الخصومة مع الرئيس السبسي ليست شخصية، ولكن مبنية على طريقة تفكير وتصور قائمة أساسا على تقديم المصالح الخاصة على المصلحة العامة. عقلية قديمة لا تستطيع التقدم بالبلاد. مثلما كان السبسي منخرطا في منظومة المصالح الخاصة والانتهازية طيلة فترة الاستبداد، وهو كان أحد رموزها، مثلما هو منخرط في إطار ذات العقلية بعد الثورة وفي سياق تأسيس الديمقراطية. من بين أهم مؤشرات هذا الوضع هو تأثيره السلبي الحاسم على الوضع الاقتصادي في البلاد. بشكل إجمالي، كان حضور السبسي في السلطة سواء سنة 2011 عندما كان رئيس حكومة، أو منذ صعود حزبه للسلطة وتقلده رئاسة الدولة، كانت نسبة النمو بين ما تحت الصفر والواحد في المئة. ولم يكن ذلك مصادفة ولكن يرجع أساسا لتلك العقلية. لكن المعضلة الأوضح الآن أن الدور السياسي للسبسي كرئيس دولة أضحى بوضوح مضرا للوضع الاقتصادي، رغم أنه ليس له علاقة مباشرة بالاقتصاد.
منذ صعوده للسلطة وتشكيل حكومة الحبيب الصيد إلى إعلان نهايتها من جانب واحد قام السبسي بأمر أساسي، هو تجنب تحمل مسؤولية معالجة الوضع الاقتصادي الصعب رغم ادعائه المتكرر أنه يملك أربع حكومات لأربع دول. قام بذلك بالاختفاء وراء "التوافق" مع حركة النهضة، ووضع إثر ذلك رئيس حكومة من المنظومة القديمة غير متحزب. في نهاية الأمر لم يتصدر السبسي وحزبه المرحلة مثلما أفضت صناديق الاقتراع، ولم "ينقذوا" البلاد كما ادعو دائما. فحكومة السبسي لم تفعل إلا التأخر بالبلاد فبعد نسب نمو خلال حكومتي الترويكا والمهدي جمعة، تتراوح بين 2 و3% إذا عدنا إلى حالة الصفر بالمئة.
فوق ذلك واجهت الحكومات التي تلت فترة رئاسة حكومة السبسي سنة 2011 إكراهات مباشرة ناتجة عن قراراته، كان لخصها رئيس الحكومة السابق حمادي الجبالي. "ان معدل الانتدابات لسنتي 2012- 2013 هو 25000 لكل سنة، بالإضافة إلى ذلك شهدت انتدابات سنة 2012 وفي إطار تواصل الدولة تطبيق التعهدات والامضاءات التي التزمت بها حكومتا 2011 أي حكومة السيد محمد الغنوشي وحكومة السيد الباجي قايد السبسي، التي رحلت كل التزاماتها إلى حكومة ما بعد انتخابات 2011 والمتمثلة (مثلا) في: انتداب 25000 عون في قانون المالية 2011 لحكومة السيد الباجي قايد السبسي حسب مقياسي الأقدمية والوضعية الاجتماعية، وانتداب حكومة السيد الباجي قايد السبسي في" 2011" 90000 عامل في الحظائر منهم 60000 ما يزالون يتحصلون على أجر دون عمل إلى الآن، دائما في حكومة السيد الباجي قايد السبسي انتفاع أكثر من 150000 عاطل عن العمل بمنحة أمل، التي واصلت حكومتنا العمل بها، بإلزام من حكومة السيد الباجي قايد السبسي في إفريل 2011 تعهدت شركة فسفاط قفصة بانتداب 10000 عون على 4 سنوات في إطار شركات البيئة الموجودة إلى حد الآن، تعهد حكومة السيد الباجي قايد السبسي باتفاق أبرمته مع النقابات بتعميم زيادة بـ 70 دينار على موظفي الدولة كافة، مما انجر عنه عند تطبيقه زيادة في كتلة الأجور بنحو 600 مليون دينار رحلتها إلى حكومة الترويكا الأولى."
كانت حكومة السبسي الأولى بعد انتخابات 2014 تلفيقا واسعا ليس له علاقة بـ"التوافق" بما هو ائتلاف فيه حد أدنى من الانسجام؛ إذ غياب الانسجام لا يتعلق فقط بالعلاقة بين الأحزاب المشكلة للحكومة، بل يتجاوزها للانجسام داخل الحزب الواحد، خاصة حزب السبسي؛ إذ ليس هناك أي شك أن تشظي هذا الحزب بشكل واسع، بل وبشكل فضائحي تقريبا لم يضر فقط باستقرار الحكومة. أصلا كانت الحكومة تعاني من تعدد الرؤوس فيها وحملات انتخابية مسبقة لعدد من أعضائها، لمنافسة رئيس الحكومة في منصبه. ثم تجاوز ذلك إلى وضع أصبح فيه "الحزب الحاكم" إلى مصدر أساسي للتوتر والتجاذب الشديدين، وأدى ذلك إلى تركيز الأضواء على واقع اللاستقرار السياسي. وقد شددت عديد التقارير حول الاستثمار في تونس، إلا أن المصدر الأساسي لتراجعه هو وضع عدم الاستقرار.
السبب الثاني لتراجع الاستثمار الكبير في عهد السبسي، رغم الوعود بجلب استثمارات ضخمة، هو تفشي الفساد بشكل غير مسبوق. ولا يرجع ذلك لضعف مكافحة الفساد بعد الثورة فحسب، بل أيضا لتزعم السبسي شخصيا لحملة لتبييض الفساد؛ إذ إن السبسي لم يهتم بأمر منذ وصوله لقرطاج، بما في ذلك من بين مهامه المنصوص عليها في الدستور من علاقات خارجية وأمن قومي، باستثناء أمر أساسي لا يتعلق أصلا بصلاحياته: "قانون المصالحة الوطنية" وهو قانون يتعلق بتبييض الفساد في الاقتصاد بشكل أساسي. ورغم تنديد هيئات ومؤسسات دولية تعنى بمقاومة الفساد مثل "الشفافية الدولية" و"المركز الدولي للعدالة الانتقالية"، فضلا عن هيئات وأحزاب محلية بهذا القانون، فهو يصر على تمريره منذ صعوده إلى السلطة. وليس هناك أي شك وفقا لكل المنابر الاقتصادية، الليبرالية أو غيرها، بما في ذلك "تقرير دافوس"، أن التساهل مع الفساد وتبييضه لا يمكن إلا أن يضر بقدرة أي دولة على التنافسية وجلب الاستثمار.
المفارقة أن السبسي سينظم في الفترة القادمة "مؤتمرا دوليا للاستثمار" في الوقت الذي يسعى لتبييض الفساد. ورغم بعض البهرج الإعلامي فمن الواضح أنه لم يقدر على الحشد اللازم وأن وزيره المكلف بالاستثمار الدولي لم يستطع حتى الآن إقناع المستمرين بالقدوم بعدد كبير. فمثلا قائمة الوفد الأمريكي القادمة ضعيفة إلى حد أنه تم حشوها بتونسيين. وليس ذلك بالأمر الغريب خاصة عندما تسلم مهمة الترويج للمؤتمر، بما في ذلك في الولايات المتحدة، إلى شخص سيئ السمعة مثل الفرنسي دومينيك ستروس كاهن، مدير صندوق النقد الدولي السابق، المورط في قضية تحرش وشبهات أخرى أدت طرده من موقعه. المسألة تشبه منح مهمة الترويج لحملة ضد التحرش والاغتصاب لشخص صاحب سوابق في هذا المضمار.
يبقى أن من أكبر الكوارث الاقتصادية التي تسبب فيها السبسي هو قراره إنهاء حكومته الأولى في جوان 2016 عبر تصريح تلفزيوني لم يستشر فيه رئيس الحكومة ولا حتى شركاءه، واستغراق تشكيل حكومة جديدة حوالي الثلاثة أشهر، تعطلت فيها الإدارة والأهم أصبح فيها إصدار قانون الميزانية معلقا، إلى أن تم تلفيقه بشكل مخز في ظرف أسابيع قليلة.
لا يمكن المبالغة إن قلنا إن هذه هي الميزانية الأخطر في تاريخ البلاد. حيث إنها ستواجه انخرام التوازنات المالية الأكبر بعد الثورة، والعجز الأكثر خطورة، وإمكانية حتى الذهاب إلى سيناريو تقشف. وفي الوقت الذي كانت تحتاج فيه الإدارة إلى سند سياسي يوفر لها حدا أدنى من الاستقرار، لكي تستطيع العمل ضمن الآجال المعقولة، قام السبسي بتعطيلها لما يتجاوز ثلاثة أشهر، وهي تحديدا الأشهر التي تستوجب تركيزا خاصا في وزارة المالية لصياغة مشروع الميزانية.
من جهة أخرى، والأمر الأخطر، فإن حكومة السبسي الأولى، ووزير ماليتها ينتمي لحزبه تحديدا، تعهدت بأمرين متناقضين، سيجعلان وضع حكومة السبسي الثانية المسماة "حكومة وحدة وطنية" وضعا مستحيلا تقريبا. إذ تعهدت في رسالة نوايا لصندوق النقد بتجميد الأجور، ووقف الانتدابات وتجميد كتلة الأجور في حدود 13.5 ألف مليار. في حين تعهدت في اتفاقيات مع اتحاد الشغل في الوقت ذاته تقريبا برفع الأجور في السنتين القادمتين، بما يتجاوز ضرورة هذا السقف. وعندما أعلن السبسي مبادرته لحكومة "وحدة وطنية" مزيفة، اختار فيها في النهاية أقرب المقربين منه وأصدقاءه، فإنه فشل في ترويض المنظمة النقابية الأقوى. والأخيرة تتزعم عمليا الأن حملة شعبية لرفض قانون الميزانية.
في النهاية حصل السبسي على حكومة أقرب منه، لكنها حكومة بقدرة أضعف على حل المشاكل، بل إنه ساهم في مزيد تأزيم وضع كان وراء تأزيمه في الأصل.