قالت مديرة قسم المناصرة في المجلس النرويجي
للاجئين في
السودان، ماتيلد فو، إن "ما يحدث في مدينة
الفاشر يُمثل كارثة
إنسانية غير مسبوقة وحملة تدمير ممنهجة ومتعمدة ضد المدنيين"، مشيرة إلى أن
"المدينة تخضع منذ أكثر من 18 شهرا لحصار خانق تسبب في تجويع سكانها إلى درجة
اضطرار الكثيرين لتناول طعام الحيوانات للبقاء على قيد الحياة، بينما يتعرض
المدنيون للقصف والهجمات حتى في أماكن لجوئهم وصلواتهم".
ولفتت، في مقابلة مصوّرة مع
"عربي21"، إلى أن "عدد القتلى في السودان ما يزال مجهولا بسبب
استمرار
الحرب وانقطاع الاتصالات وانهيار النظام الصحي"، مؤكدة أن
"كثيرا من الناس يموتون بصمت، لا فقط بسبب الرصاص والقصف، بل أيضا بسبب الجوع
وسوء التغذية والأمراض المعدية".
وأضافت مديرة المناصرة في المجلس النرويجي أن
"المجتمع الدولي يتحمل مسؤولية كبيرة عن تفاقم الوضع؛ فقد تُرك السودان وحيدا
وسط واحدة من أسوأ الأزمات الإنسانية في العالم"، لافتة إلى أن "أكثر من
30 مليون شخص بحاجة إلى المساعدة، و25 مليونا يعانون من الجوع، بينما لا تزال
الاستجابة الدولية تعاني عجزا تمويليا يفوق 70 بالمئة" .
ودعت فو إلى "تحرك سياسي وإنساني عاجل
لوقف القتال وتأمين الممرات الإنسانية وضمان وصول القوافل الإغاثية دون
مخاطر"، مؤكدة أن "الوقت ينفد، وأن الفاشر باتت رمزا لفشل العالم في
حماية المدنيين".
وتاليا نص المقابلة المصوّرة مع "عربي21":
ما مدى حدة الكارثة الإنسانية في مدينة الفاشر
السودانية؟
ما يجري الآن في مدينة الفاشر لا يقل عن حملة
تدمير ممنهجة ومتعمدة ضد المدنيين؛ فبعد أكثر من ثمانية عشر شهرا من حصار خانق
وعنيف، أُخضعت المدينة لتجويع قاس جعل آلاف السكان يضطرون إلى أكل طعام الحيوانات
لعدة أشهر كي يبقوا على قيد الحياة. لقد تعرّض الأهالي خلال تلك الفترة إلى قصف
متواصل، وتمت مهاجمتهم حتى أثناء صلواتهم وفي أماكن لجوئهم، دون أي تمييز بين رجل
أو امرأة أو طفل.
وفي الأيام الأخيرة، شهدت المدينة تصعيدا
مروّعا في وتيرة العنف، حيث استُهدف المدنيون عمدا أثناء محاولتهم الاحتماء أو
الفرار نحو مناطق أكثر أمنا مثل طويلة التي تبعد نحو 60 كيلومترا عن الفاشر، وتُعد
اليوم الوجهة الوحيدة التي يمكن وصفها بالأكثر أمانا خارج المدينة.
هل توجد تقديرات لأعداد الوفيات الناجمة عن
القتل والجوع والمرض على مستوى السودان عموما، وبوجه خاص في الفاشر؟
للأسف الشديد، ما زال عدد القتلى في هذا الصراع
الوحشي مجهولا؛ فمنذ اندلاع الحرب قبل أكثر من عامين ونصف، لم تصدر أي جهة رسمية
أو مستقلة حصيلة دقيقة للوفيات، وذلك لأسباب متعددة.
أولا: لأن الحرب تدور في بلد مترامي الأطراف،
يعيش نصف سكانه فعليا في عزلة تامة عن العالم بسبب انقطاع الاتصالات والإنترنت في
معظم المناطق، مما يجعل الإبلاغ عن الوفيات أو عمليات القتل أمرا شبه مستحيل. كثير
من الفظائع تحدث في الخفاء، بعيدة عن أعين الإعلام والمنظمات، ولذلك لا يمكن
الحصول على أرقام موثوقة.
ثانيا: لأن النظام الصحي في السودان انهار
انهيارا شبه كامل، وتدمّرت البنية التحتية للمستشفيات والمراكز الطبية، ما أفقد
البلاد القدرة على توثيق الوفيات أو معالجتها ميدانيا.
ثالثا: لأن الموت لا يأتي فقط من الرصاص
والقصف، بل أيضا من الجوع والأمراض المعدية وسوء التغذية الحاد. آلاف المدنيين
يموتون بصمت لأنهم لا يستطيعون الوصول إلى الرعاية الصحية أو حتى إلى مأوى يحميهم
من العدوى وسوء الأحوال الجوية.
وعليه، لا أحد يستطيع الجزم بالعدد الحقيقي
للضحايا في السودان عموما أو في الفاشر خصوصا، لكن تقديرات بحثية مستقلة أشارت قبل
أشهر إلى أن عدد القتلى قد تجاوز 100 ألف مدني، وهذا الرقم على الأرجح ارتفع كثيرا
منذ ذلك الحين.
وتصلنا مؤشرات إنسانية بالغة الخطورة؛ فهناك
تقارير تفيد أن واحدة من كل عشر عائلات في شمال دارفور تُبلغ عن أطفال ليسوا من
أبنائها، ما يعني أن آباءهم قد اختفوا أو قُتلوا أو أُسروا. هؤلاء الأطفال يفرّون
وحدهم، وتضطر عائلات أخرى إلى اصطحابهم في رحلات النزوح القاسية لحمايتهم. إنها
مشاهد تفطر القلوب وتكشف حجم المأساة، خاصة مع وصول أزمة النزوح في السودان إلى
مستويات غير مسبوقة، تُعدّ اليوم من بين الأسوأ في العالم.
ما طبيعة العقبات التي تواجهها منظمتكم
والمنظمات الدولية الأخرى في الوصول إلى السكان داخل الفاشر؟
منذ أكثر من خمسمائة يوم لم تصل أي مساعدات
إنسانية إلى الفاشر؛ فجميع الطرق المؤدية إلى المدينة مقطوعة، وجميع محاولات إيصال
الغذاء أو الدواء أُحبطت بفعل القيود الصارمة التي تفرضها الأطراف المتحاربة، حتى
التجار الذين حاولوا إدخال الطعام إلى الأسواق تعرّضوا للنهب والقتل، والمتطوعون
المحليون الذين خاطروا بتهريب بعض المواد الغذائية قُتل بعضهم أو فُقد أثرهم.
اعتمد السكان في الأسابيع الماضية على جهود
محدودة لعدد من المتطوعين والمنظمات المحلية الصغيرة، وهؤلاء يعملون في ظروف
قاسية، وغالبا ما يغامرون بحياتهم كل يوم لإنقاذ المدنيين، لكن هذه المبادرات تبقى
محدودة جدا ولا تغطي سوى جزء ضئيل من الاحتياجات الهائلة.
اليوم يمكن القول إن المدينة مُحاصرة تماما،
والهجمات لا تزال مستمرة، والجوع والمرض يفتكان بالناس بلا رحمة. نحن في الواقع -
كما يقول بعض العاملين الإنسانيين - لا ننقذ الأرواح بقدر ما نؤخر موتها؛ فآلاف
العائلات تنام في العراء، بلا طعام ولا ماء، ولا حتى حمامات أو ملاجئ تحميهم من
الأمطار أو البرد. الوضع في الفاشر تجاوز حدود المأساة الإنسانية ليصبح وصمة عار
على ضمير العالم أجمع.
ما الضمانات التي تطالبون بها لضمان تحرك
القوافل الإغاثية والطبية دون مخاطر؟ وهل تطالبون بأي ترتيبات خاصة بالمدنيين؟
نحن نطالب، قبل كل شيء، بتوفير ضمانات حقيقية
وفعالة لحماية المدنيين وضمان سلامة الفارين من مناطق القتال؛ فمن غير المقبول
إطلاقا أن يتعرض الناس للهجوم أو النهب أو الإعدام أو الاعتقال لمجرد محاولتهم
النجاة بأنفسهم من الفاشر. هذه ليست مجرد تجاوزات، بل انتهاكات صارخة للقانون
الدولي الإنساني الذي ينص بوضوح على تحييد المدنيين وضمان عدم استهدافهم أو
استهداف البنية التحتية المدنية كالمستشفيات والمدارس ومراكز الإيواء.
نحن في المجلس النرويجي للاجئين، ومعنا عدد
كبير من المنظمات الإنسانية الدولية، نطلق نداءً مشتركا لحماية المدنيين وضمان
ممرات آمنة لهم وللقوافل الإنسانية. ما نطالب به هو اتفاق واضح ومُلزم بين الأطراف
المتحاربة يضمن وصول المساعدات إلى مَن يحتاجونها دون عوائق أو تهديد.
كما ندعو إلى تأمين الطرق المؤدية إلى المناطق
التي لجأ إليها المدنيون، خصوصا تلك الواقعة بين الفاشر وطويلة، وهي مناطق لم
نتمكن حتى الآن من الوصول إليها بسبب استمرار القتال وانعدام الضمانات الأمنية.
المدنيون يحتاجون إلى ما هو أكثر من مجرد هدنة
مؤقتة؛ يحتاجون إلى التزام كامل من الأطراف كافة باحترام القوانين الدولية، وإلى
إشراف دولي فعلي يضمن أن تتحرك القوافل الإنسانية بحرية وأمان، وأن لا يُستهدف مَن
يقوم بمهام الإغاثة.
كيف تقيمون موقف ودور المجتمع الدولي حتى الآن
في التعامل مع الأزمة في السودان؟
بصراحة شديدة، يمكن القول إن المجتمع الدولي قد
أهمل السودان بشكل ممنهج ومؤلم؛ فبرغم أن الأزمة السودانية تُعد اليوم من أكبر
الكوارث الإنسانية في العالم، بل ربما الأكبر على الإطلاق، فإن رد الفعل الدولي لا
يزال باهتا ومترددا، ولا يرقى إلى حجم المأساة.
لدينا ما يقرب من 30 مليون إنسان بحاجة ماسة
إلى المساعدة، و25 مليونا منهم يعانون من الجوع الحاد، ومع ذلك لم تُعقد حتى الآن
قمة دولية واحدة مخصصة للأزمة، ولم نر أي ضغط حقيقي على الأطراف المتحاربة أو على
داعميها من القوى الإقليمية والدولية لحماية المدنيين والسماح بموظفي الإغاثة
بالعمل في السودان.
الوضع الحالي يفضح عجزا خطيرا في آليات
الاستجابة الإنسانية؛ فالمجتمع الإنساني يحتاج إلى 4 مليارات دولار لتغطية الحد
الأدنى من الاستجابة، بينما هناك عجز يزيد على 70% في التمويل. هذا يعني أن
المنظمات العاملة على الأرض بما فيها منظمتنا مضطرة لاتخاذ قرارات قاسية: مَن الذي
يستحق أن يُنقَذ أولا، ومَن سيُترك دون مساعدة؟
تخيل أن فرق الإغاثة تضطر للاختيار بين
"الأضعف من بين الضعفاء"، وهذه ليست مبالغة بل واقع يومي. إنه وضع غير
مقبول أخلاقيا ولا إنسانيا، ولا يمكن استمراره، خاصة في ظل تزايد حدة المعاناة
واتساع رقعة الجوع والموت. المجتمع الدولي مُطالب الآن بتحرك جاد على المستويين
السياسي والإنساني، قبل أن تتحول مأساة السودان إلى وصمة تاريخية لا تُمحى.
هل ترون أي تطور في المواقف الدولية في ضوء
التطورات الأخيرة بالفاشر؟
للأسف، لا نرى حتى الآن تحوّلا جوهريا في
الموقف الدولي رغم فظاعة ما جرى في الفاشر. ما نعرفه يقينا أن معاناة المدنيين لم
تتوقف، بل تزداد سوءا يوما بعد يوم. آلاف الأشخاص فقط تمكنوا من الوصول إلى طويلة،
بينما لا يزال عشرات الآلاف عالقين داخل الفاشر أو على أطرافها، كثير منهم في عداد
المفقودين، وبعضهم ربما قُتل أو اُعتقل أو اختفى قسرا.
نحن قلقون للغاية على مصير هؤلاء، وعلى سلامة
من تبقى داخل المدينة؛ إذ تتواتر التقارير عن استمرار القتال. الأزمة لم تنتهِ، بل
تتوسع لتشمل مناطق أخرى مثل كردفان، حيث تُحاصر المدن ويُستخدم الجوع والحصار
كسلاح حرب.
ما يحتاجه السودان اليوم هو اهتمام دولي مضاعف،
ليس فقط في البيانات أو الدعوات، بل عبر تحرك سياسي ودبلوماسي حقيقي وجاد يهدف إلى
وقف إطلاق النار وضمان الممرات الإنسانية. كما يجب تعزيز الدعم المالي العاجل
للاستجابة الإنسانية، لأن الوقت ينفد، والوضع الإنساني بلغ نقطة الانهيار.