كتب

تغيرات كبرى في الشخصية الإسرائيلية قادت إلى طوفان الأقصى.. دراسة جديدة (1من2)

تحولت معظم خيول الجيش الإسرائيلي الراكضة إلى ثيران كسولة بسبب الوهم الهائل بأن عملية أوسلو قد بشرت بعصر سلام لم تعد فيه إسرائيل تواجه تهديدا وجوديا من جيرانها الفلسطينيين والعرب..
تحولت معظم خيول الجيش الإسرائيلي الراكضة إلى ثيران كسولة بسبب الوهم الهائل بأن عملية أوسلو قد بشرت بعصر سلام لم تعد فيه إسرائيل تواجه تهديدا وجوديا من جيرانها الفلسطينيين والعرب..
ما زال طوفان الأقصى يثير الكثير من التساؤلات: كيف لحماس المحاصرة منذ 2007، أن تشن هجومها على إسرائيل؟ وكيف لم تستطع إسرائيل أن تمنعها و تردعها حتى عن مجرد التفكير فيه؟ وكيف تهاوت ركائز القوة الإسرائيلية وعقيدتها الأمنية منذ الانتفاضة الأولى وحتى الآن؟ وهل فوجئت إسرائيل بهجوم السابع من أكتوبر أم أصابها العمى الاستراتيجي، ففشلت في منعه رغم التفارير وتوافر المعلومات المؤكدة لحدوثه؟

نجد الإجابة على هذه الأسئلة وغيرها في دراسة البروفيسور أفرايم كارش، المدير السابق لمركز بيجين السادات للدراسات الاستراتيجية، في دراسته المنشورة بمجلة شئون إسرائيل ISRAEL AFFAIRS، في 9 أكتوبر 2024، وعنوانها: "من أوسلو إلى بئيري: كيف أدى وهم السلام الذي دام 30 عاما إلى مذابح حماس في 7 أكتوبر"، والتي تكشف عن جوانب ضعف خطيرة في العقلية والنفسية الإسرائيلية على كافة المستويات.

ونقدم في هذه القراءة عرضا موجزا لها:

النبوءة التي تحققت

في 11 أكتوبر تشرين الأول 1947، هدد الأمين العام لجامعة الدول العربية عبد الرحمن عزام، بأن قرار الأمم المتحدة بإنشاء إسرائيل سيؤدي إلى "حرب إبادة ومذابح خطيرة كمذابح المغول أو الحروب الصليبية". لم يتحقق هذا التهديد آنذاك؛ لكن بعد 76 عاما بالضبطـ، في 7 أكتوبر تشرين الأول 2023، هاجم آلاف من مقاتلي حماس مستوطنات غلاف غزة، وقتلوا 1300 إسرائيلي في أكبر مذبحة لليهود منذ المحرقة.

بُني سلام أوسلو، على وهم أن الفلسطينيين تحولوا إلى شريك سلام حقيقي. المشكلة في هذا المنطق هي أن السلام يُصنع مع الأعداء الذين هُزموا بشكل شامل، أو خاب أملهم في استخدام العنف: وليس مع أولئك المتشبثين بالمقاومة والهدف الاستراتيجي: فلسطين من النهر إلى البحر. وقد قُتل السنوات التي تلت أوسلو، أي أربعة أضعاف متوسط عدد القتلى قبلها. ثم جاء 7 أكتوبر، فضاعف هذه التكلفة البشرية بضربة واحدة.
كيف وقعت إسرائيل في نفس حيلة استخدام يوم يهودي مقدس لشن هجوم شامل في الذكرى الخمسين لهجوم يوم الغفران عام 1973؟ كيف فشلت أجهزة الاستخبارات الإسرائيلية في اكتشاف عملية بهذا الحجم كانت قيد الإعداد لسنوات؟ أين كان الجيش بقدارته الهائلة خلال هذا اليوم؟ في هجوم السابع من أكتوبر، لم يتم رؤية طائرة واحدة لساعات، على الرغم من أن الهجوم وقع على مرمى حجر من بعض القواعد الجوية؛ فقط حاولت بضع طائرات هليكوبتر هجومية يائسة وقف الطوفان الحمساوي.

العمى الاستراتيجي وشلل في التفكير والتصرف

في 7 أكتوبر، في الساعة الرابعة صباحا، وقبل الغزو بساعتين ونصف، تمت استشارة هاتفية طارئة شارك فيها رئيس الأركان، وقائد الجبهة الجنوبية، ورئيس العمليات، ورئيس الشاباك. نوقش فيها مؤشرات اللحظة الأخيرة على غزو حماس الوشيك، لا سيما التشغيل المتزامن للعديد من بطاقات الهاتف المحمول الإسرائيلية من قبل مقاتلي حماس، ونقل القيادة إلى مخابئ تحت الأرض. انتهت المشاورة بقرار مواصلة استكشاف الأمر في الصباح. ولم يتم تنبيه أحد إلى الخطر الوشيك: لا قائد فرقة غزة، ولا قائد سلاح الجو، ناهيك عن وزير الدفاع أو رئيس الوزراء. وكان الإجراء الاحترازي البسيط الوحيد الذي تم اتخاذه هو إرسال فرقة صغيرة لمكافحة الإرهاب تابعة للشاباك إلى جنوب إسرائيل.

لغز بلا إجابة

غاب عن هذه المكالمة التشاورية رئيس الموساد، الذي كان في عطلة عائلية في إيلات رغم أن مساعده أيقظه الساعة الثالثة صباحا، وأبلغه بالمؤشرات المتواترة على هجوم وشيك لحماس، فرفضها فورا، وأستأنف نومه. لا يزال لغزا لماذا لم يصر رئيس الأركان على مشاركة رئيس الموساد في المشاورة؟ ربما كان يعلم أن هذا لن يحدث فرقا كبيرا، أو ربما لم يثق في رأيه، أو ربما أغلق رئيس الموساد هاتفه لمنع المزيد من التطفل عليه في إجازته رغم أنه كان على علم بخطة غزو حماس لأكثر من عام.

كيف يمكن للمستويات الأمنية العليا في إسرائيل أن تخون بهذه القسوة المجتمعات الحدودية والجنود المكلفين بحمايتهم، الذين قُتل منهم الكثير في أَسرتهم؟ كيف يمكن أن يفشلوا في تنبيه رؤسائهم السياسيين إلى خطر واضح على الأمن القومي الإسرائيلي؟

الرفض العنيد لقبول الواقع

إن الفهم الكامل للعقلية الكامنة وراء هذا التقصير الهائل في أداء الواجب يتطلب تتبع تطور هذا التقصير على مدى ثلاثين عاما منذ أوسلو وحتى اليوم، وخصوصا في العام الذي سبق السابع من أكتوبر. إنه الرفض العنيد لقبول الواقع رغم كل الأدلة المتاحة.

وقد ساهم في إنتاج هذه العقلية:

ـ الإذعان لتحويل الضفة الغربية وقطاع غزة إلى كيانات مقاومة لا يمكن القضاء عليها، مما تسبب في قتل ألفي إسرائيلي، وبلغت ذروتها في 7 أكتوبر. ولولا هذا العمى المتعمد ما حدثت هذه الكارثة.

ـ إضعاف الجيش، واستبدال روحه الهجومية بنهج رد الفعل بعيدا عن السعي التقليدي لتحقيق النصر، وتجاهل أو التقليل من التهديدات التي تواجه إسرائيل لتجنب اللجوء إلى تدابير وقائية.

ـ موجة عارمة من العصيان المدني في 2023 بين اليهود الإسرائيليين، والتي هددت بتقويض القدرات العملياتية للجيش الإسرائيلي وتمزيق النسيج الاجتماعي والسياسي الإسرائيلي. وقد ساعد ذلك في إقناع حماس بأن الوقت قد حان لتنفيذ "عملية طوفان الأقصى" التي خططت لها منذ فترة طويلة.

وهم قاتل

بُني سلام أوسلو، على وهم أن الفلسطينيين تحولوا إلى شريك سلام حقيقي. المشكلة في هذا المنطق هي أن السلام يُصنع مع الأعداء الذين هُزموا بشكل شامل، أو خاب أملهم في استخدام العنف: وليس مع أولئك المتشبثين بالمقاومة والهدف الاستراتيجي: فلسطين من النهر إلى البحر. وقد قُتل السنوات التي تلت أوسلو، أي أربعة أضعاف متوسط عدد القتلى قبلها. ثم جاء 7 أكتوبر، فضاعف هذه التكلفة البشرية بضربة واحدة.

عيون مغلقة تماما

إن قدرة الفلسطينيين على مواصلة خداع السلام قد تعززت بسبب التعب المتزايد للمجتمع الإسرائيلي وتوقه إلى الحياة الطبيعية التي من شأنها أن تسمح له بالتمتع بثرائه المكتسب حديثا. حتى رابين، الذي كان معروفا على نطاق واسع باسم "سيد الأمن"، كان مدفوعا إلى عملية أوسلو بسبب الخوف من أن المجتمع الإسرائيلي قد فقد القدرة على تحمل وخوض صراع طويل الأمد.

بيريز، الذي دفع رابين إلى عملية السلام مع الفلسطينيين، لم ينظر إلى أوسلو على أنها نهاية الصراع فحسب، بل على أنها الطريق لـ "شرق أوسط جديد يكون نقطة محورية روحية وثقافية للعالم بأسره.

حتى شارون بعد انسحابه الأحادي الجانب من غزة، ادعى أنه في أواخر الثمانينيات كان مؤيدا لحل الدولتين عندما حاول إقناع رئيس الوزراء إسحاق شامير بالحاجة إلى تسوية إقليمية: "لا نريد حكما إلى أجل غير مسمى على ملايين الفلسطينيين الذين يضاعفون أعدادهم كل جيل".

أما أولمرت، أحد أكثر السياسيين تشددا في الليكود، فقد تحول بعد أوسلو إلى "صانع سلام"، وقال: "لقد تعبنا من القتال، وسئمنا من هزيمة أعدائنا. نريد أن نعيش في بيئة مختلفة تماما من العلاقات مع جيراننا".

إضعاف الجيش.. خيال "الجيش الصغير الذكي"

سببت الانتفاضة الأولى إرهاقا متزايدا للمجتمع الإسرائيلي، وتوقا إلى الهدوء والحياة الطبيعية. وبدا رابين مقتنعا بمحدودية القوة العسكرية الإسرائيلية. وقال رئيس الأركان دان شومرون بعد عام من بدء الانتفاضة: "لا يوجد شيء اسمه القضاء على الانتفاضة، لأنها في جوهرها صراع قومي". إذن، فقد استبعد قائد الجيش فعليا فكرة النصر، وحدد دور الجيش في شراء الوقت للحكومة لإيجاد حل للصراع.

اكتسبت هذه العقلية الانهزامية زخما كبيرا في عهد إيهود باراك كرئيس للأركان، مع عواقب وخيمة على القدرات والروح القتالية للجيش. فقد جعل مفهوم "الجيش الصغير والذكي" السمة المميزة لفترة ولايته، واستخدم عملية أوسلو نقطة انطلاق لتحقيق هذه الفكرة. وأدى هذا المنطق إلى تخفيض مطرد للقوات البرية لصالح الاعتماد الساحق على القوة الجوية والأسلحة المتطورة التي يُنظر إليها على أنها الحاجز النهائي أمام التهديد الوجودي الوحيد المتبقي: سعي طهران للحصول على أسلحة نووية. وترافق ذلك مع انخفاض مماثل في التشكيلات القتالية للجيش من 16 فرقة عام 1991 إلى 12 فرقة في 2013، وانخفاض القوات المدرعة من 12 فرقة عام 1991 إلى 7 فرق في 2013. واستمرت هذه العملية على قدم وساق في فترة الربيع العربي حيث بدا أن خطر نشوب حرب متعددة الجبهات قد انحسر أكثر بعد الاضطرابات الإقليمية الناجمة عن "الربيع العربي". وفي أواخر عام 2011، تنبأ وزير الدفاع بإضعاف قدرة إيران وحزب الله على محاربة إسرائيل. وردد هذا التوقع وزير الشؤون الاستراتيجية، الذي قال: بدلا من السعي إلى إحباط حصول حزب الله على الصواريخ والقذائف، يجب على إسرائيل ألا تفعل شيئا وتسمح لهذه الترسانة الضخمة "بالتعفن".

إن قدرة الفلسطينيين على مواصلة خداع السلام قد تعززت بسبب التعب المتزايد للمجتمع الإسرائيلي وتوقه إلى الحياة الطبيعية التي من شأنها أن تسمح له بالتمتع بثرائه المكتسب حديثا. حتى رابين، الذي كان معروفا على نطاق واسع باسم "سيد الأمن"، كان مدفوعا إلى عملية أوسلو بسبب الخوف من أن المجتمع الإسرائيلي قد فقد القدرة على تحمل وخوض صراع طويل الأمد.
وفي الوقت الذي استمر فيه الحشد العسكري لحزب الله وحماس على قدم وساق؛ تم تقليص سلاح المدرعات، وتسريح مائة ألف من جنود الاحتياط، وتقصير الخدمة الإلزامية للرجال. وتم التركيز على أنظمة أسلحة عالية التقنية.

بحلول 7 أكتوبر 2023 ، كان الجيش الإسرائيلي يتألف من 1300 دبابة فقط، منها 600 دبابة فقط من ميركافا 4، أقل من ثلث قوتها عند إطلاق عملية أوسلو، مجمعة في 5 فرق مدرعة مقارنة ب 12 فرقة في عام 1991. هذا في الوقت الذي كانت فيه إسرائيل تصدر مئات الدبابات المنتجة ذاتيا إلى الجيوش الأجنبية، ولا سيما التي تم الاتفاق مؤخرا على بيع 200 ميركافا MkII/III إلى المغرب.  ونتيجة لذلك، لم تتمكن إسرائيل في الحرب الحالية من تنفيذ عمليات هجومية متزامنة على أكثر من جبهة، وهي نكسة استراتيجية لم يحدث مثلها حتى في حرب 1948.

وقد تفاقم هذا المأزق العملياتي بسبب النقص الرهيب في الذخيرة الأسلحة الذي رافق الانحطاط المطرد للصناعات العسكرية الإسرائيلية "منخفضة التقنية" في عهد أوسلو. وأدى إغلاق خطوط إنتاج الذخيرة والعتاد الحربي إلى النقص الذخائر في الحرب الحالية والاعتماد الشديد على الإمدادات الأمريكية.

التحول من خيول راكضة إلى ثيران كسولة

في مناقشة النجاح في حرب السويس 1956، والتي دمرت فيها الجيش المصري في سيناء واحتلت شبه جزيرة سيناء في 10 أيام، أشاد رئيس الأركان موشيه ديان بحظه في الاضطرار إلى كبح جماح الخيول الراكضة بدلا من حث الثيران الكسولة.

بعد أربعين عاما، تحولت معظم خيول الجيش الإسرائيلي الراكضة إلى ثيران كسولة بسبب الوهم الهائل بأن عملية أوسلو قد بشرت بعصر سلام لم تعد فيه إسرائيل تواجه تهديدا وجوديا من جيرانها الفلسطينيين والعرب، بل مجرد تهديد يمكن التحكم فيه من المنظمات المتطرفة. ونتيجة لذلك، امتلأت هيئة الأركان بضباط مطيعين ومتواضعين، وتخلى الجيش عن سعيه الدائم لتحقيق نصر سريع، والاكتفاء باستراتيجية "جز العشب" التي سعت إلى احتواء هذه المنظمات وإنهاكها والقضاء الصبور على قدراتها. وتأجيل الحريق التالي لأطول فترة ممكنة. اكتسبت هذه الاستراتيجية زخما بسبب الاعتقاد بأن هذه المنظمات تمثل مثلا قومية أو إسلامية عميقة الجذور ولا يمكن هزيمتها بقوة السلاح.

في 24 أيار/مايو 2000، كان رئيس الوزراء باراك مدفوعا بنفس المنطق، فأسرع بالانسحاب من جانب واحد من جنوب لبنان تاركا وراءه أسلحة ثقيلة ومعدات عسكرية. كان ينظر إلى هذه الخطوة في العالم العربي على أنها هزيمة للجيش الإسرائيلي القوي من قبل قوة حرب عصابات صغيرة ولكنها مصممة وساعدت في إشعال "انتفاضة الأقصى". إذ لم تستطع إسرائيل تحمل 20-25 قتيلا سنويا في القتال ضد حزب الله، وهو عدد أقل من عشر عدد القتلى على طرقها.

مكن هذا الانسحاب من ازدياد وتوسع قوة حزب الله إلى أبعاد هائلة، وتعزيز قبضته على لبنان، وتحويل جنوب لبنان إلى معقل له ونقطة انطلاق للهجمات على الأراضي الإسرائيلية، وسخر أمينه العام من إسرائيل ووصفها بأنها "أضعف من شبكة العنكبوت".
التعليقات (0)
الأكثر قراءة اليوم