قضايا وآراء

بين النزوح والعودة غزة لم تنكسر

أحمد عويدات
"بعودتهم يؤكدون إرادة الصمود والتحدي فيطوون ساعة النزوح المُذل ولحظة نزوحهم المقترن بالموت من كل جانب"- جيتي
"بعودتهم يؤكدون إرادة الصمود والتحدي فيطوون ساعة النزوح المُذل ولحظة نزوحهم المقترن بالموت من كل جانب"- جيتي
كان مشهدا اختصر الكثير من الصور والكلمات؛ أعدادٌ غفيرةٌ من النازحين قسرا يعودون إلى ما كان يسمى بمنازلهم وشوارعهم وأماكنهم، إنهم يعودون إلى أكوام الأنقاض والركام، فتغيب صور بيوتهم وتضمحل بين الأنقاض، وتطوي معها صفحات ومعالم ذكرياتهم والكثير من أشيائهم، إنهم يعودون من الموت إلى الحياة في رمقها الأخير وإلى حياة أعدمها القتلة، ومجرمو العصر، حياة أبادها نشر الأمراض والأوبئة، حياة قتلها البرد والصقيع، وأبادتها سياسة المجرم النتن في التجويع والتعطيش، وكأن الغزاويين "حيوانات بشرية، وليس منهم بريئون" كما وصفهم قادة الاحتلال.

الغزيّون يعودون إلى حياة فيها بعض من ماء ملوّث، وبقايا غذاء وبيت أصبح ركاما وأحلام تبخرت، يعودون هائمين على وجوههم بين بقايا آليات الدمار والموت، ولا ينظرون إلى السماء -كما كانوا يفعلون برحلة النزوح- إلى طائرة مسيرة قد تأتي عليهم بموتٍ محقق. يعودون عودة المنتصر على هذه الآليات المدمرة، يبتسمون من جديد بسمة الحياة في مواجهة الموت، وبعضهم يحمل خيمته لينصبها فوق أنقاض بيته المدمّر. يعودون بطوابير يسابق أحدهم الآخر من يصل إلى بقايا منزله أولا؛ ليبحثوا عن جثامين شهدائهم، وعن ما فقدوه من أحبة، وعن بقايا صور لأطفالهم، ولم ينسوا أن يحملوا معهم أكفانا ليكفّنوا بها من بقي تحت الركام من أُسرهم، أو ما تبقى من أشلاء أحبائهم بين الأنقاض. هناك يروون قصصا عن آخر لحظات مشاهداتهم ولقاءاتهم مع الأهل قبل استشهادهم، يجلسون على ما تبقى من أثاث منزلهم يراجعون ماضيهم ويتأملون بالمشهد الجديد،
هناك الكثير والكثير ممن يحملون آلامهم ومعاناتهم، ويغادرون باتجاه المجهول والنزوح إلى مساحات ومتاهات لا تُعرف حدودها.
ويتساءلون: من يعيد لهم أحبتهم الذين فقدوهم، ومن يعيد لهم ذكرياتهم الجميلة ولعب أطفالهم وشغفهم وحياتهم الماضية؟ ويكتفون برفع الأعلام الفلسطينية باعتزاز فوق منازلهم المدمّرة، وكأنها الرسالة التي لا يفهمها إلا من فقد شهيدا.

إنهم بعودتهم يؤكدون إرادة الصمود والتحدي؛ فيطوون ساعة النزوح المُذل ولحظة نزوحهم المقترن بالموت من كل جانب. فهناك قناص، وهناك طائرة زنانة من فوقهم، وأخرى مُسيّرة، وهنا دبابة تقذف حممها بجوارهم، إنهم يطوون نزوحا قسريا أراده الجنرالات وساسة الكنيست وبعض الغرب والعرب.

تتزاحم المشاهد من كل حدب وصوب، فهذه أمٌ تحمل رضيعها الذي يئن وسط القصف وجلجلة الدبابات وهدير الطائرات، وهناك أم تمسك بأيدي أطفالها أشباه عراة وحفاة، يهرعون باتجاه الطريق الذي حددته لهم قوات الاحتلال الغازية بانتظار قتلهم بعد حين بعيدا عن عدسات الكاميرات، وهناك جدٌّ مسنٌّ لا يقوى على السير، فيجر قدميه اللتين ترفضان مبارحة المكان، وكأنهما تصرّان على التشبث بمنزل طالما ضمّ الأسرة الكبيرة التي لم يبق منها سواه. أين يغادر وقد ترك أشلاء أبنائه وأحفاده وراءه؟ أين يرتحل وروحه عالقة هناك بين الأنقاض؟

وفي زاوية أخرى من الشارع تسير فتاة يافعة حافية القدمين، تمسك بيد أخيها الصغير وتنادي على أمها التي ابتعدت عنها ببضع خطوات؛ هاربة من موت ينتظرها وطفلها بين يديها، وهي تلتفت وراءها وتطلب من ابنتها تسريع الخطى قبل أن يقتنصها القناص، أو قبل أن يوقفها جندي ويفتشها وطفلها الرضيع بشكل مهين. ويُروى -وهذه حقيقة ليست من ضروب الخيال- أن رجلا معاقا على كرسيه يقوده الجنود على أمل أن يساعدوه ويرشدوه على الطريق، ويُعدم بدم بارد. وفي مشهد إعدام آخر، تعرض شاشات التلفزة أربعة رجال يستبقون الخطى باتجاه منازلهم على الطريق الساحلي، فتعالجهم طائرة مسيّرة فتقتلهم على مرحلتين. ولا تغيب عنا تلك الجدة التي ترفع راية بيضاء بيد وتجر حفيدها باليد الأخرى، فيتلقفها قناص ولا يبقى من المشهد المحزن إلا جثة هامدة وطفل يجثو عليها باكيا. لقد جعل الغزاة من النزوح القسري حكاية مأساوية، وجولة سياحية لمرات عديدة في أزقة وشوارع مدن غزة كافة، جولة مؤلمة مشيا على الأقدام وتحت كل المخاطر بموت قادم.

هنيئا لكم أيها الغزاويون وقد هزمتم مشاريع وأهداف أعدائكم، وإن كانت غزة مُدمرة وإن كانت عائلاتكم ثكلى، هنيئا لكم صمدتم وصبرتم، ولكن ربحتم البيع، هنيئا لكم إذ جعلتم من الموت والنزوح عودة إلى الحياة وأملا مشرقا، ولو بعد حين.

وهناك الكثير والكثير ممن يحملون آلامهم ومعاناتهم، ويغادرون باتجاه المجهول والنزوح إلى مساحات ومتاهات لا تُعرف حدودها، هل هي إلى مدارس الأونروا ومقارها، على أمل أنها بمنأى من قصف الطائرات وقذائف الدبابات؟ هل هو إلى خيم النزوح مرة أخرى لتعيد صورة النكبة الأولى عام 48؟ يبدو أنه نزوح إلى خيم التشرد من جديد، حيث انطلقت منها حياتهم الحالية، التي تُدمّر الآن مرة أخرى، ولربما ليست الأخيرة، على مقصلة نازية وفاشية نتنياهو ودعاة حقوق الإنسان، نزوحٌ لا يدركون أنه ملاذهم الأخير إلى الموت الجديد حرقا مع خيامهم.

إن من سمع لا كمن رأى، إذ لا تستطيع الكلمات بلوغ حقيقة تفاصيل الواقع المرير الذي عاشه النازحون طيلة جولة نزوحهم، سواء في الطريق إلى الملجأ الأخير أو في خيمتهم الأخيرة.

بين مشهد النزوح ومشهد العودة، تقع غزة بكل تفاصيلها شهيدة شجرا وحجرا وبشرا. وتمتد معاناتها إلى نحو 471 يوما، ذاق أهلها كل مرارات الموت والعذاب والمعاناة من كل الأنواع. بين المشهدين يقع خذلان الأشقاء القريبين جدا والبعيدين، بين المشهدين تُسجّل أعداد الشهداء رقما قياسيا، بلغ أكثر من47 ألفا وحوالي 11 ألفا من المفقودين تحت الأنقاض ونحو 110 آلاف من الجرحى، وصل أنينهم إلى كل أصقاع العالم، ومن خلالهم تم نقل حقيقة الهولوكوست الحديث والمحرقة المعاصرة.

في مشهد العودة المتواصل، يحدث أمرٌ غريب؛ ينكر فيه البعض فرح العائدين، وفرح الناجين من الموت والهزيمة، وفرح القادمين إلى حياة بل شبه حياة، ينكر هؤلاء دفق دم جديد في عروق العائدين من الموت؛ وكأنهم كانوا ينتظرون إعلان شهادة موتهم ليعودوا بدورهم على ظهر دبابات المحتل بنظاراتهم الأمريكية الصنع، ويعلنون عن جهوزيتهم للإمساك بالسلطة التي كرهها العائدون، وكرهها الصابرون المحتسبون.

كم هو عارٌ وعار! أن يقف الشقيق متفرجا على موتك بيديْ جلاديك وبمعونة يديه، لكنها تبقى مأساة انتمائنا لوحدتنا الوطنية وحبنا لأرضنا ولأهلنا.

هنيئا لكم أيها الغزاويون وقد هزمتم مشاريع وأهداف أعدائكم، وإن كانت غزة مُدمرة وإن كانت عائلاتكم ثكلى، هنيئا لكم صمدتم وصبرتم، ولكن ربحتم البيع، هنيئا لكم إذ جعلتم من الموت والنزوح عودة إلى الحياة وأملا مشرقا، ولو بعد حين.

[email protected]
التعليقات (0)

خبر عاجل