قضايا وآراء

الطور الأخير لنضح الإسلاميين السياسي

طارق الزمر
(الأناضول)
(الأناضول)
منذ انطلاق مسيرة الحركات الإسلامية في السبعينات، أصبحت بسرعة رقما مهما في الساحات العربية والإسلامية، وذلك في ظل حالة غياب شبه كامل للحريات العامة وتجريف كل مظاهر الحضور السياسي، ولهذا فقد تعرضت ككل الظواهر الاجتماعية في بلادنا للصدام المبكر بالسلطات المحلية، لكنها رغم ذلك اقتنصت بعض الظروف والمعطيات لتوسع مساحات حركتها ومن ثم وجودها، وفي ضوء الشد والجذب والمد والجزر تراكمت الخبرات وتنامى الوعي السياسي، وقد ساهم في ذلك أتساع دائرة الأنشطة، والاحتكاك المباشر بالتحولات الإقليمية والدولية، التي كانت ضرورية لتنامي هذا الوعي.

هذا هو القانون العام الذي حكم ظهور وتنامي الحركات الإسلامية منذ السبعينات، حتى وصلنا في السنوات الأخيرة منذ عام 2021 وحتى اليوم لـ"الطور الأخير" من أطوار النضج السياسي، التي برزت في حركات ومناطق ثلاث: أفغانستان حيث "حركة طالبان"، وفلسطين حيث "حركة حماس"، وسوريا حيث "هيئة تحرير الشام".

وصلنا في السنوات الأخيرة منذ عام 2021 وحتى اليوم لـ"الطور الأخير" من أطوار النضج السياسي، التي برزت في حركات ومناطق ثلاث: أفغانستان حيث "حركة طالبان"، وفلسطين حيث "حركة حماس"، وسوريا حيث "هيئة تحرير الشام"
فقد ظهرت بوضوح ثمرات هذا النضح أو النبوغ السياسي في أداء "حركة طالبان"، ولا سيما منذ معركتها الأخيرة "عملية الفتح" التي انطلقت في نيسان/ أبريل 2019 والتي هزمت فيها الأمريكان وتحالفهم الدولي في آب/ أغسطس 2021 واضطرتهم للانسحاب، وما أعقبها من حراك سياسي لافت مع الاحتكاك بقضايا الحكم والعلاقات الدولية، ثم جاءت "طوفان الأقصى" لتبرهن عن طفرة أخرى بالغة الأهمية في هذا النبوغ السياسي، ولا سيما من خلال أداء حركة حماس، إلى أن وصلنا للأداء السياسي اللافت "لهيئة تحرير الشام" سواء في إدارتها لعملية "ردع العدوان" أو تعاملها مع قضايا الدولة، والتعامل المدهش مع النظام الإقليمي والدولي.

* * *

أما عن "حركة حماس الإسلامية"، موضوع هذا المقال، فمنذ انطلاقها في أواخر الثمانينات، أظهرت قدرة متزايدة على التطور السياسي والتكيف مع التحولات الإقليمية والدولية، مستفيدة من التجارب الميدانية والسياسية للحركات الإسلامية التي سبقتها، ومضيفة أبعادا مهمة لا تخطئها العين.

وفيما يلي أبرز مظاهر هذا النضج والنبوغ السياسي وكيف تطور مع مرور الزمن:

منذ تأسيس الحركة اعتمدت استراتيجية مزدوجة تمزج بين المقاومة المسلحة ضد الاحتلال الصهيوني والعمل السياسي والاجتماعي لخدمة الشعب الفلسطيني، وقد تطور هذا النهج ليبلغ مداه في المشاركة المباشرة في العملية السياسية الفلسطينية عبر انتخابات المجلس التشريعي 2006، حيث حققت فوزا كبيرا، مما أكد قدرتها على إدارة الملفات السياسية إلى جانب المقاومة.

في إطار ذلك أظهرت حماس مرونة في التعامل مع التطورات السياسية، حيث نجحت في إعادة ترتيب أولوياتها وفقا للظروف المحلية والإقليمية، انتقلت من مرحلة الاعتماد على المحور الإيراني-السوري في التسعينيات إلى توسيع شبكتها الدبلوماسية لتشمل دولا مثل تركيا وقطر، مع الاحتفاظ بعلاقات استراتيجية مع إيران، مما ضمن توازنا دقيقا بين المصالح المختلفة.

كما أظهرت الحركة نبوغا في تبني خطابين سياسيين مختلفين، خطاب داخلي موجّه للشعب الفلسطيني يتسم بالتركيز على المقاومة والصمود والحقوق الوطنية، وخطاب خارجي موجّه للمجتمع الدولي يتسم بالمرونة والاعتدال النسبي، يهدف إلى كسب التعاطف الدولي وتجنب وصم الحركة بالإرهاب، هذا التمايز ساعدها في تحقيق مكاسب سياسية ودبلوماسية مع الحفاظ على قاعدتها الشعبية.

مع فوزها في انتخابات 2006، واجهت حماس تحديا يتمثل في الانتقال من حركة مقاومة إلى قوة حاكمة في قطاع غزة، ورغم التحديات الكبيرة التي واجهتها بسبب الحصار والعقوبات الدولية، تمكنت من بناء مؤسسات حكومية تدير قطاعات حيوية كالأمن والتعليم والصحة، مما أظهر قدرتها على التكيف مع مسؤوليات الحكم.

كما عملت حركة حماس على بناء تحالفات إقليمية استراتيجية مع قوى إقليمية مختلفة، واستفادت من الانقسامات في المواقف الدولية تجاه القضية الفلسطينية، فقد تمكنت من إدارة هذه التحالفات بشكل ناجح، حيث استفادت من الدعم الإيراني العسكري، وفي الوقت نفسه حافظت على علاقات قوية مع دول مثل قطر وتركيا اللتين توفران دعما سياسيا وإنسانيا.

انتقلت حماس من كونها حركة تعتمد على الهجمات المتفرقة إلى قوة منظمة تعتمد على استراتيجية الردع، حيث أثبتت قدرتها على إحداث تأثير استراتيجي في موازين القوى، فقد تنامت هذه القدرة خلال عمليات كبرى مثل: حرب 2014 و"سيف القدس" (2021) و"طوفان الأقصى" (2023) مما أعطى المقاومة الفلسطينية نفوذا أكبر في تحديد قواعد الاشتباك مع الاحتلال.

طورت حركة حماس جناحها العسكري، "كتائب عز الدين القسام"، إلى قوة شبه نظامية ذات هيكلية منظمة وتكتيكات متطورة، وأظهرت هذه القوة قدرة على التكيف مع أساليب الاحتلال المتغيرة، سواء عبر تطوير قدراتها الصاروخية أو بناء الأنفاق الدفاعية والهجومية.

وفي ضوء ذلك أيضا فقد طورت خطابا إعلاميا قويا استغل وسائل الإعلام التقليدية والجديدة في إيصال رسائلها، سواء إلى الداخل الفلسطيني أو إلى العالم، وقد ركزت على إبراز معاناة الشعب الفلسطيني جراء الحصار والاعتداءات الإسرائيلية، مما أكسبها دعما شعبيا واسعا وأضعف الرواية الصهيونية في الساحة الدولية.
رغم أن حماس تأسست كحركة ذات أيديولوجية إسلامية، إلا أنها أظهرت مرونة سياسية في التعامل مع الواقع الفلسطيني والدولي، على خلاف كثير من الحركات الإسلامية، وقد تطور هذا التوازن وهذه المرونة مع مرور السنوات

رغم أن حماس تأسست كحركة ذات أيديولوجية إسلامية، إلا أنها أظهرت مرونة سياسية في التعامل مع الواقع الفلسطيني والدولي، على خلاف كثير من الحركات الإسلامية، وقد تطور هذا التوازن وهذه المرونة مع مرور السنوات، حيث قبلت بمبدأ التفاوض غير المباشر مع إسرائيل عبر وسطاء، كما أبدت استعدادها للقبول بحل سياسي قائم على إقامة دولة فلسطينية ضمن حدود 1967، مع استمرارها في التأكيد على حق المقاومة، فضلا عن تأكيدها عن كونها حركة تحرر وطني مستقلة، وأنها ليست جزءا من أي تنظيم إقليمي أو دولي، في إشارة للتنظيم الدولي للإخوان المسلمين.

أظهرت حماس نضجا سياسيا في كيفية إدارة خلافاتها الداخلية، حيث سعت إلى تقليل الانقسامات بين جناحيها العسكري والسياسي، كما استطاعت تجاوز تحديات كبرى مثل الحصار على غزة والانقسامات مع السلطة الفلسطينية عبر تكريس وحدة صفوفها الداخلية.

كما كان من جوانب نبوغها السياسي أن أدركت مبكرا أن شرعيتها لا تعتمد فقط على العمل العسكري، بل على تقديم الخدمات الاجتماعية للشعب الفلسطيني، فأنشأت مؤسسات خيرية، ومدارس، وجمعيات طبية، مما قوّى قاعدتها الشعبية وجعلها حركة قريبة من نبض الشارع الفلسطيني.

لقد انتقلت حماس بعد ذلك إلى تبني استراتيجية تجمع بين المقاومة المسلحة، والدبلوماسية، والإعلام، والعمل الاجتماعي، مما جعلها أكثر قدرة على مواجهة الضغوط الخارجية وتحقيق المكاسب السياسية.

أدركت أن تحقيق الأهداف الوطنية يتطلب التنسيق مع الفصائل الأخرى، بما في ذلك حركة فتح والجهاد الإسلامي، ورغم الانقسام بين غزة والضفة الغربية، واصلت حماس الدعوة إلى المصالحة الوطنية، مستفيدة من كل فرصة لإعادة بناء الوحدة الداخلية.

أظهرت حماس نبوغا سياسيا من خلال استيعاب دروس الماضي، سواء من تجاربها الخاصة أو من تجارب الحركات الإسلامية الأخرى، فقد استفادت من أخطاء الحركات الأخرى التي خسرت كثيرا من مكاسبها أو قواعدها الشعبية جراء الصدامات المتكررة مع الأنظمة الحاكمة، دون امتلاك رؤية شاملة لإدارة صراعاتها بكفاءة.
التعليقات (0)

خبر عاجل