صحافة دولية

بين الخنادق السرية وسجون الموت.. كيف دفن بشار الأسد ضحاياه؟

كيف دفن ديكتاتور سوريا ضحاياه؟- الأناضول
نشرت صحيفة "نيويورك تايمز" تقريرا كشفت فيه عن وجود أدلة على خنادق وحُفر جماعية متعددة في مقبرة نجها الواقعة جنوب العاصمة السورية دمشق، والتي جرى ملؤها بالجثث على نحو ممنهج على مدار سنوات.

وقالت الصحيفة، في تقريرها الذي ترجمته "عربي21"، إن مقبرة نجها تقع على بُعد نحو خمسة أميال جنوب العاصمة دمشق. وقد أُنشئت قبل عقود كمقبرة بسيطة لدفن سكان دمشق والبلدات المجاورة.

وأوضحت الصحيفة أن حكومة الأسد بدأت بعد قمع الثورة السورية في آذار/مارس 2011، بدفن ضحاياها في مقبرة نجها، بينهم متظاهرون ونشطاء وصحفيون وموالون سابقون وأفراد من الفصائل المعارضة، كثير منهم قتلوا تحت التعذيب في السجون.

وأشارت الصحيفة إلى أن أجهزة الاستخبارات التابعة للأسد بدأت باستخدام قبور فارغة موجودة مسبقا لم تُستخدم بعد في دفن المدنيين، ثم شرعت في إلقاء الجثث داخل حُفر محفورة بشكل بدائي. وفي السنوات الأخيرة، تم ملء خنادق طويلة بالجثث، قسمًا تلو الآخر.

وحللت الصحيفة صورا فضائية من 2011 إلى 2024، وراجعوا صورا ومقاطع فيديو، وأجروا مقابلات مع أكثر من 20 شخصًا، بينهم جيران وعمال سابقون أُجبروا على المشاركة في دفن جماعي بمقبرة نجها.

مقابر جماعية
وتتوافق شهاداتهم مع بعضها ومع تقارير منظمات حقوق الإنسان حول نجها والمقابر الجماعية الأخرى.

وأوضحت الصحيفة أن جهودًا واسعة تُبذل حاليًا لتحديد مواقع عشرات المقابر الجماعية في سوريا، مشيرة إلى أن مقبرة نجها كانت من أوائل المواقع التي تم تحديدها قبل سقوط نظام الأسد، وأن منظمة "الخوذ البيضاء" تلقت بلاغات عن أكثر من 60 موقعًا وتعمل على حفرها.

وكانت حكومة الأسد قد نفت قتل المحتجزين، رغم توثيق هذه الممارسات على نطاق واسع. ولا يُعرف عدد الجثث في المقابر الجماعية مثل نجها قبل إتمام الحفر، وتُقدّر الشبكة السورية لحقوق الإنسان أن أكثر من 160 ألف معتقل ما زالوا مفقودين.

ووفقًا لشهادات عمّال سابقين في المقبرة، بدأت حكومة الأسد بدفن جثث المعتقلين في مقبرة نجها في منتصف سنة 2011.

وذكرت الصحيفة أن المدافن الجماعية المبكرة استخدمت مواقع مخصصة لدفن الأشخاص لأحبائهم، صفوف من المقابر المبنية مسبقًا على عمق عدة أقدام تحت الأرض.

غير أن عمّالًا سابقين في مقبرة نجها أفادوا بأن ضباط النظام كانوا يدفنون عدة جثث في القبر الواحد.

ومن خلال استخدام مواقع الدفن القائمة، تمكن النظام من إبقاء عمليات الدفن الأولى طيّ الكتمان.

وقال محمد عفيف نايفه، الذي كان حينها موظفًا في مكتب الطب الشرعي المحلي، إن مديره طلب منه لأول مرة مرافقة عناصر من المخابرات إلى مقبرة نجها في منتصف سنة 2011. وهناك، شهد قيامهم بفتح قبر غير مُعلّم وإلقاء ست إلى سبع جثث داخله. وأضاف أن العملية نفسها تكررت مرتين على الأقل في سنة 2011، مع تزايد عدد الجثث في كل مرة.

وقال محمد نايفه: "كان هناك عدد هائل من الجثث المتحللة لدرجة أنها بدأت تتساقط من الشاحنة"، مشيرًا إلى أنه أُجبر لاحقًا على إدارة بعض جوانب عمليات الدفن، مضيفًا أن الجثث التي لم تكن قد تحللت بعد كانت تحمل آثار تعذيب واضحة.

أعمال تنقيب واسعة
وأكدت صور الأقمار الصناعية التي حلّلتها الصحيفة وجود مؤشرات على نشاط مقابر جماعية في المنطقة التي وصفها محمد نايفه، بما في ذلك اضطرابات في التربة ومركبات كبيرة وأعمال حفر وتنقيب واسعة النطاق.

ووفقًا لتقارير صادرة عن منظمات حقوقية، بما في ذلك "رابطة معتقلي ومفقودي سجن صيدنايا"، نُقلت الجثث إلى مقبرة نجها ومقابر جماعية أخرى قريبة من سجون التعذيب مثل سجن صيدنايا، ومن مستشفيات عسكرية مثل تشرين وحرستا.

وتحدثت الصحيفة إلى سائق سابق لدى حكومة الأسد، قال إنه نقل شاحنات محمّلة بالجثث من المستشفى العسكري في حرستا إلى مقابر جماعية، وكان شاهدًا على عمليات الدفن في مقبرة نجها.
مع تصاعد وتيرة القتل، بدأت الجثث تُلقى في حُفر عميقة.



بحلول سنة 2012؛ وبعد سنة من اندلاع الحرب الأهلية، بدأت أعداد القتلى تحت حكم نظام الأسد ترتفع بشكل حاد. ومع تزايد عمليات القتل في صفوف المعتقلين، كثّف النظام عمليات الدفن الجماعي في مقبرة نجها.

وبدلاً من استخدام القبور الموجودة، أجبرت أجهزة المخابرات العاملين في البلدية المحلية على حفر حُفر، بلغ عمق بعضها نحو 10 أقدام. ومن بين هؤلاء راغب تركي مهزة ويوسف عبيد، اللذان كانا حينها يعملان سائقي معدات ثقيلة لدى محافظة دمشق.

وجرت عمليات الدفن تحت إشراف ضباط المخابرات، ضمن خطة ممنهجة للتخلص من ضحايا القتل تحت التعذيب والإعدام خلال سنوات الحرب.

وفي المنطقة نفسها التي قال فيها كلّ من مهزة وعبيد إنهما حفراها باستخدام الجرافات، عثرت الصحيفة على أدلة تشير إلى وجود حفر عميقة. وقد تطابقت أبعاد العديد من تلك الحفر مع وصف مهزة.

وأوضحت الصحيفة أن أعداد ضحايا نظام الأسد بدأت في الارتفاع بحلول 2012، ومع مقتل المزيد من المعتقلين، كثفت الحكومة من عمليات الدفن الجماعي في نجها.

وأجبرت المخابرات عمال البلدية المحليين على حفر حفر يصل عمق بعضها إلى 10 أقدام تقريبًا، وكان من بينهم راغب تركي مهزة ويوسف عبيد، اللذان كانا يقودان حينها آليات ثقيلة تابعة محافظة دمشق.

وقالا إن ضباط المخابرات أمروا العمال بملء الحفر بمئات الجثث التي وصلت في شاحنات تبريد يبلغ طولها 50 قدمًا.

ووجدت الصحيفة أدلة على وجود حفر عميقة في المنطقة التي قال كل من مهزة وعبيد إنهما قاما بحفرها بالجرافات وتتطابق أبعاد العديد من الحفر مع وصف مهزة.

وذكرت الصحيفة أن عمليات الدفن في نجها كانت تتم إما في الصباح الباكر أو في الليل، وفقًا لعمال المقابر السابقين، وكانت القوات الحكومية تطرد أي شخص يتواجد في المنطقة وتضع حراسة على المدخل، وكان المسؤولون يصادرون هواتف عمال المقابر ويهددون بإعدامهم إذا رفضوا تنفيذ الأوامر.

وكان أيمن محمد خليل، وهو حارس في الجزء الذي يستخدمه المدنيون في نجها، يلاحظ أحيانًا آثار حفر حديث في الصباح، ولم يُسمح له بالتواجد بالقرب من المقابر الجماعية عندما كانت القوات الحكومية هناك.

وبحسب خليل، الذي عمل في نجها لعقدين تقريبًا ويعتقد أن بعض أصدقائه وأقاربه المفقودين قد يكونون مدفونين هناك، فقد كانوا يأخذون أي شخص يقف بالقرب من المقابر.

ونقلت الصحيفة عن السكان الذين كانوا يعيشون بجوار نجها أنهم كانوا على علم بوجود المدافن الجماعية لكنهم ظلوا صامتين خوفًا من الانتقام.

وكان منزل فلاح الزعل، 52 سنة، يطل على القبور مباشرةً، وقد فقد أكثر من اثني عشر من أقاربه على يد نظام الأسد، ويعتقد أن بعضهم قد يكون مدفونًا في نجها.

وأشارت الصحيفة إلى أن نشاط المقابر الجماعية تباطأ في نجها لفترة من الوقت سنة 2013، لأن تقدم الثوار في المنطقة صعّب استمرار عمليات الدفن.

ومع محدودية الوصول إلى نجها، نقلت الحكومة عملياتها إلى موقع مقبرة جماعية كبير آخر في القطيفة، وهي بلدة تبعد حوالي 20 ميلًا شمال دمشق.

واستعادت الحكومة السيطرة على المنطقة القريبة من مقبرة نجها سنة 2014. لكن الصحيفة لم تتمكن من التحقق من نشاط نجها في صور الأقمار الصناعية إلا بعد سنوات، لكن السكان قالوا إنهم شاهدوا شاحنات تصل إلى المقبرة حينها.

ويروي محمد علي الصالح، 48 عامًا، وهو مزارع فرّ في البداية وعاد إلى منزله بالقرب من نجها سنة 2014، أنه شعر بالرعب عند رؤية شاحنات التبريد، لكنه لم يتمكن حتى من الاقتراب، وإلا فمصيره الموت.

وذكرت الصحيفة أن الخنادق الطويلة المشابهة لتلك الموجودة في القطيفة بدأت في الظهور في صور الأقمار الصناعية ابتداءً من 2018، وكانت الخنادق أطول بكثير من الحفر البدائية قبل سنوات، مما يوضح أن العملية في نجها  أصبحت أكثر منهجية.

يبدو أن الخنادق أُعدّت قبل أشهر من استخدامها؛ حيث حفر الحفارون أنفاقًا تصل إلى مئات الأقدام، حتى لا يضطروا للعودة مرارًا وتكرارًا.

ولم تتمكن الصحيفة من مقابلة أي شخص عمل مباشرةً في خنادق نجها، لكن أحد الحراس القدامى، واسمه عبد العزيز، قال إنه شهد وصول شاحنات صغيرة وكبيرة إلى المقبرة بين 2018 و2020، وأضاف أنه وشقيقه شاهدا أشلاء جثث مكشوفة في خندق يشتبه في أن دفنًا جماعيًا قد جرى فيه.

وقال يونس عدنان، وهو مزارع يسكن بجوار المقبرة، إنه استمر في رؤية الحفارات والشاحنات تصل إلى نجها منذ 2011 وحتى 2024.

ووفقًا لعدنان، الذي يعتقد أن شقيقه مدفون في مقبرة جماعية، فقد كان يرى بين الحين والآخر حفارة قادمة من بعيد، دون أن يجرؤ أحد على الاقتراب، لكن ظهورها كان يعني حدوث شيء غير طبيعي.