رغم ثِقَل وزن الأدلة التي تكشَّفت إبَّان نصف القرن الماضي، والتي
تصبُّ في توكيد الأصل الإيراني للسيد جمال الدين "
الأفغاني"، ورغم
إمكانيَّة تأويل تعاطيه مع هذا الأصل، وتعاطي مُعاصريه؛ تأويلا يُفسر مسيرته،
وينزع القداسة الساذجة التي تتدثَّر بها الرؤية التآمرية، فإن هذه الأدلَّة لم تنل
بعد شيئا من الدرس بين الباحثين العرب، ودع عنك الاستيعاب والهضم والتأويل(1).
وربما كانت أهم المصادر في تتبُّع أصل السيد هي وثائق الأرشيفات
العثمانيَّة، التي بدأ نشرها مؤخرا، ووفِّقنا إلى الحصول على كم كبير منها؛ سننشره
تباعا في تنوير للنشر والإعلام. بيد أن ثمة مصادر أخرى أيسر تناولا، وأقرب إلى
الباحث؛ وهي كُتب التراجم العثمانيَّة الصادرة في ذلك العصر، التي لفت رودريك
ديفدسون انتباهنا إلى أحدها(2)؛ فتتبَّعناه وحصلنا عليه، وترجمناه عن العثمانيَّة،
ووقفنا على ترجمة حسنة لمؤلفه؛ لنتمكَّن من إدراك الخلفيَّة التي ظهرت فيها هذه
الترجمة، والعناصر التي أسهمت في صياغتها.
والمقصود هاهُنا هي ترجمة السيد جمال الدين المختصرة، التي وردت في
كتاب التراجم: "تذكرة مشاهير
العثمانيين" المعروف بـ"سجل
عثماني"، لمؤلفه محمد ثُريا (1845-1909م)، وهو مكون من أربعة مجلدات في ثلاثة آلاف صفحة باللغة التركيَّة
العثمانيَّة، طُبعت أول ثلاثة مجلدات منه في إسطنبول بين عامي 1890-1893م، والرابع دون
تاريخ، وإن كان الراجح طباعته في 1897م (عام وفاة السيد).
وبحسب عبد القادر أوزغان، الذي اعتمدنا على ترجمته لمحمد ثُريا
وتفصيله لمحتويات كتابه(3)؛ فقد ولد ثُريا لأب خدم البيروقراطية العثمانية في
مواطن شتَّى، قبل أن يصير الابن نفسه من موظفي هذه البيروقراطيَّة. وذلك بعد
دراسته العربية والفارسية والفرنسية، ثم التحاقه بالباب العالي مُترجما، وقد ظلَّ
يترقَّى حتى وصل إلى الرتبة الثانية. ويُرجع المتخصصون بداية ظهور هذه التراجم إلى
نشرها مُسلسلة في جريدة: "الحوادث"، وهي أول جريدة عثمانيَّة
خاصَّة؛ وذلك حتى عيَّنه السلطان عبد الحميد الثاني في مجلس المعارف تقديرا لعمله
هذا. والمؤكد أن مصادر هذه التراجم قد تنوَّعت بين وثائق الأرشيفات والمخطوطات
والكتب المطبوعة وشواهد القبور.
بدأ ثُريا تدوين كتابه بتراجم رجالات الأتراك، وبعض أعلام المسلمين
وأعيانهم على مدى التاريخ الإسلامي، رغم أن موضوع الكتاب الأساس هو تراجم رجالات
العهد العثماني. وعليه، حوى الكتاب تراجم أعلام العثمانيين منذ نشأة الدولة، وحتى
نهاية القرن التاسع عشر تقريبا؛ حتى صار من أهم المصادر في بابه باحتوائه على ما
يقرُب من عشرين ألف ترجمة.
وقد حوى المجلد الأخير، وهو مصدر ترجمة السيد جمال الدين التي
نتناولها؛ قوائم لخانات القرم، وولاة المجر ومصر، وشيوخ الطرق الصوفيَّة، وسردا
موجزا -بحسب الترتيب الأبجدي- لأهم تفاصيل حيوات الأعلام، الذين وافاهم الأجل في أثناء
طباعة الكتاب، بالإضافة إلى هؤلاء الذين اشتهروا بأسماء أو ألقاب معينة أكثر من
أسمائهم الحقيقيَّة.
ويرجح ديفدسون أن سبب عدم انتباه الدارسين إلى هذه الترجمة، هو أن اسم
جمال الدين الأفغاني لم يَرِد في موضعه من الترتيب الألفبائي للمجلَّدات الأربعة؛
إذ إن "سجلّا عثمانيّا" لم يحو ترجمات لأي أحياء على الإطلاق، وإنما
تظهر ترجمة السيد في ملحق المجلد الرابع، بين ثنايا: "الوفيات التي وقعت
إبَّان إعداد الكتاب وطباعته"(4)، وربما كان من المهم التذكرة بأنه رغم
انتهاء طباعة الكتاب حوالي عام 1897م (الذي توفي فيه السيد)، فإن الكتاب لم يُتح آنذاك مباشرة؛ إذ أغلق
السلطان المطبعة، وظلَّ الكتاب في مستودعاتها حتى خرج بعد خلع عبد الحميد (أي بعد 1909م). وعليه، ذاعت الترجمة التي نشرها جرجي
زيدان في مجلة: "الهلال" -عام 1897م- ذيوعا أكبر، وذلك حتى أعاد نشرها دون تغيير تقريبا في كتابه المهم:
"تراجم مشاهير الشرق".
وها هو نص ترجمة محمد ثُريا للسيد قدَّس الله روحه(5):
جمال الدين محمد أفندي. من أصل إيراني، كان من موظَّفي الحكومة
الإيرانية، ثم انتقَلَ بعد ذلك إلى أفغانستان، ومنها إلى إسطنبول -عن طريق أوروبا-
عام 1286 هـ ق [1869-1870م]. صار
مُعلِّما في دار الفنون العثمانية، وأحد أعضاء مجلس المعارف العثماني، وانتقل بعد
ذلك إلى أوروبا -مرَّة أخرى- وبعد ذلك استقرَّ في مصر لمدَّة طويلة. وقبل عدَّة
سنوات، عاد إلى إسطنبول ثانية [حوالي 1892م]، وتوفي في الخامس من شوال عام 1314 هـ ق [9 آذار/ مارس 1897م]، ودُفن في مقبرة الشيخ في نشانطاش [بحي بشكطاش]، كان يعرف اللغات
الأجنبية، وله اطلاع واسع على العلوم الغربية. كان سياسيّا قحّا، واشتهر بلقب "الأفغاني"(6).
أصل الأفغاني وخلفيته ليست بسرّ مخز، ولا هي بالمؤامرة الخبيثة التي يجب سبر أغوارها؛ فهو أمرٌ يُمكن حمله على وجوه كثيرة نحاول في كتاباتنا تبيُّن بعضها، بيد أن المهم هو أنه لن يُغيِّر شيئا عند المسلم الذي يعرف الرجال بالحق، ولا يحاول تبيُّن الحق بالرجال.
ورغم اقتضاب الترجمة، وعدم تناولها لأكثر تفاصيل حياة السيد؛ فإن أول ما يلفت الانتباه فيها، أن الأصل الإيراني للسيد يُذكر بصورة عابرة، كأنه حقيقة
بسيطة ثابتة لا تستحق التوقف ولا المناقشة. ويبدو أن هذا يعكس المتداول عنه في
الأوساط العثمانيَّة الرسميَّة، التي كان محمد ثريا ينتمي إليها وإلى بيروقراطيتها.
أما ثاني الأمور اللافتة؛ فهو أنه يُشير إلى اسم المقبرة التي دفن فيها
السيد، إشارة قاطعة تتجاوز التكهُّنات الكثيرة التي أحاطت بمدفنه. ويبدو لي تقرير
ثُريا هذا أرجح من تخرُّصات غيره، بما أنه دوَّن كتابه في المدينة التي توفي فيها
الأفغاني، ودبج الترجمة خلال عام وفاته أو العام التالي على أقصى تقدير، وأتاح له
انتماؤه إلى البيروقراطيَّة معرفة مدفن السيد الذي حرص العثمانيون على تعميته. وكان ثالث ما لفت انتباهنا، والراجح أنه كذلك سبب من أسباب التعمية على هذه
الترجمة القصيرة، وعدم انتباه الباحثين لها؛ أن ثُريا يُضيف اسم "محمد"،
رغم أنه ليس من الأسماء التي استعملها السيد، فيما يبدو أنها زلَّة من ثُريا أو
خلطٌ غير مقصود.
وكما سبق منَّا القول، فإذا كان الاتفاق الضمني -بين أشباه الباحثين-
على الحفاظ على مكانة محمد عبده في نسق الأفغاني مرجعه(7) خوفهم المَرَضي على
مكانة السيد الفكريَّة والدعوية والحركية؛ أن ينالها كلامٌ عن جنسيته الأولى وأصل
نشأته، أو خلفيَّته المذهبيَّة المبكرة، حتى إن كان الرجل قد تجاوَز هذه البدايات
الضيقة حتما، كما يكشف نسقه الفكري-الحركي؛ فإن الدارِس المحقِّق(8) لا يستطيع أن
ينفي الخلفيَّة الإماميَّة عن السيد كأنها تهمة، رغم أن اعتقاده -قدس الله روحه- الذي
تجلَّى واضحا في فكره وحركته -طيلة حياته-، قد تجاوز به المذاهب المشهورة تجاوزا لا
ريب فيه، وهو نموذج يتكرَّر كثيرا في لحظات الإحياء المفصليَّة كافَّة، وتتجلَّى
لنا أبرز أمثلته اليوم في مولانا الفيلسوف والعارِف بالله: سيد حسين نصر، متعه
الله بالعافية.
إن أصل الأفغاني وخلفيته ليست بسرّ مخز، ولا هي بالمؤامرة الخبيثة
التي يجب سبر أغوارها؛ فهو أمرٌ يُمكن حمله على وجوه كثيرة نحاول في كتاباتنا
تبيُّن بعضها، بيد أن المهم هو أنه لن يُغيِّر شيئا عند المسلم الذي يعرف الرجال
بالحق، ولا يحاول تبيُّن الحق بالرجال. ولن يحتاج هذا المسلم إلى تلمُّس سبعين عذرا
ولا نصفهم ولا ربعهم للرجل، إن هو أحسن الفهم عنه وأدرك سمو نفسه وطبيعة رسالته،
التي أفنى عمره المبارك فيها دون مكسب شخصي حقيقي. رحم الله السيد.
___________
(1)
راجع مقالنا السابق على هذا الموقع: "
جنسيَّة الأفغاني ومذهبه".
(2)Roderic
H. Davidson (1988), Jamal al-Din Afghani; a note on his nationality and his
burial, Middle Eastern Studies, 24:1, pp. 110-112.
(3)Abdülkadir Özcan, “MEHMED SÜREYY”, DİA,
XXVIII, 527-529.
(4) كما عنون الملحق في المجلد الرابع، ص843وما
بعدها من الأصل العثماني.
(5) محمد ثريا، سجل عثماني (إستانبول: مطبعة عامرة، 1316)، دردنجي جلد، ص850.
(6) كل الترجمات عن التركية الحديثة والعثمانيَّة إلى العربية، التي استعنَّا بها في كتابة هذا المقال؛ هي من إنجاز الصديق الباحث والمترجم
المُجِد كريم عبد المجيد فله الشكر على جهده. والإضافات كافة التي بين معقوفين
هكذا [...]؛ هي من عمل كاتب المقال زيادة في الإيضاح.
(7) راجع مقالنا على هذا الموقع: "
الأفغاني
مرة أخرى".
(8) راجع مقالنا على هذا الموقع: "
ما قبل الأفغاني وما
بعده".
x.com/abouzekryEG
facebook.com/abouzekry