ملفات وتقارير

كيف دفع المصريون ثمن اهتمام السيسي بالأمن السياسي على حساب الجنائي؟

ظهر بشكل لافت ومثير لمخاوف المصريين تدشين بعض زعماء العصابات شركات أمن وحراسة- جيتي
وجه مصريون اتهامات لحكومة بلادهم، بالانشغال بالأمن السياسي على حساب الأمن الجنائي، منذ الانقلاب العسكري الذي قاده رئيس النظام الحالي عبد الفتاح السيسي، على الرئيس الراحل محمد مرسي، منتصف 2013، ما دفع نحو زيادة معدلات الجريمة وأعمال البلطجة وانتشار العصابات المسلحة في ربوع البلاد، وصعود نجم رجال العالم السفلي، وفق مراقبين.

وخلال الأيام الماضية تكشفت مجموعة جرائم مرعبة للمجتمع المصري، منها ما يعرف بقضية "سفاح الإسكندرية"، المحامي نصر الدين السيد غازي، (52 عاما)، والذي قتل 3 نساء بينهن زوجته ودفن جثثهن بشقتين تابعتين له، وذلك بحسب اعترافه أمام النيابة العامة.

وهو الأمر الذي دفع البعض لتوجيه اللوم للأمن المصري بإهمال ما تم تقديمه من بلاغات ضد المحامي، إثر اختفاء الضحايا، وفي المقابل الاهتمام المفرط بتوقيف واعتقال معارضي النظام.

وكتب الناشط عوض علي، قائلا إن "المحامي سفاح الإسكندرية ارتكب كل ما حرم الله، قتل، ومخدرات، وأخفى جثث ضحاياه، وقُدمت ضده بلاغات منذ 3 سنوات، ولم يُقبض عليه"، مضيفا: لكن لو كان كتب رأيا عبر مواقع التواصل الاجتماعي لكان تم القبض عليه خلال 24 ساعة، مؤكدا أنه لا يوجد "أمن جنائي الأمن السياسي فقط".



وقبل أيام أيضا، عاش أهالي قرى مركز ساحل سليم بمحافظة أسيوط (جنوب مصر) أيام رعب إثر مواجهات مسلحة بين عائلتين لخلاف حول قطعة أرض، تحولت لاحقا إلى مواجهة بين من يطلق عليه الأمن، (خط الصعيد) شديد الخطورة محمد محسوب، وقوات الشرطة، راح ضحيتها 8 مسلحين، وضابط شرطة وإصابة أفراد أمن وبعض الأهالي.

وهنا يربط الباحث في الشؤون القانونية عباس قباري، بين واقعة خُط الصعيد وبين ما يجري تدشينه من شركات أمنية يقودها كبار البلطجية من قادة العالم السفلي، خاصة وأن "الخُط" قبل مقتله ظهر في مقطع فيديو يؤكد وجود شخصيات نافذة تقف خلف ما يتعرض له من اتهامات.

وقال قباري: "يغلب على ظني أن حادث أسيوط له علاقة بتطورات ملف الشركات الأمنية التي تسيطر على الشأن الأمني وفق خطط مدروسة لها علاقة بالتقسيمات الجغرافية على غرار (العرجاني- نخنوخ)"، متوقعا أن يكون "الرجل إما رفض الانضمام للمنظومة أو كان منافسا لها".



"من البلطجة إلى الواجهة"
ومؤخرا ظهر بشكل لافت ومثير لمخاوف المصريين تدشين بعض زعماء العصابات شركات أمن وحراسة، على غرار ما دشنه قبل سنوات البلطجي الشهير قائد "موقعة الجمل" ضد ثوار يناير 2011، صبري نخنوخ، من شركة أمنية لها صلاحيات وأدوار كثيرة وتحت رعاية الأمن المصري، وذلك بعد حصوله على إفراج صحي بقرار من السيسي شخصيا عام 2018.

وفي أيلول/ سبتمبر 2023، اشترى صبري نخنوخ صاحب لقب "رئيس جمهورية البلطجة" مجموعة "فالكون" شركة الأمن الأكبر في البلاد، والتي تخدم 1500 عميل بينهم سفارات وبنوك وجامعات وشركات وأندية رياضية، وذلك بجانب دوره في حملة ترشح السيسي، بالانتخابات الرئاسية التي جرت نهاية 2023، وفاز فيها السيسي بولاية ثالثة تنتهي في 2030.

وأثار الظهور البارز لرجل الأعمال السيناوي إبراهيم العرجاني كواجهة اقتصادية وسياسية يشارك الدولة المصرية العديد من المشروعات الاقتصادية، رغم سجله الجنائي وسجنه سابقا في تهم قتل أفراد من الأمن المصري في شمال سيناء عام 2008، استياء الكثيرين وتساؤلاتهم حول ما يقوم به من أعمال رفعته في مصاف كبار رجال الأعمال.


كما تخوف مصريون من تبعات الظهور الأمني القوي للعرجاني الذي يمتلك ميليشيا سلحها الجيش للمشاركة في الحرب على الإرهاب في سيناء، خاصة مع ظهوره الدائم وسط مئات من أحدث سيارات الدفع الرباعي وآلاف من المسلحين في موكب يفوق بعشرات المرات مواكب الرؤساء وقادة الدول.

وفي سياق انتشار شركات أمن ومجموعات اقتصادية يقودها أشخاص غامضون ففي أيار/ مايو 2024، وإثر صعود نجم مجموعة شركات "العرجاني جروب"، وتأسيسه شركة "إيتوس" للأمن والحراسات، جرى الإعلان عن تدشين شركة مماثلة باسم "مصر الصعيد" بحسب إعلان الصحفي مصطفى بكري، حينها.

ما قرأ فيه مراقبون، تدشينا لإمبراطورية أمنية واقتصادية في صعيد مصر على غرار إمبراطورية العرجاني، والتي انطلقت من شمال سيناء عبر شركة "أبناء سيناء"، ذات الصلات القوية مع جهات سيادية.

"شاهد على رباط الأمن والبلطجية"
وفي المقابل، يشكو مصريون من انعدام الأمن الجنائي ويتهمون الدولة بالتركيز مع النشاط السياسي وتوقيف واعتقال أصحاب الرأي عبر مواقع التواصل الاجتماعي، متهمين وزارة الداخلية بفقدان أحد أهم أدوارها والانشغال بحماية استمرار النظام عن حماية أمن المواطن، مؤكدين على وجود ارتباط كبير بين البلطجية وبين ضباط وعناصر الأمن الوطني.

ويحكي محام مصري عن ارتباط البلطجية بالأمن، موضحا أنه حضر "مجزرة رمسيس" التي وقعت 16 آب/ أغسطس 2013، عقب مجزرتي فض "رابعة العدوية"، و"النهضة" بيومين، وأن البلطجية كان لهم دور كبير في قتل 210 متظاهرين سلميين في ميدان رمسيس بجوار مسجد الفتح الشهير وسط القاهرة، بحسب رصد "منظمة نجدة لحقوق الإنسان".

وأكد لـ"عربي21"، أنه "كان في صفوف الأمن الخلفية"، مبينا أن "قوات الشرطة دفعت بالبلطجية لضرب المتظاهرين بالحجارة والرصاص تحت حمايتهم"، ملمحا إلى أنه "منذ ذلك التعاون برز دور البلطجية في المناطق الشعبية بالقاهرة وأصبحوا تحت حماية ضباط الأمن الوطني".

وكان رئيس حزب الوسط المهندس أبوالعلا ماضي، قد نقل في 24 آذار/ مارس 2013، عن الرئيس الراحل محمد مرسي قوله إن "المخابرات أنشأت تنظيما مكونا من 300 ألف بلطجي، منهم 80 ألفا بالقاهرة وحدها"، وأن "هذا التنظيم كان في عهدة المباحث الجنائية، ثم انتقل الإشراف عليه إلى أمن الدولة قبل اندلاع ثورة يناير 2011".

واعترف السيسي في تشرين الأول/ أكتوبر 2023، بدور البلطجية السابق، وهدد بالاستعانة بهم، حين قال: "ممكن أهد مصر بمليار جنيه"، ملمحا إلى إمكانية منح 100 ألف شخص ظروفهم صعبة "باكتة بانجو" و20 جنيها أو مائة جنيه و"شريط ترامادول"، لإحداث فوضى بالبلاد.

"مهام منزوعة لصالح هؤلاء"
ووزارة الداخلية التي تعد "هيئة مدنية" يتمثل دورها طبقا للدستور، والقانون، في الحفاظ على النظام، والأمن العام، والممتلكات، والأعراض، وتوفر السكينة.

وبحسب تأكيد مساعد وزير الداخلية الأسبق اللواء رأفت الشرقاوي، لفضائية "أون" المحلية، فإن "عملها له شقين: المكافحة وضبط المجرمين"، مبينا أن للمكافحة جانبين: الأول، جنائي ويتبع إدارة الأمن العام، والثاني، سياسي ويتبع إدارة الأمن الوطني.

وأقر السيسي القانون (86 لسنة 2015)، في تموز/ يوليو 2015، والذي يسمح لوزارتي الدفاع والداخلية والمخابرات العامة بتأسيس شركات حراسة للمنشآت ونقل الأموال، ما سمح لكبار الضباط بتأسيس الشركات الأمنية الخاصة.

وكشفت العديد من المواقف التي أثارت الرأي العام عن إسناد بعض مهام الأمن الجنائي لشركات الأمن والحراسات الخاصة، ارتكب أفرادها جرائم بحق مصريين، بينها "المجموعة الإفريقية للتأمين والحراسة"، المملوكة لعدد من كبار ضباط الأمن السابقين والتي تتولى مسؤولية تأمين مباريات كرة القدم والمؤتمرات الهامة، منذ عام 2019.

وفي تموز/ يوليو 2024، اعتقل أفراد الشركة 250 من جمهور الأهلي خلال مباراته مع الاتحاد السكندري بالدوري المصري، باستاد (برج العرب) التابع للجيش، إثر رفعهم علم فلسطين تضامنا مع غزة، وسلمتهم للشرطة، وفق تأكيد "المفوضية المصرية للحقوق والحريات".

وأكد متحدثون لـ"عربي21"، أن اهتمام السيسي بالأمن السياسي وتسخير قوات الأمن للحفاظ على أمان سلطته أدى بالفعل إلى إهمال الأمن الجنائي، موضحين أنه نتيجة لذلك دفع كثير من المصريين الثمن من استقرارهم، فيما ربطوا بين انعدام الأمن الجنائي وتراجع مستوى المعيشة والدخل الفردي وحتى الإنتاج القومي.

"يركز على بقائه"
وفي رؤية أمنية واستراتيجية، قال الباحث المصري في الشؤون الأمنية والسياسية والاستراتيجية أحمد مولانا، لـ"عربي21"، إن "الهشاشة تنتشر في مؤسسات الدولة بمصر، والنظام يركز على بقائه وليس على أمن المجتمع وتأمين المواطنين".

وأوضح أنه "لذلك كافة الجهود والموارد تخصص للأمن السياسي، فيما ينهار الأمن المجتمعي في ظل انتشار الفساد وتدني الوضع الاقتصادي، وتغييب الأصوات الإصلاحية والدعوية".

وختم مؤكدا أنه "ولذلك فإن النماذج المتعددة لفقدان الأمن المجتمعي تتزايد من جرائم قتل وانتشار للمخدرات".

"قنبلة موقوتة وهذه مخاطرها"
وفي رؤيته، قال مدير "المرصد التشريعي" عباس قباري: "تحولت الشركات الأمنية لقنبلة موقوتة كونها تستوعب بشكل مخيف مجموعات كبيرة من (البلطجية) وفق المفهوم الشعبي، ووفق المفهوم الأمني (المسجلين خطر) من أصحاب المحكوميات الذين صدرت لهم قرارات العفو، أو المطلوبين للمحاكمة أو السجناء السابقين".

الباحث المصري في الشؤون القانونية والدستورية أكد لـ"عربي21"، أن "تلك الشركات تحل في بعض الأحيان محل الشرطة، وتتعامل وفق هذا الوصف باعتبارها رديف الشرطة أو معاونة لها بشكل شبه رسمي".

وألمح إلى أنها وفقا لهذا الوضع "تتمتع بحرية حركة ما يجعلها أقرب للحدث ويرشحها لإحداث الأثر العاجل والأقرب من مؤسسات الدولة المعنية".

من جهة أخرى، يرى قباري، أن "هذا التوجه يعكس خطورة بدأت ملامحها تتكشف بعد حدوث جرائم كبيرة مثل قضية (ساحل سليم بأسيوط) ومقتل (محمد محسوب) الذي أسمته السلطة بـ(خط أسيوط)، بعد أيام من الاقتتال العنيف".

ومضى يوضح أن "الخطورة تكمن في اهتمام السلطة بالأمن السياسي على حساب الأمن الجنائي (الفني) الذي يعتمد إجراءات رسمية تقيد حركته بقيود الحريات وحقوق المواطن".

وخلص للقول: "كما أنها تصنع مجال تنافس وصراع نفوذ بين العصابات التي تنعم بالقرب من السلطة على حساب نفوذ تلك التي لم تنل هذه المنزلة".

"يحكم أمننا لصوص"
وفي تقديره، قال السياسي المصري والبرلماني الأسبق الدكتور أشرف عبد الغفار، إن "كلمة الأمن تعني الأمان والإحساس بالاطمئنان والاستقرار وعدم الخوف والراحة النفسية، والتي قطعا تؤدي إلى نفس سوية وأشخاص منتجين وبارعين في أعمالهم".

وأضاف لـ"عربي21": "أما أن تعيش مهددا مع نظام لا يضبط سلوك المجتمع ولا يمنع البعض من التغول على البعض، ولا يردع الظالم؛ فهذا يجعلك لا تعرف إلى أين تؤدي بك رغبتك في استرجاع حقك، وهل تنجح أم لا؟، وكذلك الظالم أو البلطجي، هل سيخاف من شيء أم يشعر أنه فوق الجميع والقانون؟".

ويرى أن "هذه ليست حياة، بل إنها الحياة التي اختارها السيسي لنفسه وليذهب المصريون جميعا للجحيم"، مبينا أنه "لتجهيز الأمن بميزانيته وكفاءة أفراده أمامه مسارات يجب أن يعمل فيها حسب طاقته وقدرته".

وأشار إلى أنه "إما أن يجعل أمن المواطن والوطن الهدف الأول بل والوحيد، وعندها يتم حماية المواطن والحاكم والنظام جميعهم طالما أنه يسعى لحماية الوطن؛ وإما أن يجعل الوطن مستباحا بتخلي الأمن عن مهمته الأساسية والانشغال فقط بأمنه وأمن مجموعته".

ويعتقد أنه "هنا ستجد النفوس الخربة المجال مفتوحا للسرقة والقتل والاغتصاب والاحتيال والبلطجة وفرض الإتاوات؛ بل يزيد الطين بلة حينما يجعل المجرم مسؤولا عن الأمن، فنخنوخ مجرم وعليه أحكام، والعرجاني مجرم وعليه أحكام، فكيف يكلفهم بالعمل الأمني عبر شركات أمن خاصة أو من خلال الدولة في سيناء".

وأشار لخطورة الأمر، مبينا أن "نخنوخ لديه مليشيات مسلحة، والعرجاني عنده جيش خاص؛ وكلاهما تحت رعاية النظام"، متسائلا: "فكيف يتحقق الأمن؟"، ملمحا إلى أن "هؤلاء فقط أمثلة فجة خلفهم نظام حكم يعطي الفرصة للمجرمين على حساب حياة المواطن وأمنه، والنتيجة الحتمية انفلات الأمن تماما، وانتفاء تحقق الأمن العام والشخصي وحتى الأمن السياسي".

وأنهى حديثه، مشيرا إلى "البلطجة والإتاوات المفروضة على أهل غزة والخارجين للعلاج برعاية السيسي نفسه وتنفيذ رجله العرجاني، وآخرين؛ فلا تتعجب أن تجد مجتمعا وصل به الأمر أن يحكم أمنه اللصوص، وأن تكون النتيجة مرعبة ولا يُحمد عقباها، مع استمرار هذا النظام الكارثي على مصر والمصريين".

"في غياب الأمن"
وتحتل مصر المرتبة الـ 65 عالميا، والـ18 أفريقيا والثالثة عربيا بمعدلات الجريمة للعام الماضي، بحسب مؤشر قياس الجريمة في قاعدة البيانات "نامبيو".

وفي عام 2017، كشفت وزارة الداخلية ارتفاع معدلات جرائم القتل 130 بالمئة، والسرقة بالإكراه 350 بالمئة، ووصول عدد البلطجية إلى 92 ألفا وزيادة المسجلين خطر 55 بالمئة.

وفي كانون الثاني/ يناير الماضي، ذبح شاب ثلاثيني جاره الخمسيني،  في وضح النهار ونهش رأسه، وتجول بها بمدينة الأقصر الأثرية بصعيد مصر.

وأيضا، في أيار/ مايو 2024، جرى توقيف "سفاح التجمع" المنطقة الراقية شرق القاهرة، بعد قتله وبطريقة درامية 3 سيدات بعدما استدرجهن لشقته.

وفي الحي الشعبي شبرا الخيمة شمال القاهرة، أقدم شابان على قتل طفل 15 عاما، بدافع سرقة أعضائه البشرية بهدف بيعها عبر الإنترنت المظلم، في نيسان/ أبريل 2024.

وخوفا من تعرضها للاغتصاب، قفزت الشابة حبيبة الشماع، المعروفة إعلاميا بـ"فتاة الشروق"، من سيارة أجرة تابعة لشركة "أوبر"، لتلقى حتفها متأثرة بإصاباتها في آذار/ مارس 2024.

وفي حزيران/ يونيو 2022، ذبح شاب طالبة أمام جامعة المنصورة نهارا، ووسط تجمع من المارة، في واقعة تلتها أخرى مشابهة في مدينة الزقازيق في آب/ أغسطس من نفس العام.

وفي تشرين الثاني/ نوفمبر 2021، ذبح شاب من الإسماعيلية آخر أمام المارة في وضح النهار وتجول برأسه حاملا السكين.

وفي المقابل وفي تموز/ يوليو 2024، اعتقلت السلطات أكثر من 100 شخص تعسفا وسط دعوات على الإنترنت إلى التظاهر ردا على ارتفاع الأسعار وانقطاع الكهرباء، ولم تحدث الاحتجاجات، وقبضت السلطات على أشخاص استباقيا بناء على منشورات على الإنترنت، بحسب تأكيد منظمة "هيومان رايتس ووتش".