومآلات، ووسائل، قيم
وسياقات. والسياسة -وفق هذا التصور- ليست فنا أو أسلوبا أو صراعا، بل هي رعاية
متكاملة من قَبِل الدولة والفرد لكل شأن من شئون الجماعة.. والسياسة -وفق هذه
الرؤية- تتصف بالعموم والشمول، فهو مفهوم يخاطب كلَّ فرد مكلَّف بأن يرى شئونه
ويهتم بأمر المسلمين، بل يمارس عمارة الكون في سياق وظيفته الاستخلافية.
وعلى ما يؤكد "الراغب"، فإن السياسة -وفق
هذا التصور- تستند في تكييفها إلى حقيقة "الاستخلاف"، ذلك أن
الفعل المختص بالإنسان على ثلاثة أنحاء:
1- عمارة الأرض المذكورة في قوله تعالى: "وَاسْتَعْمَرَكُمْ
فِيهَا" (هود: 61)، وذلك تحصيل ما به تزجية المعاش لنفسه ولغيره.
2- وعبادته المذكورة في قوله تعالى: "وَمَا
خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ " (الذاريات:
56)، وذلك هو الامتثال للباري عز وجل بإطاعة أوامره ونواهيه.
3- وخلافته المذكورة في قوله تعالى: "وَيَسْتَخْلِفَكُمْ
فِي الأَرْضِ فَيَنظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ" (الأعراف: 129)، وذلك هو
الاقتداء بالباري سبحانه على قدر طاقة البشر في السياسة باستعمال مكارم الشريعة..
إن الخلافة تُستحق بالسياسة، وذلك بتحري مكارم الشريعة (أصولها القيمية). والسياسة
ضربان: أحدهما سياسة الإنسان
نفسه وبدنه وما يختص به، والثاني سياسة غيره من رعيته وأهل بلده. ولا يصلح لسياسة غيره من لا يصلح لسياسة نفسه "لاستحالة أن يهتدي المسوس مع
كون السائس ضالا..".
لا شك
أن تعريفا يأخذ بحسبانه كل تلك المعايير والأصول القيمية
يمكن أن يحرك عناصر جدول أعمال بحثي يختلف -إلى
حد كبير- في موضوعاته وصياغته وقضاياه، وأن إخراج "السياسي" و"الدولي" من دائرة القيم أسهم -بدوره- في تبسيط المعقد واختزال الفعل الحضاري المرتبط بهذا الحقل، فإن عمق الفعل السياسي يكمن في القيم
الكامنة فيه والمحركة له، وهو
ما يحرك أصولا داعمة للفعل الحضاري العمراني، ضمن
علاقات يمكن أن تشكل أصولا تقويمية لحركة النظام داخليا كان أم دوليا؛ مركزيا كان
أم غير مركزي؛ في مساراته ونمط تفاعلاته وعلاقاته.
وليس
ذلك من عيوب تأسيس العلم أو تكوينه، ولكن
هو -في حقيقة الأمر- يضمن عملية الوصل بين العلم ووظائفه، وبين العلم وغاياته ومقاصده؛ فيكون الإصلاح
في جوهره سياسة وتدبيرا؛ والسياسة في مكنونها ومقاصدها إصلاحا وتغييرا وتأثيرا، إنه
المشتل اللغوي الذي يضيف إلينا المعاني الناهضة في مشاتل الإصلاح والتغيير؛ فتكون
السياسة تعريفا ومقاما؛ قياما على الأمر بما يصلحه.
x.com/Saif_abdelfatah