قضايا وآراء

الخوف من الذئب.. المصير الأمريكي (2)

"حذر محللون آخرون من أخطاء فادحة ارتكبتها الإدارة الرأسمالية"- الأناضول
فكرة سقوط أمريكا عن عرش العالم ليست جديدة، لكنها تأتي هذه المرة مصحوبة بأعراض واقعية وعملية تكشف الشروخ والمخاطر، وتجعل الحديث التحذيري من السقوط ممكنا ومقلقا، وليس في مدار الأمنيات بعيدة المدى.

التحذيرات والنبوءات القديمة ارتبطت بأحداث تم وصفها بأنها مؤقتة وعارضة، وترتبط بمخاوف نفسية عميقة منذ نشأة أمريكا، جعلت من فرضية انهيارها "مرضا نفسيا جماعيا"، لا تكف الطبقة الوسطى القلقة عن الثرثرة بشأنه مع كل أزمة ولو صغيرة تتعرض لها بلادهم.

وقد كتب المفكر المعروف صموئيل هنتنجتون مقالا شهيرا في مجلة الشؤون الخارجية نهاية الثمانينيات، استنكر فيه تلك الأحاسيس وتلك المخاوف التي لا تستند إلى الواقع، موضحا أن موضوع "تراجع أمريكا" تحول إلى إشكالية ثابتة في الثقافة والسياسة الأمريكية منذ أواخر خمسينيات القرن الماضي على الأقل، وبالتحديد يوم 4 تشرين الأول/ أكتوبر عام 1957، عندما استيقظ العالم على خبر إطلاق الاتحاد السوفييتي لأول قمر اصطناعي في مدار الأرض (سبوتنيك1)، ثم توالت عدة موجات رئيسية كثر فيها الحديث عن نفس الموضوع، أشهرها ردود الفعل الداخلية على المعاناة الأمريكية في حرب فيتنام، ثم أزمة النفط على خلفية حرب أكتوبر 1973 بين العرب وإسرائيل، وكلما تصاعدت لغة التهديدات المتبادلة في الحرب الباردة مع السوفييت.

وأضاف محللون كثيرون مناسبات تالية لنظرية هنتجنتون عن "الموجات"، منها صعود اليابان، وأزمة كارتر الصحية وفشله في محاولة إنقاذ الرهائن الأمريكيين في طهران بعد الثورة الإسلامية، ثم هجمات 11 أيلول/ سبتمبر، والأزمة المالية عام 2008 وحالة الركود الكبير التي استمرت بعدها، ثم فيروس كورونا وتبعات الخوف والإغلاق، حتى جاء التنين الصيني ليعيد الحديث بقوة داخل المجتمع الأمريكي وخارجه عن احتمالية وضع حد لسيطرة أمريكا على العالم..

لكن المتفائلين الواثقين من "عظمة أمريكا"، ظلوا عبر تلك الأزمات وحتى الآن، يرددون حججهم لمواجهة المخاوف، ويؤكدون أن التراجع المؤقت للولايات المتحدة في بعض المواقف لا يعني الانهيار النهائي، بقدر ما يعني إعادة تنظيم وتجديد لضمان التفوق وتعظيم القدرة على حماية المصالح الأمريكية في أنحاء الأرض.

لكن المتفائلين الواثقين من "عظمة أمريكا"، ظلوا عبر تلك الأزمات وحتى الآن، يرددون حججهم لمواجهة المخاوف، ويؤكدون أن التراجع المؤقت للولايات المتحدة في بعض المواقف لا يعني الانهيار النهائي، بقدر ما يعني إعادة تنظيم وتجديد لضمان التفوق وتعظيم القدرة على حماية المصالح الأمريكية في أنحاء الأرض.

في مقابل سدنة التفاؤل الأمريكي، حذر محللون آخرون من أخطاء فادحة ارتكبتها الإدارة الرأسمالية، مدفوعة بمزيج من الجشع والغباء، وكتب أحدهم ساخرا من رفض مناقشة فكرة التراجع: عليهم أن يقرؤوا قصة الراعي والذئب في حكايات إيسوب، فعدم حدوث التراجع النهائي نتيجة أخطاء وأزمات سابقة، لا يعني أن هذا الاحتمال ممكن الحدوث، فربما كان الإنذار بانقضاض الذئب على الغنم خاطئا في الموجة الأولى أو الثانية أو الثالثة، لكن الاستمرار في عدم تصديق إمكانية الانهيار، ستصل بنا إلى الارتكان وعدم التحرك عندما ينقض الذئب بالفعل على الغنم، بينما نتغاقل نحن عن ذلك تحت زعم أننا بخير

هكذا استمر السجال خلال العقود الثلاثة الماضية بين المحذرين والمطمئنين، ونُشرت الآراء المتباينة عن الانهيار الأمريكي في مئات المقالات وعشرات الكتب والدراسات، التي تتناول مظاهر وأشكال السقوط الأمريكي، بعضها تحدث عن زوال دراماتيكي يشبه غرق تيتانيك المفاجئ والصادم، وتلك كانت الدراسات التي أغوتها المقارنة التاريخية مع سقوط الإمبراطورية الرومانية القديمة، ودراسات أخرى تحدثت عن تفكك للولايات وانهيار صيغة الاتحاد الفيدرالي، ودراسات أكثر واقعية تحدثت عن تراجع بطيء ونسبي في مجال التأثير الجيوسياسي والعسكري، مع تفاقم أزمات مالية وتجارية تؤثر بشكل خطير على المكانة الاقتصادية لأمريكا في الداخل وفي التعاملات الخارجية.

في الداخل، تتسارع مظاهر الغضب والاحتجاج ضد الفقر وخلل توزيع الثروة، وتدني خدمات الرعاية الصحية، وحوادث العنصرية المتغلغلة في بنية الإدارة والمجتمع، كما تظهر مشكلات التنافر السكاني وأزمات المهاجرين وعسر عملية الاندماج الاجتماعي، وما يتبعه من أزمات ثقافية وأخلاقية ودينية تعكس ثقافات انتقلت من حالة التباين والتنوع إلى حالة التعارض والصراع. ويرى كثير من المحللين والمتابعين، أن درجة الصراع الأخلاقي والثقافي وصلت ذروتها في تظاهرات دعم غزة، وفضح الدور الأمريكي الداعم لجريمة الإبادة التي يمارسها الاحتلال الإسرائيلي ضد السكان الفلسطينيين.

هذا بإيجاز سريع ما يخيف ويزعج في الداخل. أما في الخارج، فتتجلى مشكلات أمريكا في مجال حرية التجارة الدولية، وتعارض قراراتها وسياساتها مع أسس مركزية في النهج الرأسمالي ومبدأ الأسواق المفتوحة، فلم يعد المبدأ الرأسمالي الشهير "دعه يعمل.. دعه يمر" مقبولا في دولة تسعى للاحتكار والإغلاق وفرض الرسوم المعطلة لحركة التجارة؛ بغية تحصيل إتاوات أسهل من المضي في تحقيق الأرباح من المنافسة المفتوحة. ولذلك؛ فإن أزمة الرسوم الجمركية التي فرضتها أمريكا ليست أزمة وقتية، لكنها أزمة طريق، وسياسة مضادة للنهج الرأسمالي، لها ما بعدها من تأثيرات على العملة الأمريكية وعلى المكانة التجارية والاقتصادية.
مئات المقالات وعشرات الكتب والدراسات، التي تتناول مظاهر وأشكال السقوط الأمريكي، بعضها تحدث عن زوال دراماتيكي يشبه غرق تيتانيك المفاجئ والصادم، وتلك كانت الدراسات التي أغوتها المقارنة التاريخية مع سقوط الإمبراطورية الرومانية القديمة، ودراسات أخرى تحدثت عن تفكك للولايات وانهيار صيغة الاتحاد الفيدرالي، ودراسات أكثر واقعية تحدثت عن تراجع بطيء ونسبي في مجال التأثير الجيوسياسي والعسكري، مع تفاقم أزمات مالية وتجارية تؤثر بشكل خطير على المكانة الاقتصادية لأمريكا في الداخل وفي التعاملات الخارجية.


كما أن الصراع الدولي في مجال التكنولوجيا يضيف على هذه الأزمة أبعادا ومخاطر أكثر ضررا، ولعلنا نتابع تواتر مشاكل الإدارة الأمريكية مع شركات التكنولوجيا، خاصة في الصين وكوريا واليابان أيضا، والقرارات المقيدة التي ارتبطت بشركات مثل "هواوي"، وتطبيقات مثل "تيك توك"، ومحركات ذكاء اصطناعي مثل "ديب سيك"، وأثر ذلك على خسائر البورصات الأمريكية، بالإضافة إلى ارتباك الإدارة الأمريكية في معالجة التعارض بين قضايا معاصرة ملحة، مثل علاقة التصنيع بمخاطر البيئة، والتخبط بين قرارات إبعاد بعض الصناعات لمناطق خارج الحدود مثل ماليزيا والهند وشرق آسيا، وأماكن أرخص في العمالة وأكثر تساهلا مع الشروط البيئية، وبين الرغبة في الهيمنة المطلقة على الأسواق الدولية، وتعظيم الربح بأقل استفادة للمنافسين والشركاء أيضا.

ولعل أزمة إغلاق مصانع الصلب في بنسلفانيا أشهر مؤشر على الارتباك الأمريكي في معالجة أزمة التصنيع بين الداخل والخارج، في الوقت الذي تتعاظم فيه مكانة الصين كقوة تجارية وصناعية قادرة على تحدي مكانة الولايات المتحدة.

إذا راجعنا التقديرات الكلاسيكية العتيقة التي تتناول الحالة الإمبراطورية لأمريكا، يمكن تلخيصها في أربع ركائز أساسية وبعض العوامل الفرعية المساعدة، أما الركائز الأساسية التي سنعرض لها ببعض التفصيل في المقالات فهي:

1- مجتمع داخلي منتج متماسك يتسم بالكفاية والإشباع ويعمل كماكينة عمل اقتصادية، مقابل حياة رغدة منضبطة على دستور يقدس الحريات الفردية وعدالة القوانين.

2- قوة اقتصادية هائلة تضمن التمويل والسيطرة والتفوق في المنافسة والسيطرة على الأسواق الدولية.

3- قوة عسكرية رادعة ومهددة، تفرض مظاهر الحكم على أنحاء الأرض بالتعاون مع شركاء عسكريين، سواء كانوا أعضاء في "ناتو" أو تابعين من خارجه، يقدمون الخدمات اللوجستية ويستضيفون القواعد، ويصوتون كأدوات حشد في قاعات الأمم المتحدة عند اللزوم، ويقدمون أحيانا جنودا للقتال إذا استدعى الأمر.

4- أخيرا، قوة ناعمة تمارس الهيمنة الثقافية والسلوكية على العالم من خلال السينما والموسيقى والأفكار.

لم أهتم بترتيب الركائز حسب أهميتها؛ لأنها من وجهة نظري ضفيرة عضوية بلا ترتيب، تعمل بتكامل وتجانس، ويصعب فصل إحداها عن الأخرى أو وضع ترتيب ثابت لها، لكنني اخترت أن أبدأ في المقالات التالية بمناقشة الوضع الاقتصادي والأزمة التجارية التي أشعلها ترامب بقرار الرسوم الجمركية، وما يرتبط بالقرار من أزمات عميقة أدت إليه، ونتائج مسيئة تترتب على صدوره، وبعد ذلك أتطرق إلى أزمات المجتمع الأمريكي ومشاكل المعيشة في الداخل، ثم نناقش البعد الثقافي وانقلاب القوة الناعمة، وأخيرا أختم بوضعية وتحديات القوة العسكرية والسياسية التي وصلت إليها الحالة الأمريكية بعد 70 عاما تقريبا من الهيمنة العسكرية، نصفها تقريبا استمر كهيمنة أحادية بعد تفكك الاتحاد السوفييتي في مطلع تسعينيات القرن الماضي.

وفي المقال المقبل نواصل...

maher21arabi@gmail.com