مقالات مختارة

وباء الفساد في أرض السواد

جيتي
يتكرّر المشهد ذاته بعد كل فاجعة في العراق: عشرات الجثث المتفحّمة تنتشل من بناية تحترق. تنتشر بعدها صور العراقيين والعراقيات، الذين أزهقت أرواحهم على وسائل التواصل. تعقبها التعازي والأدعية والترحّم واللعنات الغاضبة على المجرمين، لكن المشهد ليس هجوماً إرهابياً بشاحنة مفخّخة بالمتفجّرات، ولا ينتمي الذين اقترفوا الجريمة إلى منظمة أو جماعة إرهابية، تنفّذ أهدافها التخريبية وتمزّق النسيج الاجتماعي لتشعر المواطن ألا أمان في الحيز العام.

إنّه إرهاب من طراز آخر.. إرهاب لا يقل أخطبوطيّة وشرّاً وفتكاً بحيوات العراقيين، وهو يتغوّل ويتمدّد منذ أكثر من عقدين. وآخر هجماته الحريق الذي شبّ في «هايبر ماركت الكورنيش» في مدينة الكوت (بعد أيام من افتتاحه) وراح ضحيته إلى ساعة كتابة هذه السطور أكثر من ستين مواطناً ماتوا محترقين. لم يكن المبنى بطوابقه السبعة مصمّماً بحيث يحوي مخارج طوارئ ولا كان مجهزاً بمنظومة إطفاء، أو بأي من الوسائل اللازمة لحماية من يدخله، ليخرج عبر سلالم خارجية يسهل الوصول إليها. فما يهم المستثمر الذي يملك البناية، والذين عملوا معه وله، والذين وقّعوا وأجازوا هو الربح فحسب. سلامة المواطن وحقوقه ليست سلعة تدر الربح إذا لا قيمة له، والكارثة هي أن فرق الطوارئ، هي الأخرى، تفتقر للمعدات والآليات اللازمة للتعامل مع حادثة كهذه، فاستخدمت آليات بناء وصبّ لمحاولة تخليص العالقين قي الطابق السابع.

تضاف هذه الحادثة إلى سجل حوادث يمتد من جنوب العراق إلى شماله، كان من الممكن تفاديها كلها لو استوفت الأبنية والمرافق الشروط الأساسية المتبعة في أي مكان في العالم.

من حريق مستشفى ابن الخطيب في بغداد في أبريل عام 2021 الذي قتل 82 مواطناً ما كانوا ليموتوا لو وجدت منظومة استشعار للحرائق، ولو كانت الأسقف الثانوية مبنية وفق المواصفات، إلى حريق مستشفى الحسين التعليمي في الناصرية بعدها بثلاثة أشهر والذي قتل 92 مواطنا. وفي شمال العراق هناك حادثة العبّارة في نهر دجلة في الموصل في مارس عام 2019 التي راح ضحيتها 120 والحريق في «قاعة الميثم» في الحمدانية في محافظة نينوى، الذي حوّل حفلة عرس إلى مأتم قضى فيه 122 عراقياً. والعامل، مرة أخرى، هو مخالفات في مواد البناء سريعة الاشتعال.

وبعد كل حادثة يُعلن الحداد ويذرف الساسة دموع التماسيح، وتشكّل لجان تحقيق، دون أن يتغيّر شيء في حياة المواطن. ومنذ 2003، ما مر عام والعراق ليس فيه فساد، لا يعني ذلك أن الفساد لم يكن موجوداً في منظومة حكم النظام السابق، لكنه في نخاع المؤسسات الحكومية والمنظومة الإدارية والمالية وفي مفاصل الدولة كافة، ويحق لنظام ما بعد 2003 وطبقته الحاكمة أن يفخروا بالأرقام القياسية التي سجّلوها، فالعراق من أكثر الدول فساداً في العالم، حسب مؤشر مدركات الفساد الذي تنشره منظمة الشفافية الدولية، وتتراوح أموال الشعب المنهوبة منذ 2003 تبين 150 إلى 300 مليار دولار. أصبح الفساد منهجاً وعملة، بل لغة تتقنها الطبقة الحاكمة والشبكات المرتبطة بها.

أحزاب وتيارات وتكتّلات قد تختلف عقائدياً وأيديولوجياً لكنها تتفق على مبدأ واحد جامع هو نهب ثروات البلاد وتقاسمها. ويظل المواطن محروماً من أبسط مقومات الحياة الكريمة ومن البنية التحتية والخدمات والمؤسسات التي يستحقها، ويفترض وجودها في بلد غني. وكان بالإمكان توفيرها كلها لو كانت هناك رؤية وطنية ورغبة جديّة في إعادة بناء البلاد، لا في نهبها واستنزاف مواردها والاستهانة بحيوات البشر.

القدس العربي