كتاب عربي 21

في سؤال النهوض: يجب علينا تفعيل مفاهيمنا الأصيلة.. مشاتل التغيير (26)

"تطويق لكلمات الأمة ضمن خطة لتطويق مفاهيمها الحية التي تشكل مقدمات الأمة في إحيائها وانبعاثها وتجديده"
أول ما تصاب به الأمم في أطوار تراجعها الفكري والمعرفي والثقافي؛ مفاهيمها، وأول ما يتأثر بعمليات الصراع الفكري والثقافي؛ مفاهيمها كذلك، وأهم الأمراض التي تعتري المفاهيم الميوعة ثم الغموض الذي يمثل وسطا للتدليس على عالم كلماتنا والتلبيس على مساحات وساحات مفاهيمنا. كما أن أزمتنا المعاصرة التي لا تزال تئن الأمة وأهلها تحت وطأتها؛ واحد من أهم أسباب استفحال هذه المشكلة وتفاقمها، في ظل الاحتكاك غير المنضبط أو المبرمج بالغرب الأوروبي والحضارة الغربية الغالبة، وإزالة سائر الحواجز الحامية والثغور التي يجب المرابطة عليها بين العقل المسلم وبين مفاهيم الغرب وثقافته وحضارته بأنواعها المختلفة؛ مما جعل هذه المفاهيم تسيطر على العقل المسلم، طاردة من أمامها بقايا مفاهيميه الإسلامية لينصرف إلى الحِجاج والتخاصم والخلاف والتشتت والصراع.

وبدت المفاهيم السائدة تتحول إلى أداة للتضليل والتشتت والتشرذم، بدلا من أن تكون أداة معرفية وبيانا وإيضاحا وجلاء للغموض. كما تحولت المفاهيم السائدة في ظل ذلك التداخل والتشابك العجيب الذي حدث في الساحة المعرفية العربية بالذات، بين الوافد الدخيل والموروث المترسب، من وسيلة تعبير عن الذات والهوية إلى وسيلة للانفكاك عن الهوية دون حصول على بديل لها، وتذبذب في الانتماء واختلاط في الأنساب والانتساب.

كلمات الأمة مشاريع لها؛ ليست مجرد ألفاظ ومبان خالية من المعنى والمغزى، بل هي في حقيقتها منظومات نهوض تتكامل فيما بينها لتقيم هندسة ومعمار البناء الحضاري العمراني. وهي تضرب بجذورها؛ إذ يسمى كل أصل لكلمة أو مفردة "جذرا" تدور عليه الاشتقاقات والمباني، فتكون مع بعضها ومن بعضها حزما متكاملة

كلمات الأمة مشاريع لها؛ ليست مجرد ألفاظ ومبان خالية من المعنى والمغزى، بل هي في حقيقتها منظومات نهوض تتكامل فيما بينها لتقيم هندسة ومعمار البناء الحضاري العمراني. وهي تضرب بجذورها؛ إذ يسمى كل أصل لكلمة أو مفردة "جذرا" تدور عليه الاشتقاقات والمباني، فتكون مع بعضها ومن بعضها حزما متكاملة؛ أسرة أو عائلة كلمات تعرف الأبناء كما تعلم الدخلاء واللقطاء، وهي بذلك تنادي عليهم على أبنائها الحقيقيين الأصلاء الذين يعرفون أمتهم. وفي ريفنا المصري يدعون هؤلاء "ابن أصول" في الكرامة والعزة في الدور والمكانة.

هذا مقام الكلمات فينا، وعلى هذا كان أول حصار الأعداء للكلمات يعتدون عليها ويغتصبونها؛ يمارسون عليها فعل الإبادة الجماعية كما يمارسونه على إنسان الأمة المتفرد بالعزة والصمود. كان هذا التطويق لكلمات الأمة ضمن خطة لتطويق مفاهيمها الحية التي تشكل مقدمات الأمة في إحيائها وانبعاثها وتجديدها، بينما تطلق كلماتها "كلمات المسخ" لتعشش في أركان الأمة؛ تبقى متربصة فيها متحينة الوقت للهجوم عليها والتلبيس والتدليس عليها.

تعال نتأمل كلمات الأمة في ساحات الوغى والجهاد؛ فنرى كلمات مخذولة وأخرى ميتة، ومنها القاتلة والمميتة، ومنها كلمات خشبية ما لها من معنى يحرك أو يحيا في حيات الناس، ومنها الكلمات المنتقمة التي تعتب على الأمة وأهلها الغفلة عنها أو خذلانها وهوانها عليهم. وحين تكرست الاختلافات في داخل الأمة وتحول الناس إلى معسكرات متحاربة؛ صارت المفاهيم الوافدة -بحد ذاتها- هدفا ومقصدا لبعض التوجهات يستحق أن يفرض على التوجهات الأخرى، ولو بالقوة، ومع أنه كان هناك وعي لا بأس به بأن هذه المفاهيم تستبطن في ثناياها أهداف ومقاصد الثقافات المجلوبة وتستتبعها، إلا أنه كان هناك إصرار بنفس القدر على فرضها على الساحة الفكرية العربية والإسلامية، حتى لو أدت إلى مسخ وتشويه أهداف ومقاصد هذه الأمة.

ونلفت النظر إلى ما يؤكد عليه الكاتب خالد صدوقي في مقاله حول "منهج الدراسة المصطلحية، وأهميته في تجلية مفاهيم القرآن"، بقوله: "المفاهيم ليست ألفاظا كسائر الألفاظ، بل هي مستودعات كبرى للمعاني والدلالات، كثيرا ما تتجاوز البناء اللفظي وتتخطى الجذر اللغوي لتعكس كوامن تصورية للأمة ودفائن تراكمات فكرها ومعرفتها.

المفاهيم كذلك مغايرة للأسماء من حيث الدلالة والوظيفة المعرفية، وإن كانت اسما من حيث الإعراب، فالمفهوم يمثّل خلاصة الأفكار والنظريات المعرفية وأحيانا نتائج خبرات وتجارب العمل في النّسق المعرفي الذي يعود إليه وينتمي إلى بنائه الفكري. إذن المفهوم هو أشبه بوعاءٍ معرفي جامع يحمل من خصائص الكائن الحي أنه ذو هوية كاملة، قد تحمِل تاريخ ولادته وصيرورته وتطوّره الدلالي وما قد يعترضه من عوامل صحة ومرض؛ ولذلك كانت دائرة المفاهيم أهم ميادين الصراع الفكري والثقافي بين الثقافات عبر التاريخ.

وأول ما تصاب به الأمم في أطوار تراجعها الفكري والمعرفي والثقافي مفاهيمها، وأول ما يتأثّر بعمليات الصراع الفكري والثقافي مفاهيمها كذلك، فقد يستعير مجتمعٌ ما اسما أو مصطلحا من نسق معرفي آخر بطريق القياس القائم على توهُّم التماثل والتشابه لتتداوله مع مفاهيمها كمفهوم مرادف مساوٍ أو بديل أو مترجم، وتكون النتيجة التخلّف والهوان".

فما المخرج الأولي والمبتدي المرعيّ الذي علينا أن نتخذه مخرجا؟ نقطة البدء إذا في تبني الكلمات والمفاهيم القرآنية؛ ذلك أن سوق النهضة قد فُتحت أبوابه مشرعة على مفاهيم شتى منها البضاعة الزائفة المغشوشة، ومنها البضاعة الكاسدة التي بارت أو تبور، ومنها التي تجمع بين الفاسد والطالح منها؛ فيفُسِد الفاسد كل ناضج، وتعدي فيه الثمرة الفاسدة الصالح فيها، وفيها من زخرف القول غرورا الذي تفتتن بها العقول والقلوب مع مالها من أثر لا يدوم ومن خداع يتسلل ويقيم.. المخرج في ظل هذه الفوضى يكمن في الكلمات المرجعية التأسيسية الجامعة بين المفاهيم القرآنية الأصيلة والكلمات النبوية التي تمثل الحكمة المسداة والرحمة المهداة؛ فتؤسس لوعي رشيد وعمل سديد: "وَلَوْ أَرَادُوا الْخُرُوجَ لَأَعَدُّوا لَهُ عُدَّة وَلَٰكِن كَرِهَ اللَّهُ انبِعَاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ وَقِيلَ اقْعُدُوا مَعَ الْقَاعِدِينَ" (التوبة: 46)، ولو أرادوا إحياء لاستجابوا استجابة حقيقية لما يحييهم ويقيم أصل حياتهم وإحيائهم، "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ" (الأنفال: 24).

إن دراسات مهمة بل مؤسسات قد توقفت مليا عند هذه المعاني التي تتعلق بمرجعية التأسيس؛ قرآنا وسنة صحيحة وسيرة نبوية، فشكلت في سياقات العمل في بناء المفاهيم والمصطلح القرآني والنبوي عملا ممتدا وممنهجا يستحق الاهتمام. وفي هذا المقام يمكننا الإشارة إلى كتابات ومشروعات مهمة؛ يقع على رأسها ذلك المشروع الرائد الذي قام عليه عالم فذ مقتدر، ألا وهو الأستاذ الدكتور الشيخ الشاهد البوشيخي؛ الذي وضع أُسُسَ هذا المنهج الذي تُدرس به المصطلحات وسماه: "منهج الدراسة المصطلحية"، وطبيعة مفرداته وأهم خطواته، وكان رائدا له.
تقدم الرؤية الإسلامية نظرية متكاملة العناصر لمفهوم التغيير، بدءا بتحديد قاعدتها المتمثلة في السنة التاريخية وفعلها وتفاعل الإنسان معها، مرورا بعناصر الفعل التاريخي (الزمان والمكان والإنسان)، وانتهاء بتحديد مسارات التغيير، والذي تمثل فيه نظرية الاستخلاف وحركة الإنسان بمقتضاها ووفق شروطها ركنا مهما في بناء الوعي والسعي، وقبل ذلك وبعده يشكل التوحيد الأساس في هذه النظرية
وكذا العمل المفاهيمي الذي قام عليه المعهد العالمي للفكر الإسلامي، وكنت شريكا في مشروعه في بناء المفاهيم، كما تابعت العمل في مركز الفكر الإسلامي والدراسات المعاصرة في إستانبول الذي اهتم بعالم المفاهيم، وذلك في موسوعات عدة مثل في موسوعة تثقيفية حول "مفاهيم في بناء الوعي والسعي"، وموسوعة بالمشاركة مع اتحاد علماء المسلمين "المفاهيم الإسلامية: معالم وضوابط"؛ وثالثتها "موسوعة بناء المفاهيم الإسلامية: تأصيلا وتنزيلا".

 تقدم الرؤية الإسلامية نظرية متكاملة العناصر لمفهوم التغيير، بدءا بتحديد قاعدتها المتمثلة في السنة التاريخية وفعلها وتفاعل الإنسان معها، مرورا بعناصر الفعل التاريخي (الزمان والمكان والإنسان)، وانتهاء بتحديد مسارات التغيير، والذي تمثل فيه نظرية الاستخلاف وحركة الإنسان بمقتضاها ووفق شروطها ركنا مهما في بناء الوعي والسعي، وقبل ذلك وبعده يشكل التوحيد الأساس في هذه النظرية، كما يشكل في ذات الوقت المقصد النهائي الأعلى.

إنها منظومة المفاهيم المتكاملة، تترقب حالة مأمونة وثمرة مضمونة في الشهود الحضاري وإعمال سنة التمكين الحضاري؛ تُؤَمّن فيها مسارات التغيير الحافزة لكل عمليات الإحياء والانبعاث والنهوض والاجتهاد والتجديد، ومفاهيم أخرى وُلّدت منها أو نبتت في رحمها؛ مثل الاستئناف الحضاري والعبور الحضاري والريادة الحضارية والتجدد الحضاري، وتتأسس من تربة المراجع التأسيسية وتستضيء من مشكاة واحدة، وغيرها من مفاهيم تشير إلى ضرورات النهوض مشاريع وإمكانات؛ والقيام في العمل الميداني تفعيلا وعمليات؛ والانطلاق في المسيرة الحضارية مقاصد وغايات.

وفق الرؤية الإسلامية في أصالتها؛ لا يمكن أن تؤدي عناصر الفعل التاريخي (الزمان، المكان، الإنسان) فعاليتها في عملية التغيير إلا برابط بينها جميعا، يشكل مقوما أساسيا للعلاقة الاجتماعية، ألا وهو الاستخلاف والعمران؛ إنها آية التغيير: "إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّىٰ يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ" (الرعد: 11) التي تشتمل على مستويات؛ مهمة التغيير الإلهي، وتغيير ما بالقوم، وتغيير ما بالنفس الفردية والأنفس الجمعية الجامعة.

 إنه مشتل المفاهيم نطرقه بكل قوة وندلف إليه بكل فعالية، في مفرداتها ومنظوماتها، في الحفاظ على حياضها وحمايتها وتحصينها، والرباط على ثغورها وتأمينها. الثمرة المفاهيمية يجب أن تؤمّن ويُستثمر فيها في عمليات التغيير ومآلاتها ومقاصدها.

x.com/Saif_abdelfatah