افتتاح
المتحف المصري الكبير بحضور عدد من قادة العالم هو حدث استثنائي بالتأكيد، وقد جاء
بعد عقود من العمل في بناء هذا المتحف؛ بدأت في عهد الرئيس الأسبق حسني مبارك
واستمرت في عهد الرئيس مرسي ثم انتهت في عهد
السيسي، وتكلفت ما بين مليار إلى ملياري
دولار، اقترضت مصر معظمها من جهات تمويل دولية في مقدمتها اليابان، لتصبح جزءا من
مديونية خارجية عالية تجاوزت حاجز الـ160 مليار دولار؛ تمثل عبئا كبيرا على الجيل
الحالي والأجيال المقبلة.
تفخر
الشعوب المتحضرة بحضاراتها، وتهتم باكتشاف المزيد من آثارها، ومعالمها، وحفظها،
وحسن عرضها أمام العالم، ومن هنا تأتي أهمية المتحف المصري الكبير لتحقيق هذه
المهمة للآثار المصرية التي تمثل أكثر من ثلث آثار العالم. وقد كان المتحف المصري
في ميدان التحرير يقوم بهذه المهمة من قبل، وكان من الممكن وفقا لترتيب أولويات
التنمية أن يتأخر استكمال المتحف المصري الكبير والجديد حتى يتم توفير السيولة
المالية الوطنية، أو على الأقل الانتهاء أولا من سداد المديونيات الحالية، ومن ثم
الاقتراض مجددا لاستكمال المتحف.
كان من الممكن وفقا لترتيب أولويات التنمية أن يتأخر استكمال المتحف المصري الكبير والجديد حتى يتم توفير السيولة المالية الوطنية، أو على الأقل الانتهاء أولا من سداد المديونيات الحالية، ومن ثم الاقتراض مجددا لاستكمال المتحف
المشهد
الأبرز في احتفالات أمس، والذي تكرر من قبل في نقل تمثال رمسيس الثاني إلى المتحف
نفسه عام 2018، والحفل الأسطوري لنقل مومياوات ملوك
الفراعنة في نيسان/ أبريل 2021،
هو الاحتفاء البالغ بالهوية الفرعونية، وكان أحدث مشاهد ذلك هو تسابق كثير من
المصريين في تغيير صورهم على صفحاتهم الشخصية إلى شكل فرعوني، وهو ما عزز توجها
فكريا صاعدا في مصر؛ يرى أن
هوية مصر فرعونية، لا هي عربية ولا إسلامية، وأنها
وفقا لهذا التوجه عليها أن تنكفئ على ذاتها، ولا علاقة لها بمشاكل العرب والمسلمين،
وفي القلب منها قضية فلسطين. وقد لعب هذا التيار الذي يوصف
بالـ"كيميتيين"، أو أبناء كيميت، أي أبناء مصر بمسماها الفرعوني، في
تحريض الشعب المصري ضد طوفان الأقصى، وضد المقاومة الفلسطينية، كما لعب دورا كبيرا
في شيطنة المهاجرين السوريين والسودانيين في مصر، وتعريضهم لمعاملة عنصرية،
والمطالبة بطردهم من مصر.
هذا
التيار الفرعوني يعتبر أن العروبة والإسلام في مصر غزو أجنبي، ويتجاهل أن الحضارات
اليونانية والإغريقية والمسيحية كلها كانت غزوات أجنبية أيضا؛ باختصار معظم
الحضارات التي مرت على مصر كانت وافدة من خارجها، غير أنها تفاعلت على أرضها، وأينعت،
وتركت كل منها بصماتها، وأثمرت منتجاتها التي يفخر بها المصريون حتى الآن؛ ينطبق هذا
على الحضارة الفرعونية التي كانت أول الحضارات الكبرى، كما ينطبق على الحضارة العربية
الإسلامية التي كانت آخر الحضارات الكبرى التي استقرت في مصر، ووضعت لمساتها
الأخيرة على الهوية المصرية.
ينص
الدستور المصري الذي يقسم على احترامه كل من يتولى وظيفة عامة في مادته الأولى؛ على
أن مصر جزء من العالمين العربي والإسلامي، وفي مادته الثانية، أن الدين الرسمي لها
هو الإسلام، وأن الشريعة الإسلامية مصدر التشريع، لكن نظام السيسي الذي أقسم بدوره
على احترام هذا الدستور، لا يوليه أي احترام، بل يتعمد انتهاك الكثير من نصوصه،
وهو حينما يفتعل أزمة جديدة حول هوية مصر فإنه ينتهك بطريقة غير مباشرة أول مادتين
في الدستور.
حالة
من التخبط والتشويش الهوياتي تمر بها مصر حاليا، ففي الوقت الذي ترعى فيه أجهزة
الدولة تيارا فرعونيا (الكيميتيين) فإنها ترعى أيضا الطرق الصوفية وموالدها كما
ظهر مؤخرا في مولدي السيد البدوي والدسوقي، وهي في الوقت نفسه ترعى اتحادا للقبائل
العربية، وما يفسر تلك الحالة هو بحث السلطة عن ظهير شعبي يسندها في مواجهة الغضب
الشعبي المتزايد بسبب الأزمات الاقتصادية والمعيشية، وغياب الحريات العامة.
الاحتفاء بالحضارة الفرعونية من قبل الحكام العسكريين منذ تموز/ يوليو 1952 ليس تقديرا لمنجزاتها العمرانية والهندسية، واختراعاتها المبكرة، بل ينطلق أساسا من إعجابهم بنموذج الحكم الفرعوني في أعتى صوره (فرعون موسى)، الذي يركز السلطة في شخص الحاكم، ويحوله إلى إله ينبغي طاعته دون تفكير أو مناقشة. وقد عبر السيسي بأشكال متنوعة عن هذا الفهم
هذه
الحالة ليست جديدة على مصر، فقد ظهرت مطلع القرن العشرين، ثم انطفأت، ثم عادت
مجددا عقب ثورة يناير، وقد تم حسمها في دستور الثورة الصادر عام 2012، والذي نص في
مادته الأولى على "جمهورية مصر العربية دولة مستقلة ذات سيادة، موحدة لا تقبل
التجزئة، ونظامها ديمقراطي، والشعب المصري جزء من الأمتين العربية والإسلامية،
ويعتز بانتمائه لحوض النيل والقارة الأفريقية وبامتداده الآسيوي، ويشارك بإيجابية
في الحضارة الإنسانية". ولم يختلف النص كثيرا في دستور 2014 عقب الانقلاب
العسكري، حيث نصت مادته الأولى أيضا على: "جمهورية مصر العربية دولة ذات
سيادة، موحدة لا تقبل التجزئة، ولا ينزل عن شيء منها، نظامها جمهوري ديمقراطي،
يقوم على أساس المواطنة وسيادة القانون. الشعب المصري جزء من الأمة العربية يعمل
على تكاملها ووحدتها، ومصر جزء من العالم الإسلامي، تنتمي إلى القارة الأفريقية،
وتعتز بامتدادها الآسيوي، وتسهم في بناء الحضارة الإنسانية"؛ اتفق الدستوران إذن
على أن مصر عربية إسلامية، وبالتالي فأي خروج على هذا النص غير مقبول.
الاحتفاء
بالحضارة الفرعونية من قبل الحكام العسكريين منذ تموز/ يوليو 1952 ليس تقديرا
لمنجزاتها العمرانية والهندسية، واختراعاتها المبكرة، بل ينطلق أساسا من إعجابهم بنموذج
الحكم الفرعوني في أعتى صوره (فرعون موسى)، الذي يركز السلطة في شخص الحاكم، ويحوله
إلى إله ينبغي طاعته دون تفكير أو مناقشة. وقد عبر السيسي بأشكال متنوعة عن هذا
الفهم حين قال: "اسمعوا كلامي أنا فقط -لا تسمعوا كلام غيري- أنا فاهم ماذا
أقول"، في تكرار عصري لقول فرعون: "ما أريكم إلا ما أرى، وما أهديكم إلا
سبيل الرشاد". وحتى حين أراد بعض أنصاره الهروب من وصفه بالفرعون فإنهم وصفوه
بـ"عزيز مصر"، الذي هو ملك مصر الفرعوني أيضا في عهد سيدنا يوسف! في حين
كان الرئيس الأسبق أنور السادات يتفاخر بأنه آخر الحكام الفراعنة!
التلاعب
بالهوية من أكثر الأمور حساسية في أي مجتمع، وهو يفجر توترات مجتمعية لا داعي لها،
والمبالغة في تعظيم الحضارة الفرعونية في الاحتفال الأخير وما سبقه من احتفالات
مماثلة ليس الغرض منه الاعتزاز بمنجزات تلك الحضارة كما ذكرنا، بل صناعة حدث يغطي
على أزمات الحكم الحالية، وهذا لعب بالنار!
x.com/kotbelaraby