مقالات مختارة

السوريون بين متلازمتين

أحمد موفق زيدان
الأناضول
الأناضول
تخرج الشعوب من الحروب والثورات، جديدة على وطنها، وجديدة على بعضها، وربما جديدة على من حولها من شعوب ودول. لأول مرة يكتشف السوريون بلدهم، فمن هُجّر قبل عقود، لم يعد يُصدق أنه بات لديه وطن، وبات لديه حقوق المواطن، وهو الذي حُرمها لعقود، ونفس الأمر ينطبق على حاضنة النظام البائد، لكن بطريقة مختلفة، لم يعتادوها من قبل، فهي لم تستطع أن تستوعب حتى الآن ربما أن نظامها قد رحل.

وبالتالي فكل امتيازاتها ومصالحها التي شبّكتها مع من رحل، قد اختفت برمشة عين يوم الثامن من ديسمبر الماضي، حين استفاق السوريون والعالم كله على أول تغيير في سوريا منذ وصول البعث إلى السلطة، وبشكل أدق منذ ما أُطلق عليه بالحركة التصحيحية في تشرين ثاني من عام 1970 التي قادها الرئيس السابق حافظ أسد.

كل شيء جديد على السوريين الثائرين، وعلى المكوّعين الذين لم يستوعبوا حجم الصدمة التي أصابتهم، ولا حجم الزلزال الذي تعرضوا له، ولعل أقرب ما يختصر المشهدين في هذا كله، متلازمة البتر الطبية، والتي يمكن أن نسقطها سياسياً، والتي يتعرض لها المريض حين يبتر له الطبيب أحد أطرافه، حينها سيبقى الدماغ ولفترة ليست قصيرة، يرسل إشاراته للعضو على أنه موجود، ولا يزال فاعلاً.

ولكنه في الحقيقة قد اختفى، وهو تماماً ما حصل مع حاضنة النظام البائد التي استفاقت فجأة على فقدان عضوها، وهو النظام البائد، لكن دماغها لا يزال يرسل إشاراته على أن النظام الذي تعوّدت عليه لعقود ما يزال موجوداً حاكماً، بل ويصعب عليها تقبل رحيله، ولذا فهي بحاجة إلى وقت حتى يقتنع دماغها أن نظامها رحل إلى غير رجعة، مما يعني تقبل العهد الجديد، الذي لم تألفه، بل وكانت تعاديه وتقاتله، وتسعى إلى تحطيمه وهزيمته بكل ما أوتيت من قوة، وبكل ما جلبته من قوى الاحتلال والمليشيات الطائفية، فضلاً عن استخدامات لأسلحة غير تقليدية.

بالمقابل هناك صورة المؤيدين للثورة والذين ظلوا يعارضون ويناكفون النظام البائد لعقود، يعودون اليوم إلى دمشق أو المدن السورية المحررة حديثاً، ودماغهم لعقود قد توقف عن إرسال أي إشارة على أن هذه المدن من جسدهم، بعد أن ترسخ لديها وفلعقود أن هذه المدن هي من مزارع آل أسد، وبالتالي فعودة الطرف اليوم كما يُسمى طبياً، يحتاج إلى وقت ليس قليل، لإقناع الدماغ الثوري الذي هجر عن بلده لسنوات وعقود بأن دمشق وحلب والمدن الأخرى قد عادت إلى جسد العهد الجديد.

الواقع في سوريا اليوم بحاجة إلى جهود جماعية ومشتركة جبارة من أجل تقديم الصورة الحقيقية لسوريا التي يحلم بها السوريون، وحلم بها من قبل الشهداء الذين رحلوا دون أن يدركوا هذه اللحظة التي كلفتنا كل ما حدث. سوريا التي تتسامى على الجراح كلها، سوريا التي تتسع لكل أبنائها الأوفياء.

ولكن مع هذا لا بد من عدالة انتقالية ومصالحة وطنية، تسعى إلى معالجة كل الجروح الاجتماعية الغائرة التي حفرها النظام السابق وعلى مدى 61 عاماً. تركة ثقيلة وثقيلة جداً، إن كان على مستوى حقوق الدم والمال والأعمال والعقارات، وحقوق قد لا تخطر على قلب بشر خارج سوريا، فاليوم نحن أمام مجازر اجتماعية تتفجر بشكل يومي أمامنا جميعاً، فهنا عقار قد سطا عليه البعث لأهله قبل نصف قرن، ويأتي الأحفاد مطالبين به، وهناك عقارات بيعت لأكثر من شخص، بينما ملكيته الحقيقية لثوري غادر وطنه قبل سنوات وربما قبل عقود، وهناك من قتل على يد مجرم في الثمانينيات، وعلى يد مجرم آخر في التسعينيات وما بعدها، فأعان الله كل من يبتليه الله بالحكم اليوم.

كل هذا تركة ومهمة ثقيلة للعهد الجديد، وباعتقادي أن هذه المهمة لا يمكن أن تقوم بها الدولة، فهي أكبر منها، وبالتالي لا بد من تشكيل هيئة عليا للعدالة الانتقالية والمصالحة الوطنية، هذه الهيئة يكون لها صندوق مالي للتعويض عن كل من أصابهم الظلم والحيف طوال سنوات الثورة، وقد يمتد هذا التعويض لكل من أصابهم الظلم منذ وصول آل الأسد والبعث إلى السلطة، فمعالجة الجروح الاجتماعية الغائرة في الجسد السوري، التي خلفها النظام البائد مهمة ثقيلة وعميقة وخطيرة من أجل بناء سوريا الجديدة.

هذه الهيئة العليا لا بد أن تشارك فيها الدولة، والقوى المجتمعية الحية من نخب ومحامين وإعلاميين ووجهاء، بحيث تقوم كل منطقة، وربما كل حي بتشكيل لجنة فرعية من هذه النخب، ليقوموا بدورهم في المصالحة الوطنية والتعويض، إلى جانب دور الدولة والقضاء في محاكمة كبار المجرمين، وربما ما جرى في رواندا وجنوب أفريقيا استرشاداً لنا في معالجة هذه الجروح المتقيحة التي تركها النظام البائد.

سوريا الجديدة بحاجة إلى جهود جبارة، وبحاجة إلى نخب تتسامى على الجراح، وتتكاتف، وتعالج الجروح الغائرة، وترضي الجميع، أما سوريا الثأر والانتقام بهدف الدم ونحوه، وسوريا المتسترة على المجرمين والقتلة والشبيحة، فلا مكان لها اليوم، كل سيأخذ حقه من الدم أو المال وربما من التعويض، وحتى من الاعتذار والندم عما ارتكب، كل بحسب جريمة ارتكبها...

الشرق القطرية
التعليقات (0)

خبر عاجل