تقارير

بلا عقاب.. كيف استولى المتطرفون على "إسرائيل"؟ تقرير أمريكي

نشرت "نيويورك تايمز مغازين" في 16/5/2024 تقريرا مفصلا من ثلاثة أجزاء عن حركة الاستيطان في الضفة الغربية، يروي قصة انتقال أيديولوجية راديكالية من الأطراف إلى قلب السلطة السياسية الإسرائيلية..
تحت هذا العنوان، نشرت "نيويورك تايمز مغازين" في 16/5/2024 تقريرا مفصلا من ثلاثة أجزاء عن حركة الاستيطان في الضفة الغربية، يروي قصة انتقال أيديولوجية راديكالية من الأطراف إلى قلب السلطة السياسية الإسرائيلية، ويوثق نظام العدالة غير المتكافئ الذي نما حول المستوطنات في الضفة الغربية، ويوضح كيف تم استهداف الفلسطينيين على يد هؤلاء المتطرفين، ويبين كيف سيطروا على إسرائيل نفسها. نعم، قامت إسرائيل على التطرف في كل شيء؛ لكن التطرف الذي يتناوله التقرير هو أخطر أنواع التطرف، وأشدها إجراما.

وقد أعد التقرير اثنان من أبرز المراسلين المتخصصين في الشأن الإسرائيلي، هما:

ـ رونين بيرغمان: يتخذ من تل أبيب مقرًا له، ومن أحدث إصداراته كتاب "انهض واقتل أولا: التاريخ السري للاغتيالات الإسرائيلية".

ـ مارك مازيتي: مراسل استقصائي يقيم في واشنطن العاصمة، ومتخصص في الأمن القومي والاستخبارات والشؤون الخارجية.

تطلب إعداد التقرير إجراء مقابلات على مدى سنوات مع أكثر من مائة مسؤول إسرائيلي، من السابقين أو الحاليين، وأربعة رؤساء وزراء سابقين. وتطلب أيضا استعراض وثائق حكومية سرية، وتقارير تكشف كيفية إفلات حركات الاستيطان المتطرفة من العقاب. ونقدم في هذا المقال عرضا موجزا لهذا التقرير المهم، خصوصا وأن الأوضاع في الضفة والقطاع معرضة للاشتعال بعد وعد ترامب البلفوري الجديد:

التمرد على القانون هو القانون       

خمسون عاما من الفشل في وقف عنف وإرهاب متطرفي المستوطنين ضد الفلسطينيين، والسبب أن تمردهم على القانون أصبح هو القانون نفسه. هذا العنف موثق جيدا؛ لكن حماية الأشخاص الذين يمارسونه هو السر المظلم للعدالة الإسرائيلية، ويمثل تاريخا من الصمت أو التحريض من المسؤولين الإسرائيليين، الذين يرون أن المقاومة الفلسطينية هي الأكثر تهديدا لإسرائيل.

من حركة قومية إجرامية إلى تيار رئيسي

كشفت المقابلات التي أجراها الكاتبان وتقارير لجان التحقيق التي حصلا عليها عن تاريخ طويل من الجريمة، قال عنه العديد من المسؤولين؛ "إنه لا يهدد الفلسطينيين وحدهم، بل يهدد إسرائيل نفسها". وقدم العديد منهم سردا تاريخيا لحركة قومية إجرامية، سُمح لها بالعمل مع الإفلات من العقاب، لتصبح تدريجيا التيار الرئيسي للمجتمع الإسرائيلي.

المتطرفون والدولة كيان واحد

تكشف هذه المقابلات والوثائق السرية عن وجود حكومة في حالة حرب مع نفسها. تصف إحدى الوثائق اجتماعا في آذار/ مارس 2024، قدم فيه رئيس القيادة المركزية الإسرائيلية المسؤولة عن الضفة الغربية، سردا باهتا للجهود التي بذلها سموتريش لتقويض إنفاذ القانون في الأراضي المحتلة، وكيف تضاءلت بسببه جهود تضييق الخناق على بناء المستوطنات غير القانونية. وقد استغل المستوطنون حرب غزة لتطهير أجزاء من الضفة الغربية من الفلسطينيين، مدعومين بالتجاهل الكاسح وغير المسبوق للدولة، وموافقتها الضمنية على عمليات النقل الجماعي. وبعد خمسين عاما من الإفلات من العقاب، أصبح المستوطنون العنيفون والدولة في كثير من الأحيان كيانا واحدا. يقول عامي أيالون، الرئيس الأسبق للشين بيت؛ "إن الحكومة ورئيس الوزراء يعطون الانطباع للشاباك بأن مقتل يهودي أمر مروع؛ أما قتل عربي ليس جيدا، إلا أنه ليس نهاية العالم".

خمسون عاما من الفشل في وقف عنف وإرهاب متطرفي المستوطنين ضد الفلسطينيين، والسبب أن تمردهم على القانون أصبح هو القانون نفسه. هذا العنف موثق جيدا؛ لكن حماية الأشخاص الذين يمارسونه هو السر المظلم للعدالة الإسرائيلية، ويمثل تاريخا من الصمت أو التحريض من المسؤولين الإسرائيليين، الذين يرون أن المقاومة الفلسطينية هي الأكثر تهديدا لإسرائيل.
وقال الجنرال الأمريكي مارك شوارتز، الذي أشرف على دعم التعاون بين إسرائيل والسلطة الفلسطينية؛ "إن التاريخ الطويل لجرائم المستوطنين والعمليات الإسرائيلية القاسية في الضفة الغربية يعكس غياب المساءلة، ويؤدي إلى تآكل الثقة، ويهدد استقرار وأمن إسرائيل والأراضي الفلسطينية".

أوسلو وإرهاب الدولة والمستوطنين

أدت أوسلو إلى نشوء نظام قانوني معقد وغامض في الأراضي المحتلة، وهو في صميمه نظامان منفصلان وغير متساويين للعدالة: واحد لليهود، وآخر للفلسطينيين. وبمقتضى هذا النظام، خضع الفلسطينيون لقانون عسكري يمنح الجيش والشاباك سلطات واسعة، ويُحاكمون أمام محاكم عسكرية لا مدنية. ويُصنف معظم العنف ضد اليهود كهجوم إرهابي، مما سمح للجماعات المتطرفة بالعمل دون عواقب، وأوجد حماية لهم. والآن، يقود بعض هؤلاء الأشخاص إسرائيل، فقد استعاد بنيامين نتنياهو السلطة بتشكيل تحالف مع قادة متطرفين من حزب الصهيونية الدينية وحزب القوة اليهودية، مما أدى إلى تمكين شخصيات متطرفة جدّا من الوصول إلى السلطة مثل سموتريش وبن غفير، الذين قضوا عقودا يتعهدون بالاستيلاء على الضفة الغربية وغزة. وقبل يوم من أداء اليمين الدستورية للحكومة الجديدة، أكد نتنياهو الأيديولوجية القومية لحلفائه، معلنا أن "لليهود حقّا حصريّا وغير قابل للتصرف في كل أرض إسرائيل".

ميلاد حركة غوش إيمونيم

نتيجة انتصارها في حرب 1967، احتلت إسرائيل الضفة الغربية، وقطاع غزة، وسيناء، والجولان، والقدس الشرقية. وواجهت حينها خيارا صعبا: هل تضم الأراضي الجديدة؟ أم تتفاوض عليها كجزء من دولة فلسطينية مستقبلية؟ لكن الإجابة كانت واضحة لدى مجموعة من الشباب الإسرائيلي الذين أسسوا حركة دينية سياسية "غوش إيمونيم" أو "كتلة المؤمنين" لاستيطان الأراضي المحتلة، التي يعتقد أعضاؤها أنهم يمكن أن يُسرّعوا من مجيء المسيح إذا استوطنوا الأراضي المحتلة. ويرون أن هذه الأراضي جزء من "إسرائيل الكبرى"، وأنهم ينفذون مشيئة الله لخلق ما أسماه بعضهم "حقائق على الأرض". وهذا يضعهم في صراع مع الفلسطينيين، وعلى الأقل مع السلطات الإسرائيلية المسؤولة عن منع انتشار المستوطنات غير القانونية. يقول كارمي جيلون، مدير الشاباك في منتصف التسعينيات: "عندما أدركنا أن غوش إيمونيم تتمتع بدعم العديد من السياسيين، علمنا أنه لا يجب أن نتدخل".

مترو الأنفاق اليهودي

في عام 1977، وصل حزب الليكود برئاسة مناحيم بيغين إلى الحكم، الذي سعى إلى تقنين الاستيلاء على الأراضي الفلسطينيية، بما يسمح للمستوطنات بالتوسع بدعم كامل من الدولة. وهو ما فعلته وزارة العدل الإسرائيلية، التي قدمت له تفسيرا أدى إلى إنشاء أكثر من 100 مستوطنة يهودية جديدة، سمتها كاتبة التفسير "أطفالي".

وفي الوقت نفسه، عقد بيغين مع السادات اتفاقية كامب ديفيد التي انسحب بموجبها من سيناء، ووعد بحكم ذاتي أكبر للفلسطينيين في الأراضي المحتلة مقابل علاقات طبيعية مع إسرائيل. لكن غوش إيمونيم وجماعات يمينية أخرى رفضوا كامب ديفيد. ومن هذا البئر من الغضب نشأت حملة جديدة من الترهيب. وأنشأت الحركة فرعا عسكريا يسمى "مترو الأنفاق اليهودي"، الذي قام في 1980 بعدة عمليات بسيارات مفخخة ضد قيادات فلسطينية، نتج عنها بتر ساقي بسام الشكعة رئيس بلدية نابلس، وبتر قدم كريم خلف رئيس بلدية رام الله. وأشاد الحاخام المتطرف كاهانا بهذه العمليات، وكان قد قال قبلها في مؤتمر صحفي: "يجب على الحكومة الإسرائيلية تشكيل جماعة إرهابية يهودية لإلقاء القنابل على العرب لقتلهم". وأيد هذه العمليات أيضا الحاخام حاييم دوركان زعيم الحركة وعضو الكنيست. وعلق عليها الجنرال بنيامين بن إليعازر، القائد العسكري للضفة الغربية، فقال؛ "إنه لأمر مخز أنهم لم يضربوهم أعلى قليلا".

التقرير المدفون

مع انتشار العنف، أرسلت مجموعة من الأساتذة في جامعة تل أبيب والجامعة العبرية في القدس رسالة إلى المدعي العام الإسرائيلي، عبروا فيها عن قلقهم من النشاط غير القانوني ضد الفلسطينيين، والتواطؤ المحتمل بين المستوطنين والسلطات.

رأى المدعى العام في الرسالة أن من شأنها أن تدحض ادعاء الحكومة الإسرائيلية بأن القانون يتم تطبيقه على قدم المساواة، ويمكن أن تصبح فضيحة محلية وفضيحة دولية، فكلف نائبته "جوديث كارب" بقيادة لجنة تحقيق. تقول كارب: "سرعان ما أصبح واضحا لي أن ما تم وصفه في الرسالة لم يكن شيئا مقارنة بالواقع الفعلي على الأرض. وكانت الشرطة تتعاون مع المخربين المستوطنين في كل أعمالهم، وفعلوا كل ما في وسعهم لردع الفلسطينيين حتى عن تقديم الشكاوى".

وفي أيار/ مايو 1982، قدمت كارب ولجنتها تقريرا حددت فيه أن عشرات الجرائم لم يتم التحقيق فيها بشكل كاف. ولاحظت اللجنة أيضا أن الشرطة زودتهم بمعلومات غير كاملة ومتناقضة وزائفة جزئيا. وخلُصت إلى أن ما يقرب من نصف التحقيقات التي فُتحت ضد المستوطنين، أُغلقت دون أن تُجري الشرطة حتى تحقيقا مبدئيا. وفي الحالات القليلة التي تم التحقيق فيها، وجدت اللجنة عيوبا عميقة. وبدلا من أن يتم التحقيق في وقائع التقرير، دعا وزير الداخلية يوسف بورج كاتبة التقرير إلى منزله، ووبخها بلغة قاسية.

خطة لتفجير مسجد قبة الصخرة

في نيسان/ أبريل 1984، أحبط الشين بيت خطة يهودية لتفجير خمس حافلات مليئة بالفلسطينيين، واعتقل حوالي عشرين من أعضاء "مترو الأنفاق اليهودي"، الذين ارتكبوا أيضا عمليات الهجوم على الكلية الإسلامية وتفجيرات رؤساء البلديات الفلسطينية عام 1980. وبعد أسابيع من استجواب المشتبه بهم، علم "شين بيت" أن مترو الأنفاق اليهودي كان يطور مخططا لتفجير مسجد قبة الصخرة. وقد تضمن التخطيط عشرات الرحلات إلى المسجد الأقصى لجمع المعلومات الاستخباراتية، وتقدير كمية المتفجرات، ومكان وضعها. لم يكن الهدف أقل من جر الشرق الأوسط بأكمله إلى حرب، التي اعتبرها مترو الأنفاق اليهودي شرطا مسبقا لمجيء المسيح؛ لكنه تخلى عن تنفيذها "لأن الشعب اليهودي لم يكن مستعدا بعد".

أناس طيبون يستحقون العفو!!

عندما تم تقديم أعضاء المترو اليهودي للمحاكمة عام 1984، أُدينوا، وصدرت ضدهم أحكام تتراوح من الحبس بضعة أشهر إلى السجن مدى الحياة. ومع ذلك، أبدوا قليلا من الندم، وجرت حملة عامة للعفو عنهم، ووصفهم وزير الخارجية إسحاق شامير بأنهم أناس ممتازون وطيبون، أخطؤوا في طريقهم وأفعالهم، واقترح أن الرأفة قد تمنع تكرار الإرهاب اليهودي. وفي نهاية المطاف، وقع رئيس إسرائيل حاييم هرتسوغ قرارات العفو والتخفيف للمتآمرين، وتم إطلاق سراحهم، واستقبلهم مجتمع المستوطنين كأبطال، وتقلد بعضهم مناصب بارزة في الحكومة ووسائل الإعلام الإسرائيلية. وفعليا، حصل معظم اليهود المتورطين في الهجمات الإرهابية ضد العرب على مدى العقود الماضية، على تخفيضات كبيرة في مدة السجن.

كل شيء يبدأ من الشارع

قال عامي أيالون رئيس الشاباك: "يجب أن تفهم سبب أهمية كل هذا. نحن لا نتحدث عن الإرهاب اليهودي؛ لكننا نتحدث عن فشل إسرائيل. فالشاباك رغم امتلاكه للمعلومات الاستخباراتية لا يتخذ أي إجراء!!"؛ لأنه كما قال إيالون: "يجد المجتمع القانوني صعوبة بالغة في مواجهة المجتمع السياسي الذي يحظى بدعم الشارع. وهكذا، يبدأ كل شيء مع الشارع".

غالبية المتطرفين مجانين

في عام 1987، اندلعت الانتفاضة الأولى. وانتشرت حركة غوش إيمونيم، وتم استجواب زعيمها عدة مرات للاشتباه في دوره في عدة هجمات عنيفة، وأخبر أحد العملاء الشاباك أنهم لم يروا سوى جزء بسيط من الصورة بأكملها. وقال: "غالبية النشطاء كانوا مجانين، ومن الصعب للغاية التأكد من أنهم لن يستهدفوا الفلسطينيين، وأنهم لن يؤذوا سوى الممتلكات". وفي أيلول/ سبتمبر 1988، قتل زعيم الحركة، صاحب متجر عربي، وأصاب آخر بحجة الدفاع عن النفس، وقال في المحاكمة: "لم يكن لي شرف قتل العرب". وقد أُدين بارتكاب جريمة قتل، وحُكم عليه بالسجن خمسة أشهر، وأُفرج عنه بعد ثلاثة أشهر فقط.

مذبحة باروخ جولدشتاين

باروخ جولدشتاين طبيب يهودي أمريكي من أتباع مئير كاهانا رئيس رابطة الدفاع اليهودية. في عام 1983 هاجر إلى إسرائيل، حيث عمل في الجيش، ثم كطبيب طوارئ في مستوطنة كريات أربع بالقرب من الخليل. وفي 25 شباط/ فبراير 1994، في فجر أحد أيام شهر رمضان، حمل جولدشتاين بندقيته، وتوجه إلى المسجد الإبراهيمي في الخليل، وأطلق 108 طلقات قبل أن يتم جره إلى أسفل وضربه حتى الموت. أسفرت المجزرة عن مقتل 29 من المصلين المسلمين وإصابة أكثر من 100. وأصبح قبر جولدشتاين مكانا دائما لحج اليهود، الذين أرادوا الاحتفال بـ "القديس الذي مات من أجل إسرائيل بأيد نظيفة وقلب نقي"!!.

بن غفير ولعنة الموت

كان أحد المستوطنين المتطرفين الذي يذهب بانتظام إلى قبر جولدشتاين، مراهق متطرف يُدعى إيتمار بن غفير، الذي كان يجمع أحيانا أتباعا آخرين للاحتفال بالقاتل المقتول. وفي إحدى المناسبات التي تم التقاطها بالفيديو، ارتدى بن غفير زي جولدشتاين. ولأفعاله هذه، استجوبه المحققون عدة مرات، ورفض الجيش تجنيده.

الكاهانيون وقتل رابين

بعد مذبحة جولدشتاين، وجه الكاهانيون غضبهم مباشرة إلى رابين لتوقيعه على اتفاقية أوسلو، وبدأ الشاباك في إصدار نوع جديد من التحذير: "لم يعد الإرهابيون اليهود يهددون العرب فقط؛ لقد هددوا اليهود". وأشارت التحذيرات إلى أن الحاخامات في مستوطنات الضفة الغربية، إلى جانب بعض السياسيين من اليمين، يدعون الآن علانية إلى العنف ضد المسؤولين الحكوميين الإسرائيليين، وخاصة رابين. وفرض الحاخامات المتطرفون لعنة الموت على رابين، وقدموا تبريرا لقتله. وكان كارمي جيلون رئيس الشاباك قلقا بشكل خاص من نتنياهو وشارون، اللذين كانا يؤججان غضب الحاخامات اليمينيين وزعماء المستوطنين في معاركهم مع رابين. وقد أراد الشاباك محاكمة الحاخامات الذين وافقوا على أحكام الإعدام ذات الدوافع الدينية ضد رابين؛ لكن مكتب المدعي العام رفض محاكمتهم.

وفي تشرين الأول/ أكتوبر 1995، تحدث بن غفير إلى كاميرات التلفزيون الإسرائيلية، وتفاخر بتحطيم السيارة الرسمية لرئيس الوزراء خلال مظاهرات فوضوية مناهضة لأوسلو أمام الكنيست، وقال: "وصلنا إلى سيارته، وسنصل إليه أيضا". وهذا ما تحقق، ففي الشهر التالي، قُتل رابين.

تقرير تاليا ساسون

في أثناء الانتفاضة الثانية، في 2001، تولى شارون رئاسة الوزراء، وبدا أن صعوده يمثل انتصارا للمستوطنين. لكنه في 2003، في واحدة من أكثر الانعكاسات إثارة للدهشة في التاريخ السياسي الإسرائيلي، أعلن فك ارتباط إسرائيل عن غزة، مع إبعاد المستوطنين - بالقوة إذا لزم الأمر - على مدى العامين التاليين.

وفي تموز/ يوليو 2004، بعد ضغط من جورج بوش الابن، طلب شارون من تاليا ساسون، رئيسة شعبة المهام الخاصة في مكتب المدعي العام، صياغة رأي قانوني حول موضوع البؤر الاستيطانية غير المصرح بها في الضفة الغربية. وقالت ساسون في مقابلة بعد عقدين من الزمن: كان شارون يعرف ما هو الوضع على الأرض، وكان يتوقع استنتاجات خطيرة. لكن جهودها للعثور على إجابات على أسئلتها لصياغة هذا الرأي القانوني، قوبلت بالتأخير والتجنب والأكاذيب الصريحة. واكتشفت ساسون أن الضفة تدار بقوانين خاصة، بدت لها مجنونة تماما. ولاحظ تقريرها أن من يدير وزارة البناء والإسكان ناشط سياسي، تحدث في بداية حياته المهنية بصراحة عن طرد جميع العرب من الضفة الغربية، وبدأ في بناء تحالف مهني مع بنيامين نتنياهو، وكان له دور فعال في ضمان بقائه السياسي.

شارون وحلم الاستيطان

قالت ساسون في تقريرها؛ "إن الشبكة السرية لبناء المستوطنات غير المأذون بها تعمل بتمويل ضخم من دولة إسرائيل، دون شفافية أو معايير إلزامية". ولكن، لم يكن لتقريرها أي تأثير تقريبا. حتى شارون، وجد نفسه عاجزا عن مواجهة الآلة الموجودة لبناء وحماية وتوسيع المستوطنات في الضفة الغربية. وأصبح شارون بقراره إزالة المستوطنات من غزة في آب/ أغسطس 2005، هو ثالث رئيس وزراء إسرائيلي يهدد حلم المستوطنين بإسرائيل الكبرى. وقد أثار ذلك معارضة قوية من المستوطنين ومن جزء متزايد من المؤسسة السياسية. أما نتنياهو، الذي صوت سابقا لصالح الانسحاب، فقد استقال من منصبه كوزير للمالية في حكومة شارون؛ احتجاجا على القرار، وطمعا في الوصول إلى منصب رئيس الوزراء.

سموتريش ومحاولة تعطيل انسحاب شارون من غزة

في 2005، تلقى الشاباك معلومات استخبارية حول مؤامرة لإبطاء الانسحاب الإسرائيلي عبر تفجير المركبات على طريق سريع رئيسي، فتم اعتقال ستة مستوطنين، كان أحدهم سموتريتش. وتم استجوابه لأسابيع؛ لكنه طبقا لوصف أحد ضباط الشاباك، ظل "صامتا طول الوقت مثل مجرم متمرس"، فأُطلق سراحه دون توجيه تهم إليه. ولم يؤحذ بتقرير تاليا ساسون، ودُفن كغيره من التقارير.

الكاهانيون الجدد

أدى صعود نتنياهو كرئيس وزراء يميني متطرف منذ 1996 إلى ظهور جيل جديد من الكاهانيين، يتخذ موقفا أكثر تطرفا ضد السياسيين الإسرائيليين المعارضين أو غير الداعمين لهم، وضد فكرة الدولة الإسرائيلية الديمقراطية نفسها. وقد دافعت مجموعة تُعرف باسم "شباب التلال" عن فكرة تدمير الدولة الصهيونية بالكامل، وأحد قادتها مئير إيتينجر، حفيد  مئير كاهانا، الذي تبدو آراء جده معتدلة بالمقارنة معه. ويهدف هؤلاء المتطرفون إلى إقامة "حكم يهودي" يتضمن تعيين ملك، وبناء هيكل بدل المسجد الأقصى، وفرض نظام ديني على جميع اليهود. ويعتقد "شباب التلال"، أن هذا هو الخلاص والضمان لمستقبل إسرائيل. وفي 2013، شكل إيتينجر وأعضاء من شباب التلال خلية سرية للتحريض على التمرد ضد حكومة تمنعهم من بناء الهيكل وطرد العرب، وإلا سيتم قتلهم دون تمييز بين الرجال والنساء والأطفال. وقد وثّق مكتب الأمم المتحدة لتنسيق الشؤون الإنسانية 323 حادثة عنف قام بها مستوطنون ضد الفلسطينيين في 2014. وفي 31 تموز/ يوليو 2015، ألقى أحدهم زجاجة حارقة، أدت إلى مقتل ريهام وسعد دوابشة وطفلهما الرضيع. وبحلول العام التالي، صعد المستوطنون دعوتهم العلنية لقتل العرب.

الولايات المتحدة والاستيطان

كان توسيع المستوطنات نقطة خلاف في العلاقات بين إسرائيل والولايات المتحدة، وخلال رحلة قام بها بيغين إلى واشنطن عام 1982، جرى بين السناتور جوزيف بايدن وبيغين حديث غاضب عن الضفة الغربية، وأخبره أن إسرائيل تفقد الدعم في هذا البلد بسبب سياسة المستوطنات؛ لكن ذلك لم يكن إلا مجرد تنفيس شكلي عن غضبهم بشأن هذه القضية، دون اتخاذ إجراءات أكثر قوة مثل تقييد المساعدات العسكرية لإسرائيل. وعلى شاكلة ما فعله بايدن مع بيغين، فقد حذر المسؤولون الأمريكيون نتنياهو مرارا وتكرارا في جلسات عامة وخاصة من دعمه للمستوطنات.

إن الأمر يستوجب تحركات عربية ودولية لمقاومة الاستيطان، وإنشاء حركة عالمية لمحاكمة هؤلاء المجرمين وحُماتهم من المسؤولين الإسرائيليين في المحاكم الدولية، وتنشيط حركة مقاطعة منتجات المستوطنات وتوسيع دائرتها، والسعي إلى إدراج حركات الاستيطان والشخصيات المؤثرة فيها على قائمة الإرهاب الدولي.
ومع ذلك، جاء انتخاب دونالد ترامب في 2016 ليغير المعادلة؛ إذ قاد صهره جاريد كوشنير سياسة إدارته تجاه إسرائيل، التي تتماشى مع أجندة نتنياهو الإقليمية فيما يتعلق بإيران، وتسهيل التطبيع مع الدول العربية، وترك القضية الفلسطينية دون حل. واختار ترامب ديفيد فريدمان سفيرا له في إسرائيل، وهو من أدى دورا في إدارة منظمة أمريكية غير ربحية دعمت مستوطنة بيت إيل، واحدة من مستوطنات غوش إيمونيم في الضفة الغربية، التي تلقت دعما أيضا من عائلة ترامب لتمويل المدارس والمؤسسات داخل هذه المستوطنة. وأعلن فريدمان بعد توليه منصبه، أن "المستوطنات جزء من إسرائيل".

من الهامش إلى صناعة الملوك

بحلول أوائل الثمانينيات، بدأت حركة المستوطنين تكتسب بعض الزخم داخل الكنيست؛ لكنها ظلت على هامش الحياة السياسية وبعيدة عن التيار السائد، وعندما انتخب كاهانا لعضوية الكنيست في 1984، كان أعضاء الأحزاب الأخرى، بمن فيهم الليكود، يعطونه ظهورهم ويغادرون القاعة عندما يقف لإلقاء الخطب. أما في تشرين الثاني/ نوفمبر 2022، فإن نتنياهو لكي يصبح رئيسا للوزراء لولاية سادسة، فقد دفع ثمنا غير مسبوق، بتحالفه مع حزب القوة اليهودية بزعامة بن غفير وحزب الصهيونية الدينية بزعامة سموتريش، مما يجعلهما صانعي ملوك لأي شخص يحاول تشكيل حكومة ائتلافية. وقد أتى الرهان ثماره، وعاد نتنياهو إلى منصبه بدعم حاسم من اليمين المتطرف. ومن خلال هذا الترتيب، عيّن نتنياهو رجلين من أشد الشخصيات تطرفا في مناصب عليا في الحكومة الإسرائيلية: بن غفير وزيرا للأمن القومي مع سلطة على الشرطة، وسموتريتش وزيرا للمالية ووزيرا في وزارة الدفاع، ومكلفا بالإشراف على الشؤون المدنية في الضفة الغربية، مما جعل له سلطة الاستيلاء على الأراضي الفلسطينية وتعيين أحد كبار الشخصيات الإدارية للإشراف على بناء الطرق وإنفاذ قوانين البناء في الضفة الغربية.

الحرب هي الهدف

في نهاية تشرين الأول/ أكتوبر 2023، بعث قائد المنطقة المركزية برسالة إلى رئيس الأركان الإسرائيلية، قال فيها؛ "إن تزايد الإرهاب اليهودي، الذي جاء ردّا على هجمات السابع من أكتوبر (تشرين الأول)، قد يؤدي إلى اشتعال الأوضاع في الضفة الغربية"، مما يعني أن الحرب قد تكون الهدف الذي يسعى إليه المتطرفون اليهود، وهذا ما أكده إيهود أولمرت، رئيس الوزراء الأسبق عندما قال: "اعتقد العديد من أعضاء الحكومة أن الانتفاضة هي الدليل الحاسم على أنه لا يوجد طريقة لصنع السلام مع الفلسطينيين؛ وإنما يوجد طريق واحدة فقط، وهي المضي قدما لتدميرهم".

في ضوء هذا التقرير الخطير، وما يقوم به بن غفير من تسليح للمستوطنين، وما يجري من أحداث في الضفة من أعمال قتل وهدم وتدمير للبنية التحتية في جنين وبعض أجزاء الضفة، وما صرح به سموتريش وبن غفير وغيرهما من ضرورة تهجير الفلسطينيين؛ فإن الأمر يستوجب تحركات عربية ودولية لمقاومة الاستيطان، وإنشاء حركة عالمية لمحاكمة هؤلاء المجرمين وحُماتهم من المسؤولين الإسرائيليين في المحاكم الدولية، وتنشيط حركة مقاطعة منتجات المستوطنات وتوسيع دائرتها، والسعي إلى إدراج حركات الاستيطان والشخصيات المؤثرة فيها على قائمة الإرهاب الدولي.