لا تزال
الدراما العربية وخاصة
التاريخية منها تخضع بشكل
متفاوت لسلطة السياسة والأيديولوجيا والمال، والعمل الأخير الذي كثر الحديث عنه
يدل بوضوح على ذلك. فمعاوية ليس مسلسلا عاديا، إنه في قلب الصراع الدائر حاليا.
تابعت أغلب الحلقات، فبدا لي أن الشخص الذي نحتوه لا
علاقة له البتة بذلك الرجل الذي انحرف بالتاريخ العربي الإسلامي إلى درجة الانقلاب
عليه وتحويل وجهته سياسيا وعقائديا. فمعاوية بن أبي سفيان في المسلسل شخصية مؤمنة
إلى حد التقوى، تحب الخير للأمة، مجاهدة في سبيل الله، من كتبة الوحي وحفظته. لكن
معاوية في الواقع التاريخي حكاية أخرى ذات طموح شخصي وقبلي، براغماتي، ومستبد إلى
حد التهور والغلو.
لا خلاف حول الدور الهام الذي قامت به الحقبة الأموية في
ترسيخ الدولة وتوسيع نطاق سلطتها جغرافيا وحضاريا، لكن ذلك لا يبرر مطلقا أن نضفي
على مؤسسها ما ليس فيه، وأن نقارنه بعلي بن أبي طالب، تلك الشخصية النقية التي تمتعت
بخصال عديدة، والذي ذهب ضحية المناورات الخسيسة التي قام بها خصومه خلال الفتنة
التي قضت على جزء هام من الجيل المؤسس.
ورغم أن الرسول صل الله عليه وسلم قال "إذا رأيتم
معاوية يعتلي منبري فاقتلوه"، ورغم أنه قال أيضا "عمار ابن ياسر تقتله
الفئة الباغية"، إلا أن ذلك لم يمنع من أن تميل الرياح لصالح معاوية فينتصر
في معركة الخلافة، وتنقسم جبهة علي، فتقع معركة الجمل، ثم تنجح حيلة التحكيم،
ويولد الجناح التكفيري ويقوم الخوارج بقتل علي، وصولا إلى يزيد ابن معاوية الذي
ورث الحكم عن أبيه فقضى على مبدأ الشورى وقيام الحكم العضوض، وتولى يزيد قتل
الحسين مع أهل بيته، وقطع رأسه ورفعه فوق الرماح. وبذلك اكتملت التراجيديا الشيعية
الإسلامية.
من الأهمية بمكان أن نحمي الذاكرة ونصححها للأجيال القادمة؛
لأن الذاكرة إذا انحرفت تكون النتائج وخيمة، وينقلب الحق باطلا، وتضرب القيم في
مقتل، ولن يفهم تاريخنا فهما صحيحا. ليس المطلوب القيام بلعن معاوية في المنابر
كما فعلت الدولة العباسية من قبل، وكما يفعل الشيعة اليوم، ولكن المطلوب وضع الرجل
في مكانه وفي سياقه وفي حجمه. مهما حاول البعض التصرف في الشخصية، والتلاعب في
تقديمها بوضعها في إطار براق، فإن الحقائق ستفرض نفسها بقوة، وتكشف حجم الزيف الذي
تم اعتماده في الإخراج.
الأمة اليوم
منهكة، ومقسمة، والعدو الصهيوني يتوغل في الجسم الفلسطيني والعربي، ويعربد كما
يشاء. فهل هذا مناخ سليم لكي نعبث بلحظة فارقة في تاريخنا، من أجل ترضية هذا الطرف
أو ذاك، فتوجيه ضربة للشيعة في هذا السياق اختيار خاطئ في وقت غير مناسب. فإيران
بحساباتها وحزب الله اللبناني والحوثيون بإمكانياتهم المحدودة فعلوا مع أهل غزة ما
لم يفعله أهل السنة مجتمعين، ساندوا المحاصرين في لحظات فارقة لا يمكن إنكارها أو
التقليل من شأنها. شهد بذلك الجميع، فهل أن إنجاز مسلسل مثل هذا من شأنه أن يغير
في رأي الكثير من الناس؟
فعندما نعلم بأن
كل علماء أهل السنة والجماعة الذين يحظون بالثقة من قبل الجمهور، أجمعوا حول عدم إدراج
معاوية ضمن أهل الفضائل والمكرمة، وكل ما فعله أغلبهم أنهم تجنبوا الخوض في سيرته،
خوفا من بطش السلطة بهم. ومن الغريب أن خالد صلاح كاتب السيناريو اعتبر أن المسلسل
"يؤسس لخطاب ديني جديد يعتمد على التحليل والنقد البناء، بعيدا عن التقليد
الأعمى، ويعزز من أهمية الفهم العميق للتاريخ الإسلامي بعيدا عن التأويلات
المغلوطة أو المبالغة في تقديس الأشخاص"؛ فأي خطاب ديني عقلاني يمكن أن يبنى
على أنقاض سيرة معاوية بن أبي سفيان، الذي استعمل كل الوسائل التي تمكنه من البقاء
في السلطة، حتى لو أدى ذلك إلى تغذية الفتنة وتبرير قتل الخصوم؟ لقد كان معاوية
مثالا لشخصية المستبد غير العادل، ولا أعتقد أن تجديد الفكر الديني يمكن أن يرتبط
بالاستبداد والمكيافيلية المقيتة، وإنما يولد من رحم الحرية والشورى الحقيقية
والعقلانية المرتبطة بروحانية عالية.