في مشهد يعيد إلى الذاكرة فصولًا قاتمة من التاريخ الإنساني، تتكرر اليوم في قطاع
غزة المحاصر والمدمر من قبل
الاحتلال الإسرائيلي٬ مأساة
المجاعة التي عصفت بهولندا في شتاء عام 1944، حين فرضت القوات النازية حصارًا قاسيًا على غرب البلاد، ما أدى إلى وفاة 22 ألف شخص وتأثر نحو 4.5 مليون نسمة.
وبينما يختلف السياق الزمني والسياسي، فإن الملامح الإنسانية للأزمتين تكاد تتطابق: الحصار، التجويع، انهيار منظومة الغذاء، وعجز العالم عن التدخل الفعّال لإنقاذ الأرواح.
في
هولندا، وقعت الكارثة فيما يُعرف بـ"شتاء الجوع" (Hongerwinter)، حين قررت سلطات الاحتلال النازي، في أيلول/سبتمبر 1944، منع نقل الغذاء والوقود إلى غرب البلاد، عقابًا على دعم الحكومة الهولندية المنفية لجهود الحلفاء في تحرير الجنوب.
تزامن هذا القرار مع شتاء قارس، ومحاصيل ضعيفة، وأربع سنوات من الإنهاك بفعل الحرب، ما أدّى إلى خفض الحصص الغذائية اليومية إلى ما بين 400 و800 سعرة حرارية فقط. وللبقاء على قيد الحياة، اضطر السكان إلى أكل الحشائش وبصيلات الزنبق، ما خلّف آثارًا صحية ونفسية امتدت لأجيال لاحقة، حيث وُلد الأطفال أصغر حجمًا، وأكثر عرضة للإصابة بأمراض مثل السكري والفصام وأمراض الرئة.
أما في غزة، فالمأساة الراهنة بدأت مع اندلاع حرب الإبادة الإسرائيلية في تشرين الأول/أكتوبر 2023، حيث أغلق الاحتلال الإسرائيلي المعابر البرية بشكل شبه كامل، مانعا دخول المواد الغذائية والطبية، في إطار سياسة ممنهجة للتجويع، وسط تقارير عن نية تهجير سكان القطاع قسرًا، في ما تصفه جهات حقوقية بمحاولة تطهير عرقي معلن.
ويعيش سكان القطاع الآن على حافة الكارثة، حيث يؤكد برنامج الأغذية العالمي التابع للأمم المتحدة نفاد كامل مخزوناته الغذائية، وإغلاق المخابز المدعومة، ما أدى إلى ارتفاع أسعار الغذاء بنسبة فاقت 1400%.
رغم ذلك، لم تعلن الأمم المتحدة رسميًا وقوع المجاعة، واكتفت بالتحذير من "وضع كارثي وشيك".
المجاعة في غزة ليست أولى حالات الجوع القاتل منذ بدء الحرب؛ ففي تشرين الثاني/نوفمبر 2023، سُجلت أول مؤشرات الانهيار الكامل لمنظومة الغذاء مع نفاد الوقود وإغلاق المخابز. وبحلول حزيران/يونيو 2024، صُنّف 22% من سكان غزة ضمن المرحلة الخامسة – وهي الأعلى – وفقًا لنظام التصنيف المرحلي المتكامل للأمن الغذائي (IPC)، الذي يُستخدم دوليًا لتحديد درجة شدة المجاعة.
واليوم، تؤكد تقارير من شبكة "FEWS NET"، أن المجاعة فعليًا بدأت في شمال غزة في نيسان/أبريل 2024، حيث اضطر السكان إلى أكل أوراق الأشجار وأعلاف الحيوانات.
تُظهر المقارنة بين الحالتين الهولندية والفلسطينية تشابهًا بنيويًا في الأدوات المستخدمة: في الحالتين، الحصار والتجويع وحرمان المدنيين من الغذاء لأهداف عسكرية وسياسية.
إلا أن الحالة الفلسطينية تتسم بخصوصية إضافية، تتمثل في أن المجاعة تُدار ضمن سياق استعمار استيطاني طويل الأمد، يستهدف اقتلاع السكان الأصليين وتفريغ الأرض من أهلها.
كما أن المجاعة في غزة تحدث تحت غطاء من الصمت الدولي، رغم التحذيرات المتكررة من وكالات الأمم المتحدة، ومنها برنامج الأغذية العالمي ومنظمة الأغذية والزراعة (FAO)، التي تستند إلى معايير علمية صارمة لتحديد وقوع المجاعة.
وبينما شكّل شتاء الجوع الهولندي حافزًا عالميًا بعد الحرب لتطوير أنظمة الحماية الغذائية وحقوق الإنسان، يبدو أن ما يحدث اليوم في غزة يعيد عقارب الإنسانية إلى الوراء، في ظل غياب آليات مساءلة فعالة، وتسييس ملف المساعدات، ورفض واضح من قِبل الاحتلال الإسرائيلي لأي حلول إنسانية، سواء عبر فتح المعابر أو حتى السماح بعمليات إسقاط جوي منسقة.
في المحصلة، لا تُمثّل المجاعة في غزة مجرد كارثة إنسانية طارئة، بل تُعد شاهدًا حيًا على فشل النظام الدولي في حماية المدنيين، وتحذيرًا من أن التجويع قد يعود أداة حرب مشروعة في نظر من لا يُحاسَب.