شكلت جهود التوصل إلى هدنة بين الاحتلال الإسرائيلي وحركة المقاومة الفلسطينية "حماس" بعد أكثر من 15 شهرا من القتال، والتي دخلت حيز التنفيذ في 19 كانون الثاني/ يناير الماضي، أملا للمصريين في تحقيق بعض المكاسب بعد خسائر مني بها اقتصادهم الذي يعاني من الأساس أزمات بنيوية معقدة وأخرى هيكلية خطيرة، تفاقمت تبعاتها مع سياسات رئيس النظام عبدالفتاح السيسي، وفق مراقبين.
إلا أن تصريحات الرئيس الأمريكي دونالد
ترامب التي يرددها بشكل يومي منذ 25 كانون الثاني/ يناير الماضي، ويطالب فيها
مصر والأردن باستقبال مليوني فلسطيني من قطاع
غزة، بل وتهديده بالسيطرة الأمريكية الكاملة على القطاع، يثير موجات من القلق والتوتر مجددا في إقليم الشرق الأوسط.
قناة السويس، المصرية التي خسرت بسبب حرب غزة وفق تصريحات رسمية مصرية نحو 7 مليارات دولار في 11 شهرا من العام الماضي، تمثل إحدى أهم علامات عودة التوتر للإقليم.
إذ بقيت حركة مرور السفن والتجارة العالمية بها هادئة رغم استمرار الهدنة بين إسرائيل والمقاومة الفلسطينية منذ نحو 25 يوما، وتراجع هجمات الحوثيين في اليمن على السفن الإسرائيلية بالمدخل الجنوبي للبحر الأحمر.
وأعلنت هيئة القناة الاثنين الماضي، أن ناقلة النفط "كريساليس" التي ترفع علم ليبيريا عبرت البحر الأحمر، هذا الأسبوع.
"قناة السويس تدفع الثمن"
ويومي الاثنين والثلاثاء، تصاعدت حدة التصريحات المتبادلة بين حماس، وترامب، حيث قررت الحركة الفلسطينية المقاومة تأجيل تسليم الأسرى المقرر تسليمهم لإسرائيل السبت، ردا على عدم تنفيذ تل أبيب بنود الاتفاق، ما قابله ترامب بتهديد حماس، ومطالبتها بتسليم جميع الأسرى دفعة واحدة السبت المقبل.
وهو التصعيد الذي سبقه تأكيد شركات شحن عالمية أن تصريحات ترامب حول غزة، قد تبدد آمال عودة حركة الملاحة إلى طبيعتها في البحر الأحمر، حسبما نقلت
الاقتصادية البريطانية "فايننشال تايمز" عن مسؤولين تنفيذيين في صناعة الشحن.
رئيس مجموعة الشحن الدولية "نوردين" جان ريندبو، تحدث للصحيفة عن ثمة مخاطر "بألا يتوقف الحوثيون"، وقد يستأنفون الهجمات ضد السفن نظرا إلى أن تعليقات الرئيس الأمريكي قد تؤدي إلى انهيار اتفاق وقف إطلاق النار.
ولم تتحقق بعد آمال عودة حركة الملاحة عبر قناة السويس إلى سابق عهدها في أعقاب اتفاق وقف إطلاق النار، إذ لم يعبر إلا النزر اليسير من السفن البريطانية والأمريكية بأمان عبر البحر الأحمر بعد إعلان الحوثيين اقتصار هجماتهم على السفن الإسرائيلية فقط في أعقاب وقف إطلاق النار.
ولا تزال شركات الشحن العملاقة مثل "ميرسك"، و"إم إس سي"، و"ميتسوي" أو "إس كيه" تتجنب المرور عبر البحر الأحمر متذرعة بالمخاطر الأمنية، بحسب نشرة "إنتربرايز".
اظهار أخبار متعلقة
وفي السياق، قالت شركة "ميرسك" للشحن البحري الدنماركية، إنها ستواصل الإبحار حول إفريقيا عبر "رأس الرجاء الصالح"، حتى ضمان المرور الآمن عبر البحر الأحمر على المدى الطويل.
وأشارت، وفقا لوكالة رويترز، إلى أن المخاطر الأمنية على السفن التجارية في البحر الأحمر ومضيق باب المندب لا تزال مرتفعة.
وهو الطريق الذي يمر منه نحو 12 بالمئة من التجارة البحرية العالمية والتي تراجعت منذ تشرين الثاني/ أكتوبر 2023، بنحو 70 بالمئة، مع دعم جماعة الحوثي المقاومة الفلسطينية إزاء حرب الإبادة الدموية الإسرائيلية على قطاع غزة بدعم غربي وأمريكي.
"حرب الجمارك"
وفي سياق تأثير تصريحات ترامب على الاقتصاد المصري، أكدت دراسة للمركز المصري للدراسات الاقتصادية، على المخاوف من وقوع مصر تحت ضغوط الجمارك الأمريكية الصينية التي يفرضها كل طرف على الآخر، بما يؤثر سلبا في سعر صرف العملة المحلية ومعدلات التضخم، وتأثر ثاني أكبر اقتصاد إفريقي وثالث أكبر اقتصاد عربي بزيادة التعرفة الجمركية.
وفرض ترامب، رسوم جمركية على الواردات من الصين وكندا والمكسيك، بنسبة تراوح ما بين 10 إلى 25 بالمئة، فيما ردت الصين بفرض رسوم مماثلة.
وبحسب مقال للخبير والكاتب الاقتصادي عادل صبري، فإن "مصر وقعت في مرمى الحرب التجارية بين بكين وواشنطن، وسط مخاوف من تراجع الجنيه وتدفقات الدولار وفرص التصدير، وارتفاع تكلفة الإنتاج، وقلق من مدى قدرة مصر التنافسية على استبدال السلع الصينية والأسواق الأمريكية".
وفي هذا الإطار صعد سعر الذهب في مصر لأرقام قياسية حيث تعدى سعر غرام 21 مبلغ 4 آلاف جنيه مدفوعا بارتفاع سعر الذهب العالمي المتأثر بقرارات وتصريحات ترامب، وهو ما عبرت عنه وكالة رويترز، بالقول إن "الذهب يواصل ارتفاعه القياسي مع ارتفاع الطلب بفعل مخاوف الحرب التجارية".
"حجب وتقليل المساعدات"
ولوح الرئيس الأمريكي أكثر من مرة بوقف مساعدات بلاده السنوية لمصر، والبالغة نحو 2.1 مليار دولار سنويا، منها 1.3 مليار دولار مساعدات عسكرية، و815 مليون دولار معونات اقتصادية.
بل إن المخاوف المثارة من احتمال وضع إدارة ترامب عوائق أمام حصول الحكومة المصرية على قروض جديدة من المؤسسات المالية وأسواق المال الدولية، وعرقلة الحصول على شرائح من القروض القائمة، وفقا لرؤية الكاتب الاقتصادي مصطفى عبدالسلام، خاصة مع سيطرة واشنطن على صناعة القرار في تلك المؤسسات الدولية.
وفي ظل انخفاض قيمة العملة المحلية من مستوى نحو 31 جنيها مقابل الدولار مطلع العام الماضي إلى حوالي 51 جنيها بنهاية العام، يتوقع خبراء بينهم الخبير الاقتصادي الدكتور عبدالنبي عبدالمطلب حدوث خفض جديد محتمل بقيمة الجنية، كما جرى العام الماضي.
وأشار إلى تأخر صندوق النقد الدولي في الإعلان عن قبوله المراجعة الرابعة لاقتصاد البلاد التي جرت في كانون الأول/ ديسمبر الماضي، وعدم الإفراج حتى الآن، عن الشريحة الخامسة من قرض المليارات الثمانية والبالغة 1.3 مليار دولار، وتأخير صرف تمويل إضافي بقيمة 1.3 مليار دولار ضمن برنامج الصلابة والاستدامة، وسط احتمالات وجود ضغوط من الصندوق.
ويتخوف أصحاب تلك الرؤية، من أن تتعرض مصر لضغوط بتأخير الشريحة ونتيجة المراجعة مع رفض القاهرة رسميا خطة ترامب لتهجير الفلسطينيين.
"وضع يزداد صعوبة"
وذلك يشير إلى وضع قادم أشد صعوبة في ظل معاناة أكثر من 107 ملايين مصري يعيشون في الداخل، من غلاء وفقر وتراجع في الدخول مع فقدان العملة المحلية الكثير من قيمتها طوال حكم السيسي، ووصولها أمام الدولار من نحو 7 جنيهات عام 2013، إلى حوالي 51 جنيها حاليا بالبنك المركزي.
كما أن تلك الأوضاع رغم صعوبتها فإن تصريحات ترامب تفاقم من آثارها، خاصة مع ما أعلنه البنك الدولي عن حجم الديون المقرر دفعها خلال العام الجاري.
يتعين على القاهرة سداد 43.2 مليار دولار التزامات ديون خارجية بأول 9 أشهر، تشمل سداد قروض، وودائع، واتفاقيات مبادلة عملة للبنك المركزي، والبنوك التجارية، وجميعها عبارة عن 5.9 مليار دولار فوائد، و37.3 مليار دولار أصل قروض.
وبنهاية أيلول/ سبتمبر الماضي، وصل الدين الخارجي لمصر 155.2 مليار دولار، وارتفع طويل الأجل منه إلى نحو 127.5 مليار دولار، وبلغت الديون قصيرة الأجل نحو 27.66 مليار دولار.
"الكابوس والوهم القاتل"
وحول خسائر مصر الاقتصادية من خطط ترامب بشأن قطاع غزة، وعودة حركة مرور السفن بقناة السويس والملاحة العالمية بالبحر الأحمر للنقطة صفر، وتأثير ذلك الوضع على مستقبل القناة، خاصة في ظل خطط ترامب لإنشاء ميناء بحري عالمي بشاطئ غزة، تحدث الخبير الاقتصادي الدكتور أحمد البهائي، لـ"عربي21".
وقال إن "الصهيونية الاستيطانية تحاول عبثا لعب دور فاشل هو في الحقيقة أكبر منها بكثير عندما يتعلق الأمر بمصر، متناسية عمدا أن هناك عوامل تاريخية وجغرافية وإنسانية، قد تعيق تحقيق هذا الدور".
وأوضح أنه "بفعل قوة الزمن وصفحات التاريخ، فهم يدرسون التاريخ؛ ولكن حُددت لهم صفحات بعينها متجاهلة روابط الزمن، فهم لا يدركون أن هناك فرق كبير بين الحلم والواقع، فجميعنا نحلم ولكن كلا على طريقته، وحسب ما أكتسب من جرعات تربوية وصفات وملامح فكرية بنيوية شخصية تاريخية، كلها معا تحدد نوعية الحلم وآلياته ومقتضياته".
ويرى أن "الأسوأ هنا عندما يكون الحلم على طريقة الأساطير الإغريقية أو النبوءات الدينية أو على الطريقة الشكسبيرية، فالحلم فيها لكي يتحقق لابد من مواجهة التاريخ وأبطاله (القدر والزمن) والانتصار عليه؛ وهذا هو الكابوس والوهم القاتل، فالهزيمة والموت هو النهاية الحتمية لأن التاريخ هو مصر".
ولفت إلى أنه "في حقيقة الأمر تقوم الصهيونية بدور فوضوي عبثي في المنطقة كلها، لحساب نبوءة إسرائيل تستخدمها كأداة لتحقيق مخططها القديم، فالأدلة والبراهين واضحة وضوح الشمس لا تحتاج عناء في إثباتها".
وتابع: "لننظر ما حدث في العراق، وفي سوريا، وما تمر به ليبيا والسودان، والانقسام في اليمن ولبنان، والاستقطاب في تونس، كل ذلك ورائه الصهيونية الاستيطانية".
"تحجيم مصر ومجاريها الملاحية"
البهائي، أكد أن "ترامب يريد تحجيم الدور المصري في المنطقة باعتبارها أساس نبوءته الفاشلة، فهو في ذاته لا يعرف شيئا عن مصر إلا من خلال مستشارين تربوا وتعلموا وتتلمذوا على يد من خطط لشرق أوسط جديد، وهنا نرى مدى جهله وجهلهم من خلال تصريحاته المتعلقة بالجانب الشرقي من الحدود المصرية بأن تقوم مصر بتوطين الفلسطينيين في سيناء".
وشدد على ضرورة "ألا ننخدع ونكرر كلمة التهجير بل إن حقيقتها التوطين؛ حيث إن هناك فرقا شاسعا بين اللفظين، وإخلاء قطاع غزة من سكانه الأصليين على شاكلة ما فعل أجداده في الأمريكتين، لتخلو لهم ويضرب عصفورين بحجر واحد وتتحقق النبوءة الدينية من خلال الاستيطان الاقتصادي".
ولفت إلى أن "الدليل في إشارته أن يُصبح القطاع ريفييرا العصر، قائلا: (الإمكانات في قطاع غزة لا تصدق، وأنه قد يصبح ريفييرا الشرق الأوسط بدون سكانه الأصليين)، فالريفييرا كما نعلم أساسها ميناء بحري، وإنشاء ميناء بحري في غزة يعني انتهاء المجاري الملاحية المصرية ليست قناة السويس فقط بل كل الموانئ المصرية بلا استثناء ويصبح لا دور لها".
"حجم الخسائر"
ومضى يؤكد أن "الدراسات التي تم تسريبها؛ تؤكد أن فترة بناء الميناء في غزة حسب مخططهم لا يحتاج أكثر من 17 شهرا وعلى أعلى قدر من التكنولوجيا ومزود بخط سكة حديد فائق السرعة، ممتد داخل مناطق وإلى دول محيطة بالقطاع".
الخبير المصري، تساءل: "فما حجم الخسائر التي تتكبدها مصر لو تم مثل هكذا مخطط بكل أبعاده؟"، مضيفا: "وكذلك فإن سواحل القطاع ومياهه الإقليمية عائمة على كنز من البترول والغاز حسب تقارير شركة (بريتش بتروليوم)".
وأوضح أنه "وفق ما حققته صور الأقمار الصناعية؛ فقد تم حساب احتياطي الغاز الطبيعي حسب آخر تقرير وحده بحوالي 55 مليار متر مكعب، ناهيك عن البترول وسهولة استخراجه".
وأكد أن "ما يفعلونه الآن هو استخدام كل وسائل الضغط على مصر التي بدأت بالتصعيد مع تزايد احتمالية التصعيد الاقتصادي، ووضع عوائق أمام الحصول على قروض جديدة، بأن تمارس إدارة ترمب ضغوطا على المؤسسات المالية وأسواق وبيوت المال العالمية حتى لا تمنح الحكومة المصرية مزيدا من القروض، وهذا ما نجده في مفاوضات صندوق النقد الدولي، وقد لا تحصل مصر على ما تبقى من شرائح من القرض القائم".
اظهار أخبار متعلقة
وخلص البهائي، للقول إن "مخطط ترامب الصهيوني الاستيطاني مآله الفشل، ومصر لن ترضخ لأي ضغوط لاستقبال سكان غزة، خاصة وأن مصر تمتلك أوراقا كثيرة لمواجهة هذه الضغوط، فهي على علم بأن ذلك المخطط له أبعاد كثيرة ولا يقف عند التوطين والتهجير، وما له من تأثير على الأمن القومي المصري، وزعزعة استقرار المنطقة، فحسب".
وبين أن "تحقيقه يعني القضاء على مصر تماما؛ فتوطين الفلسطينيين في سيناء وخلال مدة قصيرة تتحول من وطن بديل بقوة القانون الدولي الصهيوني برا وبحرا وجوا إلى وطن دائم، ليمتد النفوذ الصهيوني وتصبح غزة وسيناء جزءا واحدا تحت أي مسمى، وتصبح مقدرات وثروات مصر ملك لهم، ليأتي بقية المخطط بتهجير آخر داخل مدن مصر، إذا لابد من مواجهة هذا المخطط بكل قوة ووضع كل السيناريوهات جاهزة".
"عقاب محتمل"
من جانبه، يعتقد السياسي المصري مجدي حمدان موسى، أن "هناك بعض الأمور التي قد يتم فرضها على مصر حال رفضت تهجير الفلسطينيين"، مشيرا في حديثه لـ"عربي21"، إلى "احتمال إلغاء بعض المساعدات المالية الأمريكية ومنها العسكرية".
وفي حديثه لـ"عربي21"، لفت إلى احتمال "فرض عقوبات على الشركات المصرية التي تتعامل مع الحكومة والشركات الأمريكية، ورفع التعريفات الجمركية، ووضع ضرائب عالية على كل ما يجري تصديره من منتجات مصرية لأمريكا، وفرض عقوبات على شركة مصر للطيران، وعلى الأسهم المصرية في البورصات الأمريكية".
"واحتمال إلغاء تأشيرات الدخول لأمريكا وخاصة لرجال الأعمال المصريين، وتجميد ممتلكات مسؤولين مصريين في بنوك بلاده، أو تجميد حسابات بنكية وحظر التعاملات المصرفية من وإلى البنوك المصرية والأمريكية، وفرض عقوبات على شركات أجنبية أمريكية أو أوروبية تتعامل مع مصر".
وعن تأثر الملاحة في البحر الأحمر بفعل تصريحات ترامب، أكد أنه "غير مرتبط بتصريحات ترامب؛ وأمريكا بكل ما تملكه لم تستطيع فعل شيء مع الحوثيين، ودع ترامب يقول ما يقول ولكن الملاحة في البحر والقناة غير مرتبطة بأمريكا".
وخلص إلى القول: "لن يستطيع عمل ميناء في غزة، وأعتقد أن أي تدخل اقتصادي من جانب أمريكا بحق غزة سوف يفشل".