بورتريه

بطل برداء أبيض.. أبو صفية يطل صامدا من محبسه (بورتريه)

أحد الشخصيات البارزة في القطاع الصحي والطبي ليس في غزة فقط وإنما في فلسطين- عربي21
مشهدان تعلقا به سيبقيان عالقين في الذاكرة لسنوات طويلة، وهو يقف بردائه الأبيض وسماعته الطبية ويداه مرفوعتان إلى الأعلى داخل المستشفى الذي يديره، على مقربة من بوابة الدخول الرئيسية أمام جنود مدججين بالسلاح، وبجواره اثنان من مساعديه بالهيئة ذاتها، وأيضا مشهده وهو يؤم صلاة الجنازة على روح ابنه الشهيد بقلب جريح ومكسور وعيون باكية بحرقة لا توصف، وبردائه الطبي أيضا وهو يؤدي صلاة الوداع الأخير على ابنه.

مشهد ثالث مثير نشره الاحتلال الأربعاء للطبيب نفسه في داخل سجنه وهو مكبل اليدين والقدمين، لكنه بدا شامخا رغم محالاوت الاحتلال للنيل من عزيمته.

حسام أبو صفية المولود في عام 1973 في مخيم جباليا بمدينة غزة لعائلة هجرت من بلدة حمامة قضاء عسقلان، إثر النكبة عام 1948، حاصل على شهادة البورد الفلسطيني في طب الأطفال وحديثي الولادة، واستشاري طب أطفال، عمل في القطاع الصحي بقطاع غزة حتى تقلد منصب مدير مستشفى الشهيد كمال عدوان في قطاع غزة، ذلك المستشفى الذي اقتحمه الاحتلال أكثر من 15 مرة، وقصفه بعدد ضخم من الصواريخ والرصاص وحاصره دون توقف بأرتال من الدبابات وعربات الجند، قبل أن يدمره بالكامل.

أحد الشخصيات البارزة في القطاع الصحي والطبي ليس في غزة فقط وإنما في فلسطين، يعمل على قيادة الفرق الطبية لتقديم الخدمات الطبية لسكان غزة رغم القصف والحصار والاعتقال واستهداف حياته وحياة أسرته شخصيا.

رفض مغادرة مكانه والتخلي عن مهمته الوطنية والإنسانية رغم تهديد سلطات الاحتلال له، وعقابا له على موقفه الصلب والمبدئي قام الاحتلال باعتقاله في أواخر تشرين الأول/ أكتوبر الماضي خلال اقتحام القوات الإسرائيلية لمستشفى كمال عدوان وإجبار الكادر الطبي على المغادرة.

ولم يلبث الاحتلال أن أطلق سراحه بعد أن قرر الانتقام من الدكتور أبو صفية بطريقة مؤلمة جدا، فما هي إلا ساعات حتى تلقى نبأ استشهاد طفله إبراهيم نتيجة قصف القوات الإسرائيلية لمكان تواجده.
كانت صدمة وجدانية لا توصف فقد ظهر بمقطع فيديو حاملا نعش ابنه الشهيد على كتفيه ودموعه تملأ وجهه.

كما أنه أطل يبحث لفلذة كبده عن قبر بين الشوارع التي غطاها الركام، ودفن ابنه بجوار جدار المستشفى، مستقبلا التعازي ممن حوله.

وقال أبو صفية إن جيش الاحتلال الإسرائيلي قتل ابنه لأنه يقدم رسالة إنسانية، وسط الأحداث المؤلمة التي يشهدها شمال قطاع غزة.

وأردف قائلا: "كل شيء فقدناه في هذا المستشفى حتى أبناءنا، حرقوا قلوبنا على المستشفى وقتلوا أطفالنا أمام أعيننا لأننا نحمل رسالة إنسانية، ونقوم بدفنهم بأيدينا".

وبعد نحو شهر، أصيب أبو صفية جراء إلقاء قنبلة عليه من طائرة كواد كبتر إسرائيلية أثناء عمله داخل المستشفى، ما أدى إلى إصابته بست شظايا اخترقت منطقة الفخذ وتسببت في تمزق الأوردة والشرايين.

هذه الإصابة اعتبرها أبو صفية "شرفا له"، مشيرا إلى أن إصابته لن تثنيه عن تقديم الخدمات، قائلا: "سنظل نقدم ما في وسعنا للفلسطينيين المتضررين من قصف الاحتلال". 

اعتقل الاحتلال أبو صفية مع عدد كبير من الأطباء والمرضى والجرحى، في 28 كانون الأول/ ديسمبر الماضي، ليتنقل بعدها في عدد من السجون وسط ظروف قاسية وغير إنسانية يعانيها الأسرى لدى الاحتلال.

مارس الاحتلال الإسرائيلي حرب إبادة وتطهيرا عرقيا ضمن خطة الجنرالات التي صادق عليها المستوى السياسي في شمال قطاع غزة وبالتحديد في مخيم جباليا، حيث قضت الخطة بحصار المخيم وتجويع السكان ودفعهم للنزوح إلى جنوب القطاع، لكن إصرار السكان على الثبات وعدم الرضوخ لمحاولات التهجير، دفع بالجيش إلى ارتكاب مجازر دامية بحق النازحين داخل مراكز الإيواء والسكان المتواجدين في منازلهم، حيث إنه عمل على تدمير المنازل فوق رؤوس ساكنيها، إلى جانب قصف مراكز الإيواء بالقذائف المدفعية، ونفّذ عمليات إعدام بحق عدد من الشباب الذين تم اعتقالهم من داخل مراكز الإيواء، إلى جانب انتشار جثث الشهداء في شوارع مخيم جباليا والمناطق المحيطة.

يمضي حسام أبو صفية، مع رفاقه، بثبات وبقناعة لا تتزحزح على درب من سبقوه من الأطباء الشهداء إياد الرنتيسي، وعدنان البرش، وآلاف من موظفي الصحة في قطاع غزة، ورغم اعتقاله وهو على رأس عمله، إلا أن يوم حريته قادم لا محالة.