تقارير

هكذا أثّرت الأغاني التراثية.. في هوية الأناشيد الوطنية الفلسطينية

بدأ انخراط المعاني الثورية في الأغاني التراثية منذ بدايات الثورة في العشرينيات، بعد أن كانت الأغاني تقتصر على المواسم والحصاد والعادات الاجتماعية كالزواج والوفيات والولادات وغيرها..
بدأ انخراط المعاني الثورية في الأغاني التراثية منذ بدايات الثورة في العشرينيات، بعد أن كانت الأغاني تقتصر على المواسم والحصاد والعادات الاجتماعية كالزواج والوفيات والولادات وغيرها..
كيف دخلت المعاني الوطنية إلى الأغنية التراثية الفلسطينية، وحوّلتها إلى أناشيد وطنية؟!

زارني في عام 2010 أستاذ جامعي سويدي، يبحث في تطور الأغاني الوطنية. فلخصتُ له حالة الأغاني الوطنية الفلسطينية، بمقطع شهير منذ ثورة 1936، نُسِب إلى الشاعر والقائد الوطني نوح إبراهيم، يقول فيه:

كنا نغني بالأعراس                       ...                        جفرا عتابا ودحية
واليوم نغني برصاص                    ...                         عالجهادية الجهادية

ويُفيد هذا المقطع عن غزارة الإنتاج التراثي الفلسطيني من جهة، وتحويل هذا التراث إلى أناشيد ثورية..

ويؤشر أيضاً إلى دور الفلاحين في الثورات ودور تراثهم الغزير فيها. وأن الثورات لم تغفل عن أغانيها المنبعثة من الأرض والبيئة، من حيث انبعثت الثورات المتتابعة.

ولا يخفى على أحد أن الجفرا والعتابا والدّحّيّة، هي أنماط أغان فلسطينية، تناظر شهرتها أغاني يا ظريف الطول والدلعونا والميجنا والزجل والشروقي وغيرها..

ومنذ بواكير النضال الفلسطيني، لم تغِب الهوية الفلسطينية بما تمثله وبما تتكون منه (الأرض والشعب واللغة والدين) عن الأغاني الوطنية الفلسطينية. فقد أرّخت هذه الأغاني فعلياً للحياة الوطنية الفلسطينية ونضال الشعب الفلسطيني ضد الاحتلال وقبله الاستعمار الغربي.

وقد برز مساران من الشعر الوطني في تلك الفترة ضمن خط الكفاح الفلسطيني، وقادهما رجلان من رجال الثورة:

الشعر الفصيح، وكان على رأسهم الشاعر عبد الرحيم محمود (أبو الطيب)، الذي لم يكتب الشعر الشعبي.

الشعر الشعبي، وكان على رأسهم نوح إبراهيم، الذي انطلق وتبعه عدد كبير من الشعراء، لم يبرزوا جميعاً، لكن استمرارية الشعر الشعبي المنطلق من التراث كانت بهم، وعلى رأسهم: أبو سعيد الحطيني ويوسف حسون.

وبالنظر إلى الشعر الشعبي الفلسطيني المنبثق من التراث، يتبين لنا أن مرحلة التأسيس بدأت قبل النكبة، حين كانت الثورة تنطلق من الريف، وكان رجالها من الفلاحين، فكانت تصعد وتخفت قوتها مع الأحداث. بل كانت تخدم الأحداث وتساهم في تثبيت قوة الثورة وتأثيرها. وليست قصة الحطّة والطربوش ببعيدة، حيث استخدمت الثورة الأغنية التراثية مع تغيير الكلمات لِحثّ الناس على اعتمار الحطّة بدلاً من الطربوش لحماية رجال الثورة من الإنجليز، فقال الشاعر:

حطّة وعقال بعشر قروش              . ..               والنذل لابس طربوش

فكان تأثيرها الشعبي والعسكري والأمني كبيراً أثناء الثورة الكبرى (1936- 1939).

بدأ انخراط المعاني الثورية في الأغاني التراثية منذ بدايات الثورة في العشرينيات، بعد أن كانت الأغاني تقتصر على المواسم والحصاد والعادات الاجتماعية كالزواج والوفيات والولادات وغيرها.. وقد شجّع على هذا الأمر وجود خط شعري فصيح ومُوازٍ لخط الشعر الشعبي، يقوده مجموعة من قادة الوعي الوطني والروح الثورية على رأسهم شاعر فلسطين إبراهيم طوقان.

وكانت المعاني الوطنية في الثورة الأولى بين 1920 و1934 تغطي معاني الثورة الشعبية والهتافات التي تنتشر في المظاهرات الحاشدة التي كانت تدعو إليها القيادات الوطنية.. وكانت ترثي الشهداء الذين سقطوا في التظاهرات أو الإعدامات أو نزلاء السجون البريطانية، وكانت تركز على الحقوق، من دون التطرّق إلى المقاومة المسلحة.

بعد العام 1934، وفي بدايات حركة الشيخ عز الدين القسام، انطلقت الأغاني الشعبية والتراثية إلى مضمار جديد، هو مضمار التحفيز على المقاومة ورفض الاحتلال وخصوصاً بين عنصر الشباب والعمال والفقراء.. وحققت انتشاراً واسعاً بين الأوساط الشعبية.

ومما انتشر في تلك الفترة، الموال الشروقي الرائع للأسير عوض، الذي وُجد بعد إعدامه مكتوباً على حائط زنزانته:

يا ليل خلي الأسير تيكمّل نواحُو
رايح يفيق الفجر ويرفرف جناحو
تـَ يْمرجِح المشنوق من هبة رياحو
وعيون بالزنازين بالسرّ ما باحوا

وفي أثناء الثورة الكبرى (1936 -1939) تحررت الأغاني من معانيها الأولى، وانطلقت بقوة في المعاني الثورية وتمجيد السلاح والشهداء والقادة، وكانت تلك المرحلة فاصلة في الاتجاه الوطني للأغاني الفلسطينية مثل "يا ظريف الطول" و"جابوا العريس" وغيرها، حيث سيطرت المعاني الوطنية على معظم الأغاني الفلسطينية، حسب كتاب غسان كنفاني "ثورة 36- 39 في فلسطين".

وعلى سبيل المثال لا الحصر، أغنية "هز الرمح"، ومطلعها:

هزّ الرمح بعود الزين                   ..              وانتو يا نشامي منين
نحنا شبابك فلسطين                   ..               والنعم والنعمتين

وقد أضاف لها الفنانون بعد معركة بيت أمرين (شمال نابلس)، فقالوا:

في بلعا ووادي التفاح                 ..                 ريح الثورة يا عالم فاح
واستشهد فيها الفلاح                  ..                  حَطّ السِّنجة في المرتين (بندقية)

في هذه المعركة الفاصلة التي دامت عشر ساعات بين القوات البريطانية ورجال الثورة في نابلس، وأسقطوا فيها طائرتين بريطانيتين.

وفي تمجيد الشهداء، قالوا:

طلّت البارودة والسبع مما طلّ
يا بوز البارودة من دمّه مبتل

حتى أن السحجة في الأعراس صارت:

ويل يللي نحاربه                     ..                  بالسيف نقطع شاربه
يابو العريس لا تهتم             ..                  احنا شرّابين الدم

وما لبثت أن همدت الأناشيد الثورية بعد الهدوء الذي عمّ المنطقة بسبب الكتاب الأبيض والاتفاق مع البريطانيين على تحقيق المطالب، وانشغال العالم بالحرب العالمية الثانية.. حتى بدأت تظهر إرهاصات نكبة 1948، فاستعاد الناس روح ثورة 1936، وقامت الثورة من جديد وقدمت الكثير من الشهداء الذين رثاهم الشعراء.

وحين حلت النكبة على الفلسطينيين، تغيرت الأغاني من الثورة إلى الحسرة والشوق والحنين..
والأغاني الثورية بعد النكبة لها بحث مستقل، سنكتبه قريباً إن شاء الله..

*كاتب وشاعر فلسطيني
التعليقات (0)