الميزة
الأهمّ للقضية
الفلسطينية هي عدالتها التي لا تحتمل الالتباس من حيث التأسيس، ومن
حيث المسار، فالفلسطينيون هم أكثر شعوب المنطقة الأصليين الذين دفعوا ثمن
الاستعمار الغربي بعد انهيار السلطنة العثمانية، فبينما انتهت سايكس بيكو إلى
تأسيس دول عربية جديدة على أساس التقاسم الانتدابي بين بريطانيا وفرنسا، فإنّ
الانتداب البريطاني لفلسطين انتهى إلى وعد بلفور الذي تجسّد تاليا بإقامة إسرائيل
في العام 1948، ولم يكن بين سايكس/ بيكو (3 كانون الثاني/ يناير 1916)، ووعد بلفور
(2 تشرين الثاني/ نوفمبر 1917)، إلا سنة وتسعة شهور فحسب. وبينما تتشكل اليوم في
المجال العربي المحيط بفلسطين وطنيات على أساس هذا التقسيم؛ يعاني الفلسطينيون لا
الاستعمار الإسرائيلي فحسب، ولكن أيضا استمرار سياسات الإبادة والتطهير العرقي
والإمعان في محو خياراتهم السياسية والنضالية، ويدفعون ثمن الاختلال العالمي
السياسي والأخلاقي، وانهيار السرديات الكبرى الجامعة، بحيث يجد الفلسطيني نفسه
وحيدا، مهما كانت خياراته سواء سلك طريق التسوية وقدّم فيها كل التنازلات غير
المحتملة، أو احتفظ بأدوات المقاومة المسلحة.
لم
يدفع الفلسطينيون، والحالة هذه، ثمن التقاسم الاستعماري للمشرق العربي فحسب، ولكن
حُلّت المسألة اليهودية، والتي هي مسألة غربية بامتياز، على حساب الشعب الفلسطيني،
في أكثر أنماط الظلم غرابة ودلالة على إمكانات الانحطاط البشري، وبالرغم من القبول
الفلسطيني الضمني بدفع ثمن هذا الظلم باتجاه الفلسطينيين نحو القبول باقتسام
فلسطين على أساس غير عادل، فإنّ هذا الخيار كذلك بات أمرا مستحيلا، وفي هذا السياق
نفسه، كان اقتلاع شعب من أرضه وإحلال آخرين مكانه، وتشييد ذلك على تصورات أسطورية،
يفترض أنّها تصادم العقلانية والعلمانية الغربية، لكن المفارقة في كون هذا الغرب
العقلاني/ العلماني هو الذي أسّس إسرائيل!
انتهى الأمر لأن تكون فلسطين بوابة عربية إلى قلب العالم الغربي، ولا سيما واشنطن، لا بحملها إلى ذلك العالم والدفاع عنها فيه، ولكن تماما بالتخلي عنها، أي بالتحالف مع إسرائيل، أو دفع الأثمان للغرب بغرض الحماية وطلب النفوذ، من كيس القضية الفلسطينية
لم
ينحصر الظلم الواقع على الفلسطينيين في ذلك، فقد دفع الفلسطينيون ثمن الهزائم
العربية في حربي 1948 و1967، وثمن التناقضات العربية الداخلية، من قبل النكبة
وأثناءها وبعدها حتى الساعة. وبالرغم من كون هذه الحقيقة التاريخية يفترض بها أن
تكرّس فلسطين قضية عربية، فقد انتهى الأمر لأن تكون فلسطين بوابة عربية إلى قلب
العالم الغربي، ولا سيما واشنطن، لا بحملها إلى ذلك العالم والدفاع عنها فيه، ولكن
تماما بالتخلي عنها، أي بالتحالف مع إسرائيل، أو دفع الأثمان للغرب بغرض الحماية
وطلب النفوذ، من كيس القضية الفلسطينية.
هذه
الاعتبارات كلّها من شأنها أن توفّر الأساس المناسب لصياغة مشروع كوني لمواجهة
الاختلال الأخلاقي وما ينجم عنه من سياسات منحطة في هذا العالم، ليس فقط لأنّ
فلسطين تملك الطاقة الفائضة للكشف الدقيق عن اختلالات العالم، ولكن أيضا لأنّ كل
القضايا الكونية سواء الناجمة عن الرأسمالية وتمركزها في الغرب/ الشمال لأسباب
تاريخية، أو عن النيوليبرالية المذرّرة للاجتماع الإنساني لصالح الفردانية
والهويات الصغيرة، وهو ما سوف تدفع ثمنه المجتمعات والشعوب التي لا تجد من يقف
معها، تتجلّى كوارثها في فلسطين وعلى الفلسطينيين، وفي كيفيات تكريس التبعية
للغرب/ الشمال، وللشبكات الاقتصادية النافذة في العالم، على حساب الفقراء، وعلى
حساب الاستقلال الحقيقي للدول التابعة، خاصة في المنطقة العربية التي تملك، كما
يفترض، التطلعات التاريخية والثقافية، والموارد السياسية والاقتصادية، لتكون صاحبة
إسهام كوني يتجاوز موقع التابع الراهن.
وبعدما
تجلّى هذا الظلم التاريخي بنحو فاحش وغير مسبوق بحرب الإبادة الإسرائيلية على
غزة،
فإنّه وبدلا من الالتفات إلى فلسطين، بوصفها محورا صالحا لتشييد مشروع كوني
لمواجهة اختلال العالم، فقد تمكن الإسرائيلي، بلا أدنى كابح من الاستمرار 18 شهرا،
حتى الآن، في حرق أكثر من مليوني فلسطيني وتجويعهم في مساحة مغلقة لا تزيد على 365
كيلومترا مربعا.
يمكن ملاحظة هذا الضمور الأخلاقي في الكيفيات التي يُعبّر بها نشطاء ومثقفون عرب عن موقفهم من الإبادة المفتوحة على الشعب الفلسطيني بغزة، بعد استثناء الإعلام الممول رسميّا وما يتصل به من لجان إلكترونية، ففي غمرة الإبادة والتجويع، يعجز هؤلاء الناشطون والمثقفون عن إبداء تعاطفهم مع الشعب المشرد والمسحوق والمجوّع إلا بإدانة بعض من هذا الشعب بتحميله المسؤولية عن مصاب الفلسطينيين
والفلسطيني
كأيّ مظلوم، تتسم مظلمته بهذا القدر العالي من العدالة والوضوح، لا بدّ وأن يسعى
إلى تركيز مظلمته هذه في وعي العالم، ومن باب أولى الذين هم أقرب إليه ثقافيّا
واجتماعيّا، علاوة على مسؤوليتهم التاريخية تجاه هذه المظلمة، أي العرب والمسلمين،
بيد أنّ الاستجابة العالمية، على مستوى جماهير الناس وأفرادهم، كانت أحسن منها في
المجال العربي في فلسطين، ليس فقط بسبب السطوة الأمنية للأنظمة العربية المتحالفة
قطعا مع إسرائيل، ولكن أيضا لسياسات التحطيم والتذرير للمجتمعات العربية، ومركزتها
حول يومياتها الاقتصادية، وتجريدها من الهمّ السياسي، وهو ما انتهى لا إلى وعي
مشوّه فحسب بخصوص القضية الفلسطينية، وما تمثله من مشترك عربيّ يتداخل حتى مع
اليوميات الاقتصادية للعربيّ المطحون، ولكن أيضا إلى ضمور في الإحساس الأخلاقي.
ويمكن
ملاحظة هذا الضمور الأخلاقي في الكيفيات التي يُعبّر بها نشطاء ومثقفون عرب عن
موقفهم من الإبادة المفتوحة على الشعب الفلسطيني بغزة، بعد استثناء الإعلام الممول
رسميّا وما يتصل به من لجان إلكترونية، ففي غمرة الإبادة والتجويع، يعجز هؤلاء
الناشطون والمثقفون عن إبداء تعاطفهم مع الشعب المشرد والمسحوق والمجوّع إلا
بإدانة بعض من هذا الشعب بتحميله المسؤولية عن مصاب الفلسطينيين، في تجاوز مريع
لمسار القضية الفلسطينية برمته وسلوك الاحتلال، فاتهام المقاومة الفلسطينية تراوح
بين إدانتها وتحميلها المسؤولية في تبرئة ضمنية للاحتلال، وبين اتهامها بالعمل
لأجندة إقليمية، أو السعي لتكريس سلطتها، بالرغم من أنّها هدمت كلّ مكتسباتها
السلطوية في سياق نضالها.
لكن
الأسوأ من ذلك، تلك الخطابات التي لا تقصر إدانتها على المقاومين، ولكنّها تدين
الفلسطينيين كلّهم بدعوى أنهم حوّلوا قضيتهم من قضية عادلة إلى دين، وأنفسهم إلى
آلهة، وهي خطابات -للأسف- يتبناها بعض النشطاء السوريين، في مدّ منهم لخطّ تنافس
المظلوميات الذي اخترعوه طوال 14 عاما من عمر المعاناة السورية. ويمكن ملاحظة هذا
الاختلال العقلي والضمري، ليس فقط في الكيفية التي يجري فيها توصيف قضية من شأنها
أن تكون أساس مشروع كوني مشترك، علاوة على أنّها بالبداهة ينبغي أن تكون كذلك
عربيّا وإسلاميّا، ولكن أيضا لو قلبنا هذه الخطابات على أصحابها وقيّمنا تجاربهم
ونضالهم وثوراتهم بالمنظور نفسه لنلاحظ مستويات التمركز المريعة حول الذات، تصبح
فلسطين والحالة هذه شرطا لشفاء بعض العرب والمسلمين من أسقام ضمائرهم وخراب عقولهم
أيضا.
x.com/sariorabi