مقابلات

أطباء السودان لـ"عربي21": 80% من المرافق الصحية بدارفور خرجت تماما عن الخدمة

واقع إنساني مرير يعانيه النازحون من مدينة الفاشر- جيتي
قال الناطق الرسمي باسم اللجنة التمهيدية لنقابة أطباء السودان، ونقيب أطباء السودان في كندا سابقا، الدكتور سيد محمد عبد الله، في مقابلة خاصة مع "عربي21"، إن المنظومة الصحية في دارفور وفي مدينة الفاشر خصوصا انهارت بصورة غير مسبوقة.

وأكد أن "80% من المرافق الصحية خرجت كليا عن الخدمة بسبب تدميرها أو احتلالها من قِبل أطراف الصراع في بداية الحرب، ونتيجةً للقصف المباشر، والاقتحامات المتكررة، وتحويل بعض المستشفيات إلى ثكنات عسكرية، وهو سلوك يجرّمه القانون المحلي والدولي بشكل واضح للغاية، بينما تكاد تنعدم خدمات الرعاية الصحية الأولية مثل رعاية الأمومة أو غيرها".

وأضاف: " الكوادر الطبية نفسها باتت هدفا مُستباحا للهجمات الإجرامية، ما أدى إلى توقّف الخدمات الأساسية تماما وترك آلاف المرضى والجرحى بلا علاج"، متابعا: "حتى الآن، ووفق السجلات المتوفرة لدينا، فقدنا ما لا يقل عن 98 من الكوادر الصحية، من أطباء وصيادلة وممرضين وحتى طلاب طب، سقطوا إمّا بفعل القصف أو الاغتيالات أو أثناء قيامهم بواجبهم الإنساني".

وتابع عبد الله: "في مدينة الفاشر، كان المستشفى السعودي للولادة هو المرفق الوحيد الذي ما يزال يعمل، قبل أن يتعرض لهجمات مباشرة أدت إلى مقتل نحو 460 شخصا بين مرضى ومرافقين وكوادر طبية، وهذا الاعتداء يُعدّ جريمة حرب مكتملة الأركان، لأن المستشفى كان المنشأة الوحيدة التي تقدّم خدمات طبية أساسية لآلاف المدنيين خلال الحصار".

وأردف الناطق الرسمي باسم اللجنة التمهيدية لنقابة أطباء السودان: "المشهد ذاته تكرر في المدن الأخرى التي خضعت للحصار، حيث أدى استهداف المرافق الصحية إلى هجرة الكوادر الطبية ونقص حاد في الإمدادات، ما تسبّب في إغلاق مرافق حيوية وتوقف خدمات أساسية بالكامل، خصوصا تلك التي تعرضت للقصف المباشر".

وزاد: "رغم الجهود المحدودة من بعض المنظمات لإعادة تشغيل المرافق البعيدة عن خطوط القتال، إلا أن هذه المحاولات ما تزال تواجه قيودا شديدة؛ فالمرافق تحتاج إلى إعادة تأهيل شاملة، بينما يزداد الضغط على خدمات الرعاية الصحية الأولية مثل رعاية الأمومة والطفولة، والتحصين، والصحة الإنجابية، وهي خدمات باتت في أدنى مستوياتها في ظل هذه الظروف المعقدة جدا".

وضع كارثي بكل المقاييس
ووصف عبد الله "الوضع الإنساني والصحي في مدينتي الفاشر وبارا كارثي بكل المقاييس، خصوصا بعد التطورات الأخيرة؛ إذ سُجّلت انتهاكات خطيرة، ووقائع اختفاء قسري، ونزوح وتشريد، إضافة إلى الهول الذي أصاب السكان مما شاهدوه، ولا سيما في مدينة الفاشر، وقد تفاقم هذا المشهد مع استمرار القصف والقتال، وتشديد الحصار".

وأكمل: "هذا الواقع وضع العاملين في الحقل الصحي في دائرة الخطر؛ فهم أيضا كانوا مُستهدفين مثل بقية المدنيين، ما أدى إلى تدهور الخدمات الصحية، لأن العاملين في القطاعين الصحي والإنساني لم يعودوا قادرين على ضمان سلامتهم أثناء أداء مهامهم. ونتيجة لذلك تفاقمت الأزمة الإنسانية كثيرا، خصوصا في الفاشر التي خضعت لحصار استمر أكثر من 500 يوما رافقها منع دخول المساعدات الإنسانية".

وأضاف: "هناك اليوم أكثر من 42 شاحنة تابعة للأمم المتحدة مُحمّلة بالغذاء والمواد الطبية تقف خارج الفاشر في انتظار السماح لها بالدخول، لكن الحصار الخانق لم يُرفع إلى الآن، ما زاد من سوء الأوضاع. كما أن استمرار القتال في بارا زاد المشهد تعقيدا، حيث دخل الجيش ومعه قوات أخرى، ثم تبعهم دخول قوات الدعم السريع، ما وضع المدنيين في مرمى النيران مباشرة".

واستطرد الناطق الرسمي باسم اللجنة التمهيدية لنقابة أطباء السودان، قائلا: "أمام هذا الواقع المأساوي، لم يجد الناس أي مأوى آمن، فهربوا بأجسادهم فقط بحثا عن النجاة. يضاف إلى ذلك المعاناة النفسية العميقة التي يعيشها السكان جراء هول ما رأوه، وما تعرّض له ذووهم من قتل أو إصابة أو اختفاء أو حتى اغتصاب".


انتهاكات مروّعة
وقال: "ما شهده إقليم دارفور من جرائم وانتهاكات مروّعة يندى لها الجبين، من قتل وترويع وتهجير قسري، إضافة إلى الهجمات المتكررة على الكوادر الطبية تحديدا، يُشكّل بمجمله انتهاكا صارخا للقانون الإنساني الدولي، ويرقى إلى مستوى جرائم حرب موثّقة؛ فقد استُهدفت المرافق الصحية عمدا، وتعرّض العاملون في القطاع الطبي لاعتداءات مباشرة جعلتهم في واجهة الخطر".

وبيّن عبد الله أن "ما يحدث منذ أكثر من عامين ونصف في بلادنا يدمّي القلب؛ فالنازحون قبل خروجهم رأوا القتل يطال أقاربهم، وعاشوا الجوع لأكثر من 500 يوما، واضطر كثيرون منهم إلى أكل علف الحيوانات وأوراق الأشجار بسبب حالة الجوع التي يتعرّضون لها لأول مرة في حياتهم بشكل الشكل غير المسبوق".

ولفت إلى أن "سوء التغذية الحاد يطال الأطفال وكبار السن معا، وحالاته تتطلب علاجا عاجلا داخل المستشفيات، بينما يسير النازحون لمسافات طويلة تتجاوز 50 كيلومترا قبل وصولهم إلى طويلة أو معسكرات شمال جبل مرة، وسط ظروف إنهاك شديد وغياب أي دعم طبي كاف".

ولفت إلى "انتشار الكوليرا بصورة واسعة في دارفور عموما، وخصوصا في مدينة الفاشر، إلى جانب ظهور حمّى الضنك في الفاشر وبارا، وانتشار الملاريا بشكل كبير"، مؤكدا أن "هذه الموجة الوبائية تعود إلى التدهور الحاد في الإصحاح البيئي، وسوء أوضاع صحة البيئة، وتكدس النازحين في مساحات ضيقة تفتقر إلى الحد الأدنى من شروط النظافة والمياه الآمنة".

وتابع: "يضاف إلى ذلك ارتفاع معدلات سوء التغذية الحاد، وهو بحد ذاته مرض يهدد حياة الأطفال ويستوجب علاجا داخل المرافق الصحية، في وقت تنهار فيه المنظومة الصحية ولا تتوفر فيه المستشفيات القادرة على الاستجابة. كما أن المرضى المصابين بأمراض مزمنة، مثل ارتفاع ضغط الدم والفشل الكلوي، تدهورت أوضاعهم بشكل خطير للغاية، ومات بعضهم بصمت نتيجة انقطاع الرعاية وعدم توفر العلاج".

وأضاف: "أما الجوع، فهو عامل مضاعف للكارثة؛ إذ يؤدي لدى الأطفال إلى سوء التغذية الحاد، ويجعلهم أكثر عرضة للإصابة بالأمراض القاتلة مثل الحصبة والتهابات الرئة والإسهالات الحادة. وفي ظل غياب اللقاحات والرعاية الصحية الأساسية، يتحول أي مرض بسيط إلى تهديد مباشر لحياة الأطفال والضعفاء".

استهداف الكوادر الصحية
وأشار إلى أن "الكوادر الصحية باتت هدفا مباشرا في هذه الحرب لعدة أسباب. أولها أنهم الشاهد الأول على ما يجري من انتهاكات؛ فهم مَن يستقبل الجرحى، ويوثق الإصابات، ويشهد على طبيعة الهجمات، وبالتالي يُنظر إليهم كحاملي أدلة مُحتملة على الجرائم الواقعة ميدانيا".

أما السبب الثاني، بحسب عبد الله، يتمثل في أن "وجود الكوادر الصحية في منطقة يسيطر عليها طرف من الأطراف يجعل الطرف الآخر يصنفهم - ظلما - على أنهم تابعون للخصم؛ فيجري استهدافهم أو اعتقالهم أو حتى قتلهم باعتبارهم جزءا من الطرف الآخر، رغم أنهم عاملون محايدون لا علاقة لهم بالاصطفافات العسكرية".

وتابع: "يفترض، وفق القانون الإنساني الدولي، أن يتم التفريق بوضوح بين العاملين في القطاع الصحي وبين المقاتلين، لأن الأطباء والممرضين ملتزمون بقسم مهني وأخلاقي واضح، ويقدّمون العلاج للمريض دون أي اعتبار للونه أو جنسه أو انتمائه أو موقعه من الصراع، لكن الواقع - كما ذكرت سابقا - أن الكوادر الصحية تُستهدف لأسباب متعددة، ما يضعهم في دائرة الخطر ويجعل عملهم الإنساني محفوفا بالمخاطر الجمّة".

وذكر الناطق الرسمي باسم اللجنة التمهيدية لنقابة أطباء السودان، أنهم سمعوا وعودا من أطراف القتال بأنهم سيحاسبون مرتكبي الانتهاكات، لكن لم تحدث أي محاسبة فعلية حتى اللحظة، متابعا: "إذا لم تتوقف الحرب، وإذا لم تُنشر قوة دولية رادعة وقادرة على لجم هذا العنف والإجرام، فلن تكون هناك قدرة على حماية المدنيين أو محاسبة أي جهة".

واستطرد قائلا: "حتى في المناطق التي لا تشهد قتالا مباشرا، هناك انتشار واسع للجريمة، واعتداءات بحق الفتيات تمنعهن من الذهاب إلى مدارسهن، إضافة إلى السرقات والانفلات الأمني وغياب الدواء وغياب أي منظومة صحية فعّالة".


دعم عاجل للمنظمات الإنسانية
ولفت إلى أن "الدعم العاجل الذي تحتاج إليه المنظمات الإنسانية اليوم يشمل كل ما يمكن أن ينقذ حياة الناس، بدءا من الأدوية المنقذة للحياة، مرورا بتوفير الكوادر الطبية من أطباء وتمريض وجراحين وجراحة عظام، ووصولا إلى أخصائيي التغذية ومعالجي سوء التغذية الحاد؛ فالأزمة تجاوزت حدود الإمكانات المحلية، وأصبح أي نوع من الكفاءات الطبية جزءا من الاحتياجات الطارئة".

وأضاف: "لكن جوهر الاستجابة يكمن أساسا في تأمين ممرات آمنة لوصول هذه المساعدات، وهذا بدوره يتطلب وقفا فعليا للقتال، وتدخّلا جادا من المجتمع الدولي، بما في ذلك مجلس الأمن، لفرض هدنة إنسانية تسمح بإيصال الإغاثة لمَن هم في أمسّ الحاجة إليها".

ورأى عبد الله أن "الاستجابة الدولية ما تزال، للأسف الشديد، دون المستوى المطلوب بكثير، لأسباب تتراوح بين التعقيدات السياسية، وتضارب المصالح، وانشغال بعض الدول بحساباتها الاستراتيجية، بحيث ينظر كل طرف إلى مصلحته في استمرار القتال أو دعم جهة على حساب أخرى. هذا الواقع المؤسف أدى إلى تقاعس واضح عن تقديم العون، حتى في الجانب الإنساني البحت".

وقال: "حتى الآن، لم يُغط سوى 27% من الاحتياجات الإنسانية، وفق ما أعلنته منسقة الشؤون الإنسانية في الأمم المتحدة، وهي نسبة متدنية للغاية مقارنة بحجم الكارثة. كما أن العوائق اللوجستية ما تزال قائمة؛ إذ مُنعت الشاحنات التابعة للأمم المتحدة من دخول الفاشر منذ تموز/ يوليو الماضي، وتنتظر أكثر من 42 شاحنة خارج المدينة دون أي تقدم يُذكر. وإلى جانب ذلك، يعيق الحصار عملية استيراد الدواء ونقله بين المناطق، مما يزيد من انهيار المنظومة الصحية ويُفاقم المعاناة الإنسانية إلى مستويات خطيرة".

عمل إنساني شبه مستحيل
ونوّه إلى أن "هناك تعتيم إعلامي واسع النطاق، يرافقه منع لوصول الكوادر الإنسانية وتهديد مباشر لحياتهم؛ فقد استُشهد عدد منهم أثناء أداء مهامهم، من بينهم خمسة متطوعين من الهلال الأحمر في مدينة بارا، إضافة إلى أعداد كبيرة من الأطباء والعاملين الصحيين في الفاشر، حيث قُتل بعضهم، وفُقد آخرون، وتعرض البعض لعمليات اختطاف وطلب فدية. هذه الانتهاكات تجعل العمل الإنساني شبه مستحيل، وتُفاقم خطورة الوضع.

وواصل عبد الله حديثه بالقول: "تزداد الصورة قتامة مع انقطاع الاتصالات لفترات طويلة، ما يعوق معرفة الاحتياجات الفعلية للمناطق المتضررة، ويمنع التنسيق الضروري لوصول الإغاثة. كما أن انعدام المياه النظيفة، وتراكم النفايات، وانهيار خدمات الإصحاح البيئي، كلها عوامل تؤدي إلى تفاقم الأوبئة واتساع رقعتها".

وأردف: "في ظل هذه الظروف، يستمر الجوع ويتفاقم سوء التغذية، وتنتشر الأمراض الوبائية بسرعة أكبر، ما يرفع معدلات الوفيات بشكل مروّع ومخيف. وللأسف، أصبح الناس اليوم أمام مأساة قاسية؛ فمن لا يموت بالرصاص يموت بالجوع أو بالأمراض، في غياب أي حماية أو خدمات أساسية".

ولفت إلى أن "الظروف في الفاشر قبل دخول قوات الدعم السريع كانت بالغة القسوة؛ إذ خضعت المدينة لحصار شامل وخانق على جميع المستويات"، موضحا أن "توثيق الانتهاكات يواجه تحديات هائلة؛ فمدينة الفاشر فقدت جميع مستشفياتها، وانقطاع الاتصالات وحركة النزوح المستمرة تقيدان بشدة القدرة على جمع المعلومات، بينما ترد شهادات خطيرة من الناجين عن انتهاكات واسعة ترقى إلى فضائع يهتز لها الوجدان، كما أن غياب الأمن وغياب الممرات الآمنة يحول دون توثيق الانتهاكات منهجيا".

وطالب بأن يصحو ضمير المجتمع الدولي، وأن تتحول بياناته إلى أفعال ملموسة على الأرض، مشدّدا على أن "وقف الحرب ليس مطلبا سياسيا، بل ضرورة إنسانية لإنقاذ مئات الآلاف من الأرواح، خاصة أن المعاناة في الفاشر ودارفور بلغت مستويات لا يمكن تصورها، ولن تستطيع أي منظمة منفردة مجابهة هذه الكارثة دون دعم دولي حقيقي وفعّال".

وختم عبد الله بقوله: "لا يبدو أن هناك أي مخرج واقعي مما يجري سوى تدخل حاسم وفوري لوقف الاقتتال، وفتح ممرات آمنة، والسماح بإيصال المساعدات الطبية والغذائية العاجلة إلى السكان؛ فبدون وقف الحرب وتأمين طرق الإغاثة، ستواصل الكارثة الإنسانية اتساعها بلا حدود وستحرق الأخضر واليابس للأسف الشديد".