في ظل تعثر
المحاكمات وبطء الإجراءات لدى
المحكمة الجنائية الدولية، تزداد الحاجة إلى إنشاء
محكمة جنايات
عربية لتسريع محاكمة مرتكبي
الجرائم الدولية، خاصة تلك التي يرتكبها
جيش الاحتلال
الإسرائيلي بحق
الفلسطينيين واللبنانيين والعرب عموما. إن الإفلات
المستمر من العقاب على هذه الجرائم، بما في ذلك جرائم الحرب والجرائم ضد
الإنسانية، يعزز الإحباط ويضعف الثقة في منظومات العدالة الدولية.
إن إنشاء محكمة
جنايات عربية يمكن أن يكون أداة إقليمية فعّالة لمعالجة الجرائم الكبرى التي تمس
الأمن الإنساني العربي، مع مراعاة الخصوصيات الثقافية والقانونية للمنطقة. هذه
المحكمة لن تكون بديلا عن المحكمة الجنائية الدولية، بل مكملة لها، من خلال
التركيز على القضايا الإقليمية وتسريع المحاكمات لضمان تحقيق العدالة بشكل أكثر
كفاءة. ومع ذلك، فإن هذا المشروع الطموح يواجه تحديات سياسية وقانونية تستدعي
تعاونا عربيا مشتركا وإرادة سياسية قوية لتجاوزه وتحقيق العدالة المنشودة.
ومنذ طرح فكرة
إنشاء محكمة جنايات عربية لأول مرة عام 2002،
ظل هذا المشروع الطموح عالقا في الإطار النظري، على الرغم من أهميته لتعزيز
العدالة الجنائية في العالم العربي ومحاسبة مرتكبي الجرائم الدولية. الفكرة، التي
انبثقت عن الاجتماع الرابع عشر لوزراء العدل العرب تحت مظلة جامعة الدول العربية،
استهدفت إنشاء نموذج إقليمي مستوحى من المحكمة الجنائية الدولية، لتوحيد الجهود
القانونية في محاكمة جرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية. ومع ذلك، فإن مسيرة هذا
المشروع واجهت العديد من التحديات السياسية والقانونية التي عرقلت تحقيقه على أرض
الواقع.
يشكل الصراع العربي- الإسرائيلي والتوجه نحو التطبيع عقبة كبيرة أمام إنشاء محكمة جنايات عربية، حيث يعمق الانقسامات السياسية بين الدول العربية ويضعف التوافق المطلوب لتحقيق المشروع. تاريخيا، كانت القضية الفلسطينية محورا رئيسيا للعمل العربي المشترك، لكن التطبيع مع إسرائيل أحدث انقساما في الأولويات
محطات بارزة في
مسار المشروع
كان عام 2002 نقطة الانطلاق الأولى لفكرة
المحكمة، حين جرى طرحها كأداة لتطوير العدالة الجنائية الإقليمية، إلا أن التنفيذ
ظل غائبا. وفي عام 2010، أعيد فتح النقاش حول المشروع في إطار
مكافحة الإرهاب، لكن الخلافات السياسية بين الدول الأعضاء حالت دون المضي قدما.
وفي 2014، شهد المشروع تطورا هاما خلال الاجتماع
الثلاثين لوزراء العدل العرب في الرياض، حيث تمت مناقشة واعتماد مسودة قانون
لإنشاء المحكمة، إلى جانب قانون عربي لمكافحة الإرهاب. ورغم الترحيب بالمبادرة، لم
يُكتب لها التنفيذ نتيجة غياب الالتزام السياسي الجماعي. وفي 2015، اقترح ملك البحرين إنشاء محكمة عربية لحقوق
الإنسان، وبدأت الجهود لصياغة نظامها الأساسي، إلا أن هذه المبادرة أيضا لم تصل
إلى مرحلة التنفيذ بسبب العقبات ذاتها.
العقبات التي
تواجه إنشاء المحكمة
إن تعثر إنشاء
محكمة جنايات عربية يعود إلى مجموعة من العقبات، أبرزها الخلافات السياسية بين
الدول الأعضاء، التي غالبا ما تعيق التوافق على إنشاء هيئة قضائية مشتركة. كما
تُثير المحكمة مخاوف لدى بعض الأنظمة السياسية من أن تُستخدم كأداة لمحاكمة قادة
أو حكومات، ما يزيد من التحفظات تجاه المشروع.
على الصعيد
القانوني، يؤدي تباين الأنظمة القانونية بين الدول العربية إلى صعوبة توحيد إطار
قضائي مشترك يدعم المحكمة. بالإضافة إلى ذلك، تسببت الصراعات الإقليمية والأزمات
السياسية المستمرة في انشغال الدول بأولويات أخرى مثل الأمن ومكافحة الإرهاب، مما
أدى إلى تراجع الاهتمام بالمشروع. يُضاف إلى ذلك ضعف المؤسسات الإقليمية، مثل
جامعة الدول العربية، التي تفتقر إلى القوة التنفيذية لدفع هذا النوع من المبادرات
إلى الأمام.
هل الصراع
العربي- الإسرائيلي والتطبيع: عقبة أمام محكمة جنايات عربية؟
يشكل الصراع
العربي- الإسرائيلي والتوجه نحو التطبيع عقبة كبيرة أمام إنشاء محكمة جنايات
عربية، حيث يعمق الانقسامات السياسية بين الدول العربية ويضعف التوافق المطلوب
لتحقيق المشروع. تاريخيا، كانت القضية الفلسطينية محورا رئيسيا للعمل العربي
المشترك، لكن التطبيع مع إسرائيل أحدث انقساما في الأولويات. الدول المطبعة قد
تتحفظ على دعم محكمة قد تُستخدم لمحاسبة إسرائيل على انتهاكاتها ضد الفلسطينيين،
مما يضعف التضامن العربي. في الوقت نفسه، يُخشى من توظيف المحكمة كأداة سياسية ضد
الدول المطبعة، ما يزيد من تعقيد الموقف. هذا الواقع يجعل من الصعب بناء مؤسسة
قضائية إقليمية تعتمد على تعاون جماعي، إلا أن تجاوز هذه العقبة ممكن من خلال
توافق عربي يعيد التركيز على القضايا المشتركة بعيدا عن الانقسامات السياسية.
هل يمكن أن
يتعارض اختصاص المحكمة الجنائية الدولية مع إنشاء محكمة جنائية عربية؟
قد يشكل اختصاص
المحكمة الجنائية الدولية عقبة قانونية أمام إنشاء محكمة جنائية عربية نتيجة
لتضارب محتمل في الاختصاص القضائي بينهما. فالمحكمة الجنائية الدولية تختص بمحاكمة
الجرائم الكبرى مثل جرائم الحرب جرائم ضد الإنسانية والإبادة الجماعية إذا كانت
الدول غير قادرة أو غير راغبة في القيام بذلك، وهو ما قد يتداخل مع دور المحكمة
العربية إذا تناولت نفس الجرائم. إضافة إلى ذلك، قد يُثار مبدأ ازدواجية المحاكمة
(Double
Jeopardy) إذا حوكم المتهم على الجريمة ذاتها في كلتا المحكمتين، مما يضعف
مصداقية العملية القضائية.
تزداد التعقيدات
مع الدول العربية الأطراف في نظام روما الأساسي، حيث تُلزم هذه الدول قانونيا
بإحالة القضايا إلى المحكمة الجنائية الدولية عند الاقتضاء، ما قد يتعارض مع
الإحالة إلى المحكمة العربية. كما تتمتع المحكمة الدولية بشرعية واسعة ومعايير
محاكمة صارمة، قد لا تتمكن المحكمة العربية من مطابقتها في البداية، مما يؤدي إلى
إضعاف شرعيتها الدولية والنظر إليها كبديل غير ضروري. علاوة على ذلك، قد تبرز
تحديات حول أولويات المحاكمة، إذ تعمل المحكمة الجنائية الدولية بمبدأ التكامل،
بينما قد تطالب المحكمة العربية بالاختصاص الإقليمي الكامل.
كل هذه التعقيدات
تستدعي تنسيقا دقيقا لضمان تكامل المحكمتين، بحيث تتولى المحكمة الجنائية العربية
القضايا ذات الطابع الإقليمي مع مراعاة التزامات الدول الأطراف في نظام روما
الأساسي، ما يضمن تعزيز العدالة بدلا من التنافس بين الهيئات القضائية.
تشكل تحديات حقوق الإنسان في الدول العربية عقبة كبيرة أمام إنشاء محكمة جنائية عربية، حيث يعوق غياب الالتزام الجاد من الأنظمة السياسية، وخشيتها من المحاسبة على الانتهاكات، تقدم المشروع. ضعف استقلالية القضاء والقوانين المقيدة للحريات يزيد من صعوبة ضمان نزاهة المحكمة، فضلا عن الأزمات الحقوقية المتفاقمة التي تضيف تعقيدات سياسية وقانونية تُثقل كاهل المشروع
من المهم القول هنا: أن محكمة الجنائية الدولية، وعلى الرغم من أهميتها، تواجه
انتقادات بسبب بطء المحاكمات وطول إجراءاتها، حيث تلقت منذ تأسيسها أكثر من 9600 شكوى تتعلق بجرائم دولية في 139 دولة، لكنها لم تبادر بالتحقيق إلا
في حوالي 30 حالة فقط، وأصدرت 40 مذكرة اعتقال، بينما تم توقيف 21 شخصا فقط. تستغرق القضايا في
المحكمة غالبا 7-10 سنوات للوصول إلى حكم نهائي، مما يؤدي إلى تأخير العدالة
وتعميق معاناة الضحايا. هذا الواقع يبرز الحاجة إلى إنشاء محكمة جنايات عربية تتسم
بالفعالية والسرعة، لمعالجة الجرائم الكبرى التي تمس العالم العربي، وتقديم نموذج
إقليمي يسهم في تحقيق العدالة بشكل أكثر كفاءة وارتباطا بالخصوصيات الثقافية
والقانونية للمنطقة.
هل تشكل تحديات
حقوق الإنسان العربي عقبة أمام محكمة جنائية عربية؟
تشكل تحديات حقوق
الإنسان في الدول العربية عقبة كبيرة أمام إنشاء محكمة جنائية عربية، حيث يعوق
غياب الالتزام الجاد من الأنظمة السياسية، وخشيتها من المحاسبة على الانتهاكات،
تقدم المشروع. ضعف استقلالية القضاء والقوانين المقيدة للحريات يزيد من صعوبة ضمان
نزاهة المحكمة، فضلا عن الأزمات الحقوقية المتفاقمة التي تضيف تعقيدات سياسية
وقانونية تُثقل كاهل المشروع. للتغلب على هذه العقبات، يتطلب الأمر إصلاحات
قانونية وهيكلية شاملة، مع بناء توافق سياسي لضمان أن تكون المحكمة أداة فاعلة
لتحقيق العدالة الإقليمية.
ورغم هذه
التحديات، فإن إنشاء محكمة جنايات عربية ليس مجرد طموح، بل يمكن أن يتحقق عبر
خطوات عملية، مثل تشكيل لجنة قانونية متخصصة، والتنسيق مع المحكمة الجنائية
الدولية لضمان التكامل، وتنفيذ إصلاحات تشريعية تعزز حقوق الإنسان. اعتماد نهج
مرحلي يبدأ بمحكمة ذات صلاحيات محدودة تُركز على القضايا الإقليمية الكبرى، مثل
الجريمة المنظمة، سيُسهم في بناء الثقة وتطوير نموذج قضائي يخدم العدالة الجنائية
في المنطقة. تحقيق هذا الحلم يتطلب تعاونا إقليميا ورؤية جماعية ليكون إنجازا
عربيا مشتركا يعزز العدالة وسيادة القانون.
إن هذا المشروع
الطموح يتطلب إرادة جماعية وإصلاحات هيكلية عميقة، ولكنه يحمل في طياته إمكانية
بناء منظومة عدالة أكثر عدلا وسرعة، تعكس خصوصيات المنطقة وتكمل الجهود الدولية.
تحقيق هذه الفكرة سيكون خطوة هامة نحو إنهاء الإفلات من العقاب، وترسيخ العدالة
كركيزة أساسية لمستقبل عربي أكثر إنصافا واستقرارا.