"لا ينبغي أن نلقي بتراث
غزة في البحر"، بهذه العبارة افتتح رئيس معهد العالم العربي في
باريس، جاك لانغ، المعرض الاستثنائي "كنوز غزة المنقذة.. خمسة آلاف عام من التاريخ"، والذي يستمر حتى الثاني من تشرين الثاني/نوفمبر المقبل في مقر المعهد.
Embed from Getty Images
واعتبر لانغ أن إقامة المعرض في هذا التوقيت هو بمثابة "فعل مقاومة"، في ظل الدمار الهائل الذي خلفته الحرب المستمرة منذ 18 شهراً، والتي حولت القطاع إلى أنقاض ومقبرة لنحو خمسين ألف شخص، وفقاً لوزارة الصحة في غزة.
يُسلط المعرض الضوء على مصير قطع أثرية تحمل عبق التاريخ العريق للقطاع الفلسطيني، ويوثّق جانباً من الدمار الذي طال ميناء كان ذات يوم مزدهراً على شواطئ المتوسط.
ويرى عالم
الآثار جان بابتيست هامبير، الذي قضى عقوداً في التنقيب في غزة، أن هذا المعرض يمثل تكريماً لشعبها، ويوجه أيضاً رسالة ضمنية لمن يسعون إلى محو هوية المكان، محذراً من محاولات تحويله إلى "ريفييرا الشرق الأوسط" خالية من سكانها.
تشير تقارير الأمم المتحدة إلى أن نحو 1.8 مليون فلسطيني باتوا بلا مأوى، بينما تعرض ما يقارب ثلثي التراث التاريخي في القطاع للتدمير أو الضرر.
وفي مواجهة هذا الواقع الأليم، يسعى المعرض في باريس إلى إحياء الذاكرة الثقافية للمنطقة، وإبراز عمقها الحضاري الذي طمرته الحرب.
توضح منسقة المعرض، إلودي بوفار، أن الفكرة انطلقت من الرغبة في إعادة الاعتبار لتراث غزة، الذي طوته المأساة.
ويضم المعرض جولة افتراضية ثلاثية الأبعاد داخل دير القديس هيلاريون، الذي شُيّد عام 329 ميلادي، ويُعد من أقدم الأديرة في الشرق الأوسط، وقد أُدرج على قائمة الممتلكات الثقافية المحمية دولياً من قبل اليونسكو في تموز/يوليو 2024، رغم ما تعرض له من أضرار جراء القصف.
كما يقدم المعرض خريطة تفاعلية للمعالم المهددة بالزوال، أنجزها نحو أربعين باحثاً في مجالات متعددة ضمن مشروع "غزة.. جرد لتراثٍ مُدمّر"، بإشراف المؤرخ فابريس فيرجيني.
ويؤكد فيرجيني أن غزة، التي تُختزل غالباً في صورة مخيم لاجئين، هي في الواقع منطقة غنية بتراث عمره أكثر من خمسة آلاف عام، احتضنت حضارات متعددة من الفراعنة والفلستيين، إلى الإغريق والرومان، والبيزنطيين، ثم الدول الإسلامية فالعثمانيين.
وفي هذا السياق، تبرز معالم مثل المسجد العمري الكبير، الذي شُيّد عام 700 ميلادي على أنقاض كنيسة بيزنطية، وتحول لاحقاً إلى كنيسة في عهد الصليبيين ثم أعيد مسجداً في زمن المماليك، قبل أن يتوسع في الحقبة العثمانية.
وتعرض المسجد مراراً للقصف، وكان آخرها في أواخر عام 2023، حيث أُصيبت مئذنته وتعرض لأضرار جسيمة.
يُظهر المعرض كذلك مواقع غير مدرجة رسمياً على قوائم التراث، مثل المقابر التي تعرضت لتجريف متعمد، ما حرم العائلات من إمكانية زيارة موتاها.
وتؤكد الأنثروبولوجية فيرونيك بونتام أن فقدان هذا التراث لا يعني فقط ضياع الذاكرة، بل محواً لإنسانية الشعب الذي عاش في هذه الأماكن، مشددة على أن التراث ليس مجرد رموز من الماضي، بل جزء من كيان الشعوب ووجودها.