على العكس من معظم المجتمعات التي استطاعت
أن تُحرر نفسها من قيود الهيمنة الخارجية، وأن تبني لنفسها مكانا بين الأمم، تستمر
معضلة
التحرر في منطقة الشرق في إثارة تساؤلات لا تنتهي: لماذا لم تتمكن مجتمعات هذه
المنطقة، رغم نضالها الطويل وتضحياتها الجسيمة على طريق الحرية، من تحقيق
استقلال فعلي
وسيادة حقيقية؟ ولماذا لا تزال عالقة في دوامة من الصراعات التي لا تنتهي والتي
تجعلها غير قادرة على الإفلات من الهيمنة الخارجية؟
إن الإجابة على هذه الأسئلة تتجاوز
التفسيرات السطحية لتصل إلى عمق البناء الاجتماعي والسياسي لهذه المجتمعات، حيث يمكن القول إن ما نراه اليوم
ليس نتيجة عامل واحد، أو ظرف طارئ بل حصيلة لتراكم استمر عقودا طويلة. وخلاصة هذه
العوامل يمكن وصفها بجملة واحدة: "فشل معظم هذه المجتمعات في بناء
هوية وطنية
جامعة قادرة على تجاوز حالة الانقسام والتفكك".
جذور التفكك والانقسام
تعود جذور التفكك في مجتمعات الشرق إلى
عوامل تاريخية وسياسية واجتماعية، أبرزها الإرث الاستعماري، حيث لم
تكتف القوى الاستعمارية بترسيخ وجودها العسكري فحسب، بل عمدت إلى تقسيم المجتمعات
على أسس لا تعكس الانتماءات الفعلية، مما خلق كيانات سياسية هشة غير قادرة على
الاستقلال حتى بعد رحيل المستعمر.
تعود جذور التفكك في مجتمعات الشرق إلى عوامل تاريخية وسياسية واجتماعية، أبرزها الإرث الاستعماري، حيث لم تكتف القوى الاستعمارية بترسيخ وجودها العسكري فحسب، بل عمدت إلى تقسيم المجتمعات على أسس لا تعكس الانتماءات الفعلية، مما خلق كيانات سياسية هشة غير قادرة على الاستقلال حتى بعد رحيل المستعمر
وبعد رحيل المستعمر، ظنت تلك المجتمعات
أنها تسير نحو الاستقلال، إلا أنها سرعان ما وجدت نفسها في مواجهة واقع مرير من الارتهان
والتبيعة للخارج، ما عمق هذه الأزمة هو أن النخب الحاكمة الجديدة ورثت أنظمة حكم
غير قادرة على تمثيل الإرادة الشعبية، وبدلا من بناء
مؤسسات قوية قادرة على تحقيق السيادة، انشغلت تلك النخب بإدارة
الأزمات الداخلية، ما
أتاح للقوى الخارجية فرصة استغلال هذه التناقضات لتعزيز هيمنتها عبر دعم أطراف
محلية ضد أخرى.
تحرر بلا هوية: معادلة مستحيلة
لا يمكن لأي مجتمع من المجتمعات أن يتحرر
من الهيمنة الخارجية، وأن يحقق لنفسه استقلالا فعليا دون وجود هوية وطنية جامعة.
وبدونها تظل الأطراف الداخلية في ذلك المجتمع مشغولة بصراعاتها التقليدية، مما
يجعل أي محاولة للتحرر تصطدم بانقسامات داخلية تضعف الإرادة الجماعية، وتجعل من
مشروع التحرر مجرد حلقات في سلسلة تلك الصراعات.
إن مشكلة هذا النوع من المجتمعات تكمن في
عدم قدرتها على بناء إجماع داخلي حول هويتها ومصالحها الوطنية العليا. فحتى عندما يستقل
المجتمع سياسيا، تظل التبعية قائمة، والذي يحدث هو تغيير في شكل التبعية، حيث
تستبدل قوة خارجية بأخرى، أو يتم استبدال الهيمنة السياسية بشكل آخر من أشكال من
الهيمنة، مثل الهيمنة الاقتصادية والثقافية. ويرجع ذلك إلى عدم قدرتها على إدارة
شؤونها الداخلية بفعالية، مما يجعلها بحاجة دائمة إلى تدخل خارجي.
وبما أننا نتحدث هنا عن مجتمعات مفككة لم
تتمكن من بناء هويتها الجماعية بعد، حيث لا تزال القبيلة والطائفة والإثنية هي
الوحدة الأساسية للولاء، فإن التحدي الأكبر الذي يواجه المجتمع هنا ليس إنهاء تبعيته
للآخر، بل في قدرته على بناء هوية جماعية تتجاوز قادرة على تحديده كعدو، ومن ثم
توجيه الإرادة الجماعية لمواجهته.
أزمة تحديد العدو: من هو الخصم؟
في المجتمعات المتماسكة، يتم تحديد العدو
على أساس شعور جماعي بالهوية، حيث يصبح الآخر هو التهديد المشترك الذي يجب
مواجهته، سواء كان داخليا أم خارجيا. لكن في المجتمعات المفككة، حيث الولاءات
متنوعة ومتعددة، كما هو الحال في منطقة الشرق، لا يجد الناس أنفسهم قادرين على
الاتفاق على من هو العدو، ولا على كيفية مواجهته.
في هذه الحالة، تصبح مسألة تحديد العدو في
جوهرها أزمة هوية، مما يجعل من المستحيل تقريبا إرساء أساس مشترك لمواجهة أي تهديد
داخلي أو خارجي. فبينما قد ترى إحدى الجماعات أن جارتها هي العدو، ترى جماعة أخرى
في الدولة المركزية أو القوى الخارجية تهديدا أكبر.
وعليه، فإن مسألة تحديد العدو تغدو أمرا
معقدا، وتصبح التبعية للأيديولوجيات الخارجية مسألة طبيعية. فبما أن الفرد لا يملك
هوية وطنية واحدة، يصبح أسيرا لهويات متعددة تُشكل رؤيته للآخر. ولهذا، فإن أي
دعوة للتحرر تواجه مقاومة أو عدم استجابة.
في سياقات مجتمعية معقدة، كتلك التي تعيشها منطقة الشرق، يعد القفز بين المراحل في بناء الهوية الوطنية الجامعة خطرا استراتيجيا عميقا يمكن أن يؤدي إلى نتائج عكسية. المشكلة تكمن في أن التسريع غير المدروس للانتقال من مرحلة إلى أخرى يجعل الهوية الوطنية هشة، ذلك لأن الأسس التي تقوم عليها غير مكتملة بعد
ووفقا لكارل شميت، فإن الشعوب التي تمتلك
هوية وطنية قوية تكون قادرة على توجيه صراعها ضد عدو خارجي واضح، بينما الشعوب
المفككة تظل مشغولة بصراعات داخلية تمنعها من تشكيل إرادة موحدة لتحديده، فضلا عن
مواجهته.
في حالات مثل اليمن، والسودان، ولبنان،
على سبيل المثال، لم يستطع المجتمع حتى الآن التوافق على عدو واحد، حيث تنقسم
الولاءات بين تيارات مختلفة موالية لقوى خارجية متصارعة، ما جعل البلاد ساحة
لصراعات إقليمية حالت دون تحقيق أي تحرر حقيقي.
القفز بين المراحل
في سياقات مجتمعية معقدة، كتلك التي
تعيشها منطقة الشرق، يعد القفز بين المراحل في بناء الهوية الوطنية الجامعة خطرا
استراتيجيا عميقا يمكن أن يؤدي إلى نتائج عكسية. المشكلة تكمن في أن التسريع غير
المدروس للانتقال من مرحلة إلى أخرى يجعل الهوية الوطنية هشة، ذلك لأن الأسس التي
تقوم عليها غير مكتملة بعد.
على المستوى القُطري، وجدت بعض هذه
المجتمعات نفسها تعتمد على إسقاط مفاهيم مثل الدولة الوطنية على واقع لم يهيأ لذلك
بعد. هذا الانتقال غير المدروس خلق نموذجا سياسيا مشوها، حيث ظهرت دول تحمل أسماء
وطنية لكنها تحكم بمنطق الولاءات التقليدية، ما جعلها عرضة للانهيار عند أول
اختبار سياسي أمني. وعلى المستوى القومي، وجدت مجتمعات أخرى نفسها ضمن سياقات لا
تعبر عنها، ما عرقل كل محاولات التحرر. وعليه، أصبح الحديث عن التحرر بلا معنى،
لأن الدولة نفسها، على المستويين، لم تكتمل بعد ككيان قادر على فرض سيادته داخليا
قبل أن يطالب بها خارجيا.
إن الهوية الوطنية لا يمكن فرضها بالقوة
أو تحقيقها بقرارات فوقية، بل تتشكل من خلال مراحل تدريجية يتم فيها ترسيخ القيم
المشتركة، ويعاد فيها تعريف الانتماء بطريقة مقبولة لدى جميع الفئات؛ لأن الأفراد
لا يتخلون عن هوياتهم الفرعية لصالح الهوية الوطنية إلا عندما يجدون فيها ضمانا
لمصالحهم الاقتصادية والأمنية والسياسية. لذلك، ينبغي تبني نهج أكثر واقعية من
خلال إعادة بنائها على أسس اجتماعية وسياسية صلبة، تتجاوز الانقسامات، وتضع مصلحة
الجميع فوق أي مصالح فئوية.
خاتمة
إن معضلة التحرر في منطقة الشرق ليست مجرد
مشكلة استعمار أو هيمنة خارجية، بل هي أزمة داخلية تتعلق بفشل المجتمعات في بناء
هوية وطنية جامعة. وما لم يتم تجاوز هذه الأزمة، ستظل محاولات التحرر مجرد إعادة
إنتاج للتبعية بأشكال جديدة، وسيبقى الشرق عالقا في دوامة الصراعات والضعف
الداخلي.