كتب عبد الوهاب بدرخان: في العادة يتجنّب "بان
كي مون" أي قول يمكن أن يُؤخذ على وسطيته، خصوصا بين الدول الكبرى، لكن تعليقه على الشحنات اليومية من السلاح الروسي إلى سوريا كان لافتا، إذ قال إن "هذا يمكن أن يفاقم الوضع.. ولا حلّ عسكريا".
فالأمين العام للأمم المتحدة اعتبر أن المزيد من الأسلحة لمصلحة النظام السوري يعني أن النشاط الروسي موجّه أولا ضد معارضي النظام، وهذا يتناقض مع الوساطة الروسية من أجل "حل سياسي" للصراع، فيما دأب المسؤولون الروس على تأكيد أن وجهتهم الرئيسية هي محاربة تنظيم "داعش"، لكن من خارج "التحالف الدولي" الذي كان استبعدهم أساسا لسببين:
أولا: وقوفهم إلى جانب النظام المتهم باجتذاب "داعش". وثانيا: وقوفهم إلى جانب المتمرّدين في شرق أوكرانيا وإدارتهم حربا أهلية هدفها تقسيم هذا البلد.
الولايات المتحدة أُربكت بالتحرك الروسي، وإذا كانت فوجئت به فعلا فهذا يقترح أن ثمة تقصيرا استخباريا لديها، وإذا كانت علمت به ولم تثره فهي قد تأخرت الآن.
المفارقة أن الدور الروسي الجديد لم يبدأ الأسبوع الماضي، مع ذيوع الأنباء الأولى عنه، بل إنه بلغ مرحلة متقدمة جدا. ما يعني أنه عندما اجتمع وزيرا الخارجية مرارا في الفترة الأخيرة للتفاهم مجددا على إطار لـ"الحل السياسي"، كان الروس ينجزون نقلتهم المريبة على شطرنج الأزمة السورية في غفلة من الأمريكيين.
والواقع أن المراقبين مضطرون للأخذ بفرضية "المباغتة" التي أوحت بها واشنطن، وذلك لسببين على الأقل:
أولا: بدء تسريب المعلومات عن النشاط الروسي مع الإعلان عن اتصال جون كيري بنظيره سيرجي لافروف للاستفهام عما يجري وعن الأهداف.
وثانيا: أن العناصر الأولية التي نقلها الجانب الأمريكي عن الروسي كانت بدائية ومضللة من قبيل أن الأمر يتعلق فقط بشحنات عسكرية اعتادت موسكو تقديمها لنظام دمشق بناء على اتفاقات "بين الحكومتين".
لكن سيل التسريبات لم يتوقف، وإذا به خلال أيام يرسم صورة مناقضة تماما للإيحاءات الأولى، وأصبح العالم يعرف أن
روسيا طوّرت "قاعدة جوية" في اللاذقية، وتعمل على تطوير قاعدتها البحرية في طرطوس، وتبني مواطئ قدم في أكثر من منطقة، وتنقل طائرات ومروحيات وأسلحة نوعية، وقدّمت مئات الطلبات للتحليق في الدول الواقعة على خط طائراتها نحو سوريا، قبل أن تكتفي باستخدام أجواء إيران والعراق..
أي أن المعادلة على الأرض تغيّرت كليا، والأرجح أنها ستقود إلى تغييرات في المعادلات الخارجية، مع تموضع روسي مفتوح على الهدفين معا: ضرب المعارضة لتحصين النظام، وضرب "داعش" لإعادة تأهيل النظام.
هذا يؤثر استطرادا في "الحل السياسي"، إذا كان لا يزال مزمعا حقا. وفي نهاية المطاف، هذا يغيّر قواعد اللعبة كما أدارتها الولايات المتحدة طوال الأعوام الخمسة الماضية.
كررت واشنطن أن التحرك الروسي قد يؤدي إلى تصعيد النزاع، وترجمة ذلك عادة أنها ستضطر بدورها إلى تغيير سياستها. فالوضع هنا يشبه إلى حد كبير معظم المواجهات التي حصلت خلال الحرب الباردة، وهذه ليست المرّة الأولى التي يحرجها فيها فلاديمير بوتين بنهجه المستوحى من تلك الحقبة، لكن المستفيد جدا من تردد الإدارة الأمريكية ومن الثغرات والغوامض الكثيرة في سياستها، مكررا ما فعله في أوكرانيا مع فارق أن الصراع السوري يبدو مريحا أكثر لروسيا، كونها تعمل بطلب من "حكومة شرعية" لمساعدتها على التصدّي للإرهاب الذي تشكّل "تحالف دولي" بقيادة أمريكا لمحاربته مع استبعاد روسيا ونظام دمشق وإيران.
هناك تحليلات كثيرة لا يصدّق أصحابها، أن باراك أوباما يمكن أن يذهب إلى مواجهة مع روسيا خلال سنته الأخيرة في البيت الأبيض. لا شك أنه في صدد الرضوخ للأمر الواقع الروسي في سوريا، ما سيعرّضه لانتقادات قاسية داخل أمريكا، وسينعكس سلبا على مرشح الحزب الديمقراطي للرئاسيات المقبلة.
والأهم أن مجمل التصوّر الاستراتيجي لأوباما يبدو معطوبا حاليا، لأن الدور الروسي في سوريا لا يطرح تحديا لأمريكا في الحرب على الإرهاب، بل يدعوها إلى التنسيق العسكري، وإلا فإنه مقبل على تغيير مسار هذه الحرب بتشكيل تحالف آخر (روسيا وإيران وسوريا النظام).
كانت إدارة أوباما فرضت قيودا على خيارات مجموعة "أصدقاء سوريا" يوم لم يكن هناك تدخل روسي مباشر، وأملت في لعبة ثنائية "نظيفة" مع روسيا، لكن هذه الأخيرة خذلتها المرّة تلو الأخرى.
(عن صحيفة الاتحاد الإماراتية 22 أيلول/ سبتمبر 2015)