في
الشهرين الماضيين، كثّف
الإسرائيليون وحلفاؤهم الأمريكيون عمليات الإبادة الجماعية
بحق الشعب الفلسطيني، في محاولة يائسة لتقويض
المقاومة الفلسطينية بشكل نهائي.
واستهدفت حملاتهم أيضا أنصار المقاومة، بناء على اعتقادهم بأن المقاومة ستتبدد في
حال غياب
الدعم الخارجي. إلا أن المفارقة تكمن في أن إسرائيل نفسها، منذ تأسيسها
عام 1948، لم تكن لتصمد اقتصاديا أو عسكريا دون تدفقات ضخمة ومتواصلة من الدعم
المالي والعسكري والدبلوماسي الغربي. واليوم، يتجلى هذا الواقع بوضوح أكبر، حيث
أصبح من المؤكد أن إسرائيل، في غياب هذا الدعم الهائل، لن تتمكن من الاستمرار سوى
لأشهر معدودة.
ولتحقيق
أهدافها، تمكنت إسرائيل، نتيجة المساعدات العسكرية والاستخباراتية الضخمة من
الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي، من إضعاف المقاومة اللبنانية. وفي المقابل،
نجح الأمريكيون، إلى جانب تركيا وإسرائيل، في الإطاحة بالنظام السوري، الذي كان من
مناصري المقاومة الفلسطينية واللبنانية. وفي الوقت نفسه، صعّدت إسرائيل، بدعم كامل
من الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي، من عمليات الإبادة الجماعية في
غزة خلال
الشهرين الماضيين ومن هجومات المستوطنين اليهود والغارات العسكرية الإسرائيلية واجتياحها
للمدن والبلدات في الضفة الغربية. كما عززت إسرائيل من حملتها القمعية على
الفلسطينيين المحاصرين في القدس الشرقية، وكان أحدثها فرض المناهج اليهودية
الإسرائيلية العنصرية المناهضة للفلسطينيين على مدارسهم وحظر المناهج الفلسطينية،
بالإضافة إلى الاستيلاء على المنازل والمتاجر الفلسطينية من قبل المستوطنين
اليهود. أما بالنسبة للمواطنين الفلسطينيين المعزولين في إسرائيل، فقد سن النظام
الإسرائيلي أيضا عددا من التشريعات في الشهرين الماضيين تؤدي لتآكل ما تبقى لهم من
حقوق قليلة في ظل نظام الفصل العنصري الإسرائيلي.
ما
يهدف له الأمريكيون والإسرائيليون هو محاولة محو الهزائم العسكرية الهائلة التي
تعرض لها الإسرائيليون منذ السابع من تشرين الأول/ أكتوبر 2023 من الذاكرة، وتحصين
المستعمرة الاستيطانية اليهودية ضد التهديدات العسكرية المستمرة من جانب المقاومة،
وفرض إرادة إسرائيل، ليس فقط على الشعب الفلسطيني، بل وأيضا على العالم العربي
بأكمله. وبما أن الولايات المتحدة نجحت الآن في الإطاحة بكل الطغاة العرب الذين
رفضوا الأوامر الأمريكية بالتطبيع مع إسرائيل (معمر القذافي، وصدام حسين، وبشار
الأسد)، بينما عززت قوة كل الطغاة العرب الذين يخضعون بالكامل للإرادة الأمريكية
والإسرائيلية (من المغرب إلى الأردن إلى السلطة الفلسطينية وصولا إلى دول الخليج)
وينحنون لها، فإن الأمريكيين والإسرائيليين يشعرون باليقين من أن سحق المقاومة
الفلسطينية أصبح الآن في متناول اليد تماما.
يستند هذا التصور إلى قناعة أيديولوجية راسخة
لدى الولايات المتحدة الإمبريالية ودولة إسرائيل الإبادية؛ مفادها أن المقاومة
الفلسطينية لا تنتج عن الطبيعة الإبادية والعرقية للنظام الإسرائيلي الاستعماري
الاستيطاني، بل ناتجة بحسب اعتقادهم، عن الدعم الخارجي الذي يقدّم لها. ويرى هؤلاء
الاستراتيجيون الأمريكيون والإسرائيليون قصيرو النظر أنه بمجرد القضاء على مصادر
هذا الدعم ستختفي المقاومة الفلسطينية تلقائيا.
ليس
من المستغرب أن يظل جهل هؤلاء الاستراتيجيين وعنادهم في رفض التعلّم من تاريخ
المقاومة الفلسطينية ثابتا كما كان دائما. فهم يتجاهلون الحقيقة التاريخية التي
تؤكد أن المقاومة الفلسطينية انطلقت منذ ثمانينيات القرن التاسع عشر مع بداية
الاستيطان اليهودي، دون أي دعم خارجي. هذا التجاهل يعكس نظرة عنصرية وسطحية تسعى
إلى إنكار جذور النضال الفلسطيني ومشروعيته في مواجهة الاستعمار والحكم العنصري.
في
الواقع، منذ عام 1882 وطيلة تسعينيات القرن التاسع عشر، استهدفت المقاومة الفلاحية
الفلسطينية كل المستوطنات اليهودية إلى الحد الذي "لم تبق هنالك مستوطنة
يهودية واحدة لم تنخرط في صراع" مع الفلاحين الفلسطينيين الأصليين. وقد استمرت
هذه المقاومة دون انقطاع منذ ذلك الحين، وفي أغلب الفترات، ليس فقط بدون أي دعم
خارجي للفلسطينيين، بل كانت تواجه تدفقا غير محدود كما ونوعا من الدعم الخارجي المقدّم
للصهاينة لقمع الفلسطينيين. ومع ذلك، لا يرعوي هؤلاء الاستراتيجيون عن تقديم
تحليلاتهم العنصرية، التي تقلل من شأن اضطهاد الفلسطينيين بوصفه السبب الحقيقي
وراء مقاومتهم. وعلى النقيض مما حصل عليه الشعب الفلسطيني، فقد حظي المستعمرون
الصهاينة منذ نهاية القرن التاسع عشر بدعم من جميع الدول الأوروبية المستعمرة
والإمبراطورية الأمريكية، لتعزيز جهودهم في قمع المقاومة الفلسطينية للاستعمار
اليهودي والفصل العنصري. وبعد الحرب العالمية الأولى، تلقى الصهاينة دعما إضافيا
من الأنظمة العربية ومن عدد لا يحصى من العائلات الفلسطينية الغنية وملاك الأراضي
الذين تعاونوا معهم أو مع الاحتلال البريطاني للبلاد أو مع كليهما معا.
وباستثناء
مشاركة عدد محدود من المتطوعين العرب الذين انضموا إلى الثوار الفلسطينيين بشكل
فردي، تصدّى الشعب الفلسطيني للاستعمار الصهيوني بمفرده بكل ما أوتي من قوة، وواجه
الإمبراطورية البريطانية والعصابات الصهيونية خلال عشرينيات وثلاثينيات القرن
العشرين، رغم استخدام البريطانيين والصهاينة لأعنف أساليب الإرهاب والوحشية ضد هذا
الشعب الأسير. وفي النصف الثاني من ثلاثينيات القرن العشرين، أُحبطت محاولات
الفلاحين الأردنيين لمساعدة الفلسطينيين على يد الأمير عبد الله وجيشه الموالي
للبريطانيين.
أما
الدعم المزعوم الذي قدمته الجيوش العربية المحدودة، التي تدخلت في 15 أيار/ مايو
1948 لوقف التهجير الصهيوني لنحو 400 ألف فلسطيني (الذي بدأ في 30 تشرين الثاني/ نوفمبر
1947)، وللحفاظ على ما يقل عن 45 في المئة من أراضي فلسطين التي حددتها
إمبراطوريات الشمال كدولة فلسطينية في خطة التقسيم المشينة والمجحفة، التي أصدرتها
الأمم المتحدة في 29 تشرين الثاني/ نوفمبر 1947، فقد جاء بنتائج عكسية. إذ لم تكن
هذه الجيوش العربية التي افتقرت إلى التجهيز والتسليح ندا للعصابات الصهيونية التي
تفوقت عليها في العدد والتدريب والقدرات العسكرية فحسب، بل إنها فشلت أيضا في منع
التهجير الصهيوني لـ360 ألف فلسطيني إضافيين قبل نهاية الحرب، وخسرت أكثر من نصف
الـ45 في المئة من فلسطين التي كان من المفترض أن تحافظ عليها.
أما
المناطق التي تمكن الملك عبد الله (الذي أعلن نفسه ملكا في عام 1946) من الاحتفاظ
بها، فقد ضمها إلى الأردن وفقا لخطة وضعها مسبقا عبر اتفاق سري مع الصهاينة، كما رفض
الاعتراف بحكومة عموم فلسطين التي أقيمت في غزة في أيلول/ سبتمبر 1948. وحذت القوى
الإمبريالية حذوه بعدم الاعتراف بهذه الحكومة وأقرت باستيلاء إسرائيل على 78 في
المئة من فلسطين واستيلاء عبد الله على 18 في المئة منها، والتي أطلق عليها الأخير
اسم "الضفة الغربية" (فيما بقيت غزة تحت حماية المصريين حتى احتلها
الإسرائيليون مرتين، الأولى في عام 1956 والثانية في عام 1967 عندما استولت عليها
إسرائيل وأبقتها تحت سيطرتها لغاية اليوم).
في
الوقت نفسه، دعمت جميع القوى الإمبريالية الكبرى بالإضافة إلى الاتحاد السوفييتي الغزو الصهيوني عام
1948 عسكريا ودبلوماسيا، ووصل طيارون متطوعون يهود بريطانيون وأمريكيون إلى جانب ألوية يهودية
صهيونية دولية إلى فلسطين من مختلف أنحاء العالم الغربي للمساعدة في الغزو
الصهيوني لأرض الفلسطينيين. وما
زال العديد من هؤلاء المتطوعين يتوافدون إلى إسرائيل لدعم نظام التفوق العرقي
اليهودي والفصل العنصري ضد الفلسطينيين.
ومنذ
السابع من تشرين الأول/ أكتوبر، أصبحت الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي أيضا
شركاء كاملين لإسرائيل في الإبادة الجماعية المستمرة التي ترتكبها بحق
الفلسطينيين، وهي إبادة جماعية تدعمها جميع الأنظمة العربية بشكل صريح أو ضمني، بما
في ذلك السلطة الفلسطينية المتعاونة، باستثناء حزب الله وحكومة أنصار الله في اليمن، وبعض
جماعات المقاومة العراقية، والنظام السوري الذي أُسقط مؤخرا، وإيران.
لقد
ساهمت هذه الأطراف المؤيدة لإسرائيل في توفير الحماية العسكرية للمستعمرة
الاستيطانية من ردود المقاومة العربية وإيران. أما السلطة الفلسطينية، فقد لعبت
دورا رئيسا في قمع المقاومين الفلسطينيين بالضفة الغربية. وبدون هذه الحماية، كان
من الممكن أن تنكشف إسرائيل كقوة عسكرية متواضعة غير قادرة على تحقيق أي إنجاز سوى
ارتكاب الإبادة الجماعية ضد المدنيين.
على الجانب الآخر، أطلق أنصار
الفلسطينيين في العالم حملة لجعل استمرار أنصار إسرائيل ورعاتها بمساعدتها في
الإبادة الجماعية أمرا أكثر صعوبة. وشملت هذه الحملة
جهودا في الأمم المتحدة ومحكمة العدل الدولية والمحكمة الجنائية الدولية، التي
أصدرت قرارات واتهامات قانونية ضد إسرائيل، على الرغم من محاولات الولايات المتحدة
لتحييدها باستخدام التهديدات والعقوبات. كما نجحت حركة المقاطعة وسحب الاستثمارات
وفرض العقوبات (BDS) في دفع دول وشركات لسحب استثماراتها
من إسرائيل، كما فعلت النرويج مؤخرا. وعلاوة على ذلك، أدى تراجع الدعم لإسرائيل
من قبل جزء كبير من الجمهور الغربي، بما في ذلك اليهود الأوروبيون والأمريكيون،
إلى إضعاف شرعية المستعمرة الاستيطانية في الدوائر الغربية التقليديّة الداعمة لها.
بناء
على ذلك، فإن الأشهر الخمسة عشر الماضية قدمت صورة مختلطة. فمن جهة، انكشفت
إسرائيل كدولة هشّة عسكريا واقتصاديا ودبلوماسيا، غير قادرة على وقف نزيف قوتها
المتآكلة يوما بعد يوم على مختلف الجبهات، باستثناء ارتكاب الإبادة الجماعية. ومن
جهة أخرى، استمرت إسرائيل، بفضل الدعم العسكري
والمالي الهائل من الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي، في ممارسة الوحشية لتدمير
المقاومة الفلسطينية. ومع ذلك، يظل الأمر الذي يثير حيرة الاستراتيجيين الأمريكيين
والإسرائيليين هو أن المقاومة الفلسطينية، التي لم تتلق أي دعم خارجي منذ 7 تشرين
الأول/ أكتوبر 2023، ما زالت صامدة أمام عمليات الإبادة الجماعية في غزة والقمع
التعسفي في الضفة الغربية والقدس الشرقية.
وعلى الرغم من
مظاهر الابتهاج والاحتفالات في إسرائيل بما تعتبره إنجازات، يظل الفلسطينيون
مصممين على مواصلة نضالهم حتى يتم تفكيك النظام العنصري اليهودي الإبادي بشكل
كامل. ومع تصاعد العزلة الدولية التي تواجهها إسرائيل وتراجع الدعم الخارجي لها،
يبدو أن التحديات الوجودية التي تهدد إسرائيل الإبادية هي التي ستتفاقم، وليس استمرار
المقاومة الفلسطينية التي أثبتت قدرتها على الصمود في وجه محاولات القمع والإبادة،
حتى دون أي دعم خارجي. وهذا بالفعل ما يدركه الاستراتيجيون الأمريكيون
والإسرائيليون جيدا، حتى وإن حاولوا إخفاءه وتوريته.
ورغم جميع
أصناف الرعب والتدمير والإبادة الجماعية التي تمارسها إسرائيل وأسيادها الغربيون
على المنطقة، فإن هذه المحاولات لن تؤدي إلا إلى تأجيل الانهيار الحتمي لنظامها
الاستيطاني، ولن تنجح في تجنب مصيره المحتوم بالزوال.