أفكَار

الشيخ عمر المختار.. قائد مُلهم لقادة المقاومة والكفاح الوطني في فلسطين والعالم

لا شك أن الشيخ عمر المختار كان القائد المحوري الذي دارت حوله رحى المقاومة الليبية، حيث التف المجاهدون حوله كما يلتف السوار بالمعصم.
لا شك أن الشيخ عمر المختار كان القائد المحوري الذي دارت حوله رحى المقاومة الليبية، حيث التف المجاهدون حوله كما يلتف السوار بالمعصم.
في صفحات تاريخ الكفاح الشعبيّ، يبرز الشيخ المجاهد عمر المختار (رحمه الله) قائدًا مُلهِمًا، ورمزًا خالدًا في ضمير الشعوب الساعية لنيل الحرية والتخلص من قيود الظلمِ والاستعمارِ. ولم يكنْ عمر المختار قائدًا عسكريًا وحسب، بل كان شعلةً مضيئةً، ونموذجًا يُحتذى لكلِّ من واجه الظلم، واستُبيحتْ أرضُه، ولكلّ من اقتفى أثر القادةِ الربانيينَ والمجاهدينَ الصادقينَ، سواءً في ليبيا أو فلسطين أو في أيّ بقعةٍ من بقاع الأرض. وتجربتُهُ في مواجهة المستعمر الإيطاليّ تبقى درسًا لا يُنسى في الصبر والثبات على العقيدة، ورمزًا للتضحية في سبيل الله وحرية وطنه. فقد جاهد عمر المختار ضدَّ الغزاة الذين سعوا لتشويه عقائد الناس وتدمير أرض المسلمين، فكان دفاعه عن دينه ووطنه نابعًا من إيمانه العميق، واستجابةً لأوامرِ الله واتباعًا لهدي نبيّه ﷺ. وهكذا، أصبحتْ مسيرته مصدرَ إلهامٍ للقادةِ والمقـاومينَ عبرَ الأجيالِ، محفِّزةً لهم على الصمودِ والعطاءِ.

وإنَّ ما ارتكبه المستعمر الإيطاليّ في ليبيا من اغتيالاتٍ لرموزِ الجهادِ والمقاومةِ، وبناءِ سجونٍ جماعيةٍ، وتهجيرِ القبائلِ والعائلاتِ الليبية، نراهُ يتكرر اليوم في فلسطين على يد مستعمرٍ اِستيطانيٍّ آخر. ولا تزالُ قوى الاحتلال الغاصب تمارس الأعمال الوحشيةَ ذاتَها، لتفتيتِ وحدة الشعوب، وإضعاف عزيمتِها. ولكنْ كما كانَ المختار منارةً للمقاومةِ، يظلُّ إرثه الحيُّ يُذكّرنا بأنّ الشعوب التي تستلهمُ من قادتها العظماء لا تُهزم، وأنّ النضال مستمر ما دام الحقُّ في جانبها. 

ـ حوار المقاوِم والمحتل.. بين القائد عمر المختار والجنرال الإيطالي غراسياني 

عندما سَأل قائد الجيش الإيطالي في ليبيا الجنرال رودولفو غراسياني (Rodolfo Graziani) الشيخ المجاهد عمر المختار (رحمه الله) أثناء التحقيق معه بعد الأسر، لماذا حاربتَ الحكومة الفاشية بشدة متواصلة؟ قال المختار: لأن ربي يأمرني بذلك.

فسأله الجنرال غرسياني: هل كنت تأمل في يوم من الأيام أن تطردنا من برقة، وإمكانياتك الضئيلة، وعددك القليل؟

فأجاب المختار: لا هذا كان مستحيلاً.

غرسياني: إذن ما الذي كان في اعتقادك الوصول إليه؟

المختار: طردكم من بلادي لأنكم مغتصبون، أما الحرب فهي فرض علينا، وما النصر إلا من عند الله.

فرد عليه غرسياني: لكن كتابك (القرآن)، يقول: "وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ".

رد عليه عمر المختار: نعم.. ولكن كما قلتُ لك من أجل وطني وديني!

فرد غرسياني: أنت تحارب من أجل المنظمة السنوسية؛ وتلك المنظمة التي كانت السبب في تدمير الشعب والبلاد على السواء، وفي الوقت نفسه كانت تشغل أموال الناس بدون حق، وهذا الحافز الذي جعلك تحاربنا، لا الدين والوطن كما قلت..

إنَّ ما ارتكبه المستعمر الإيطاليّ في ليبيا من اغتيالاتٍ لرموزِ الجهادِ والمقاومةِ، وبناءِ سجونٍ جماعيةٍ، وتهجيرِ القبائلِ والعائلاتِ الليبية، نراهُ يتكرر اليوم في فلسطين على يد مستعمرٍ اِستيطانيٍّ آخر.
هنا نظر عمر المختار نظرة حادة إلى غرسياني، وقال: لست على حق فيما تقول ولك أن تظن كما ظننت، ولكن الحقيقة الساطعة التي لا غبار عليها أنني أحاربكم من أجل ديني ووطني لا كما قلت...

وبعد حوار طويل، أجاب عمر المختار بقوله تعالى: "قُل لَّن يُصِيبَنَآ إِلَّا مَا كَتَبَ ٱللَّهُ لَنَا".

اتبّع السفاح الإيطالي غراسياني سياسة العقاب الجماعي، والإجرام الممنهج، ردًا على صمود عمر المختار ورجال المقاومة الليبية، واستمرار المقاومة بعد استشهاده. وحينذاك، واجه الشعب الليبي المحتل الإيطالي بكل صلابة وقوة وإباء، مؤمنين بالنصر والتحرير، متيقنين أن مقارعة الظالمين، وردّ المعتدين هي استجابة لأمر الله، وأن الخلاص من الاحتلال الغاشم هو حق مشروع لكل الشعوب المظلومة على أرضها. والمشهد يتكرر اليوم في غــ.زة هاشم، حيث يواجه الشعب الفلسطيني المقاوم مُحتلاً غاصبًا، متمسكًا بحقه التاريخي في أرضه حتى تحريرها.

ـ سياسة المستعمر الإيطالي تجاه الحاضنة الشعبية للمقاومة الليبية

بدأ جزار برقة، غراسياني، بتنفيذ سياسة قمعية، تستهدف عزل المجتمع الليبي "الحاضنة الشعبية" عن المقاومة الليبية الصامدة، حيث جمع الأتباع السنوسيين من شيوخ الزوايا، وأئمة المساجد، ومعلمي القرآن الكريم، مع ذويهم وكل من يرتبط بهم بصلة قرابة أو علاقة. كما شمل الأمر مشايخ وأعيان القبائل، وكل من تربطه أي صلة بالمجاهدين أو المهاجرين. حيث تم اقتياد هذه المجموعات إلى مراكز التعذيب، ومن ثم إلى السجون، دون أن يشفع لهم كبر السن أو براءة الطفولة أو العجز الجسدي.

وقد اعتمد الطليان، بقيادة غراسياني، على إنشاء وتوسيع معتقلات جديدة في مناطق مثل بنينة والرجمة وبرج توبليك في برقة. وكما خصص غراسياني مواقع مثل العقيلة والبريقة والمقرون وسلوق لتكون مراكز للاعتقال والنفي والتعذيب الجماعي لسكان منطقتي الجبل الأخضر والبطنان، حيث تم نقل نحو 80 ألفاً من القبائل إلى هذه المعتقلات. ولم تكن هذه المعتقلات سوى مقابر حية، حيث دُفن فيها الأحياء مع الأموات، فخُصص معتقل العقيلة والبريقة لقبائل العبيدات والمنفا والقطعان والشواعر والمسامير، وبعض عائلات الإخوان السنوسيين وسكان الجغبوب، وبعض من سكان بنغازي ودرنة. وكما أُسندت إدارة هذه المعتقلات إلى جنرالات إيطاليين اشتهروا بالظلم والوحشية، مثل كسوني وباريلا.

وبذلك، سعى غراتسياني إلى الانتقام من القبائل التي دعمت المقاومة الليبية، فجمع القبائل المنتشرة في الجبل الأخضر داخل معتقلات محاطة بالأسلاك الشائكة، حيث شهدت هذه الأماكن أهوالًا لا يتصورها عقل. اشتدت المحنة، واعتدى الطليان على الأبدان والأموال والأعراض، وكانت هذه المرحلة من أصعب المراحل التي عاشها الشعب الليبي تحت وطأة الاحتلال (عمر المختار، نشأته وجهاده، البربار، ص113 إلى 149).

وصف مراسل جريدة ألمانية، بعد زيارته لمعسكرات الموت التي احتجز فيها غراتسياني أكثر من 80 ألف مدني ليبي، مشاهدًا مأساوية فقال: "إن الحالة في تلك المعتقلات تفوق كل تصور، حيث يبلغ معدل الوفيات بين الأطفال 90%، وأمراض العيون منتشرة بكثرة، وتنتهي في معظمها بالعمى، ويكاد لا ينجو أحد من الأمراض. وأما الغذاء، فلا يجدر بنا التحدث عنه؛ فالوضع مأساوي إلى حد لا يوصف. والأكثر إيلامًا هو معاناتهم تحت الأسلاك الشائكة، رمز الأسر. ورغم التلاصق الشديد للخيام، وضيق المساحة، فإن إحاطتها بالأسلاك الشائكة هو تناقض لا يمكن للعقل أن يستوعبه" (عمر المختار، علي محمد الصلابي، ص55).

سعى غراتسياني إلى الانتقام من القبائل التي دعمت المقاومة الليبية، فجمع القبائل المنتشرة في الجبل الأخضر داخل معتقلات محاطة بالأسلاك الشائكة، حيث شهدت هذه الأماكن أهوالًا لا يتصورها عقل. اشتدت المحنة، واعتدى الطليان على الأبدان والأموال والأعراض، وكانت هذه المرحلة من أصعب المراحل التي عاشها الشعب الليبي تحت وطأة الاحتلال
وعندما خرج عدد كبير من قادة ورموز المقاومة الليبية إلى منفاهم في مصر، قرر غراسياني مدّ الأسلاك الشائكة على الحدود الليبية المصرية التي رسمها الاستعمار، حيث امتدت لأكثر من 300 كيلومتر من البحر المتوسط إلى ما بعد الجغبوب. وتكبدت إيطاليا تكلفة هذا المشروع بأكثر من عشرين مليون فرنك إيطالي. ورغم ما اِدّعاه غراتسياني من أن هذه الأسلاك ساعدت في القضاء على الثوار، وعمليات التهريب، ومنعت إمدادات السلاح والمؤن والمال للمقاومة الليبية من المهاجرين الليبيين في مصر (برقة الهادئة، غراسياني، ص229-233)، إلا أن النهاية جاءت مختلفة تمامًا؛ إذ خرجت إيطاليا من ليبيا، ونالت ليبيا حريتها واستقلالها، وبقي شعبها شامخًا.

عمر المختار قائد مُلهم.. بين كفاح الشعبين الليبي والفلسطيني

رغم أن سياسة تجميع القبائل والعائلات الليبية في المعتقلات الجماعية، بدأت في عهد عمر المختار، وأثّرت على تواصل المقاومة مع حاضنتها الشعبية، وقدرتها على الحصول على الإمدادات، إلا أن ذلك لم يمنع استمرار الكفاح الليبي ضد المستعمرين الغاصبين. فقد تطورت خطط المجاهدين والأحرار في ليبيا، حيث اعتمد المختار على أساليب جديدة تتماشى مع المرحلة، مركّزاً على عنصر المباغتة، ومفاجأة القوات الإيطالية، بعد استطلاع تحركاتها ومواقعها. وهذا النهج البطولي، هو ما اتبعه المقاومون في فلسطين، حين حاول العدو المحتل الضغط على قواعدهم الشعبية الصامدة. ورغم المعاناة والحصار، والمجازر، بقيت المقاومة وفية لعهدها، وألحقت بالعدو خسائر فادحة، وتذيقه مرارة الحرب، كما فعل المختار ورجاله بالإيطاليين.

حتى غراسياني نفسه لم يستطع إلا أن يشيد بحكمة، وإقدام الشيخ عمر المختار والمقاومة الليبية، حيث اعترف في مذكراته، قائلاً: "عمر المختار، قبل كل شيء، لم يستسلم أبداً؛ لأن أسلوبه في القتال يختلف عن غيره من القادة. فقد كان بطلاً في إفساد الخطط وسرعة التنقل، مما جعل من الصعب تحديد موقعه لتوجيه الضربات له ولجنوده... بينما كان غيره من القادة يهربون بسرعة البرق عند الخطر، متجهين إلى مصر، تاركين جنودهم لمصير مجهول. وأما عمر المختار، فقد كان مختلفاً؛ يكافح حتى آخر لحظة، ثم يغيّر خطته ويسعى دائماً لتحقيق أي تقدم، مهما كان ضئيلاً، لرفع الروح المعنوية والمادية للمقاتلين. وعندما تنفد الخيارات، يسلم أمره لله، كمسلم مخلص لدينه، مؤمناً بقضاء الله وقدره" (برقة الهادئة، غراسياني، ص119ـ 227).

ولا شك أن الشيخ عمر المختار كان القائد المحوري الذي دارت حوله رحى المقاومة الليبية، حيث التف المجاهدون حوله كما يلتف السوار بالمعصم. وقد استمر الكفاح تحت قيادته الرشيدة، وبمساندة رفاقه المخلصين مثل يوسف بورحيل، والفضيل بوعمر، وعثمان الشامي، وعوض العبيدي، وعيسى الوكواك العرفي، وعبد الله بوسلوم، وعبد الحميد العبار. وأظهرت مواقف عمر المختار براعته القيادية في أحلك الظروف، وهو يقاتل الطليان بثبات وإقدام. وهذا الالتفاف حول القيادة، يعكس ما نراه في فلسطين اليوم، حيث تتناقل المقاومة راية النضال والجهــ.اد من قائد إلى آخر، كما لو أنها تعيش معركة مؤتة جديدة في الأرض المباركة "فلسطين".

ـ أين الجنرال غراسياني؟ وأين عمر المختار الآن!؟

طوى الزمن بقدرة الله تعالى سيرة الجزار غراسياني، الذي اعترف في نهاية مذكراته أنه لا يمكنه وصف ما ارتكبه من تنكيل وإجرام ضد الشعب الليبي، من سفك الدماء وهتك الأعراض، إلى التشريد والتجويع والقتل والنفي، حيث قال: "لقد أدى هذا الوضع إلى نزوح الكثير من الأهالي إلى مصر وتونس والسودان، تاركين خلفهم أهلهم وذويهم... لقد حاسبت نفسي وضميري، وكان ذلك يجعلني لا أنام هادئًا في كثير من الليالي" (عمر المختار، علي محمد الصلابي، ص55).

ظل اِسم الشيخ عمر المختار يبرز في صفحات التاريخ كرمز من رموز الكفاح الوطني، ومجاهد عظيم؛ مُلهمًا لكل القادة الأحرار الذين ضحوا بدمائهم الزكية لتحرير أوطانهم من الغاصبين.
ولكن، بينما رحل غراسياني بجرائمه، ظل اِسم الشيخ عمر المختار يبرز في صفحات التاريخ كرمز من رموز الكفاح الوطني، ومجاهد عظيم؛ مُلهمًا لكل القادة الأحرار الذين ضحوا بدمائهم الزكية لتحرير أوطانهم من الغاصبين. كما هو الحال بين سفاحي الكيان المحتل في فلسطين؛ فسيرحل رئيس هذا الكيان كما رحل أسلافه من العتاة والمجرمين، بينما تبقى أسماء قادة الكفاح الفلسطيني والمقاومة الباسلة، منارات يهتدي بها الأجيال، وهم الذين ارتقوا دفاعاً عن أرضهم وعرضهم، سيظلون أحياء في الدنيا والآخرة (بإذن الله)، لأنهم من الشهداء، ولا نزكي على الله أحدًا.

وكأنني أرى الشوارع والمدارس والأخبار والأفلام العالمية، وأقلام الكتاب، وقرائح الشعراء، تتجسد فيها شخصيات فلسطين وقامتها العظيمة، كما الشخصيات التي دخلت التاريخ من أوسع أبوابه، مثل عمر المختار في ليبيا، وعبد الكريم الخطابي في المغرب، والأمير عبد القادر الجزائري، والملا عمر في أفغانستان، وغيرهم كثير. فرحمة الله على شهدائنا من الأولين والآخرين، ألحقنا بهم على نهج سيد الأولين والآخرين.

وهكذا، علمتنا تجربة عمر المختار أن القائد المؤمن ليس من يمسك بزمام المعركة فحسب، بل من يُلهم الأجيال، ويزرع فيهم روح المقاومة والصمود، وعمق الإيمان بالله، وحمل رسالة الإسلام، والدفاع عن الأرض والعرض والمقدسات. ولذلك، يبقى عمر المختار قائدًا خالدًا ورمزاً ملهماً لقادة المقاومة والكفاح الوطني في فلسطين والعالم، ويَربطنا جميعًا بقيم الحرية والحق والعدل والكرامة الإنسانية. فهو بثباته وبساله، يُذكّر القادة والشعوب، بأن النصر لا يُقاس بقوة السلاح فقط، بل بعزيمةٍ لا تلين، وإرادةٍ لا تنكسر.

المراجع:

ـ مذكرات "برقة الهادئة"، رودولفو غرسياني، دار مكتبة الأندلس، ليبيا، 2011م.
ـ عمر المختار، علي محمَّد الصَّلابي، الطبعة الأولى، دار ابن الجوزي، القاهرة، 2007م.
ـ عمر المختار؛ نشأته وجهاده، محمد البربار، دراسات في حركة الجهاد الليبي، ندوة علمية، مركز دراسات جهاد الليبيين ضد الغزو الإيطالي.

*الأمين العام للاتحاد العالمي لعلماء المسلمين
التعليقات (0)