"على السوريين أن يفعلوا كذا وكذا".. هذه جملة تفيض على التحليلات
وتزعم معرفة ما يجب أن يكون، خاصة أنها تصدر في الغالب عن قوم فشلوا وأفشلوا
ثوراتهم. لذلك؛ نقف أمام
الثورة السورية ولا نجرؤ على أن نحدث رجالها حديثا تعليميا؛ فالقوم حملوا السلاح وانتصروا، ومن الأدب ألا نطلب من الثورة السورية أن تحرر
البلدان/ الشعوب التي فشلت.
إن الوضع السوري في ظل نظام البعث، أسوأ بكثير من وضع
تونس في ظل نظام بن علي ومصر تحت حكم مبارك؛ لذلك فمن سيحكم
سوريا الآن ومستقبلا، سيواجه من المشاكل أكثر مما واجهت تونس ومصر أيضا، وهذه معطيات مكشوفة لم تحتج
ذكاء لتكتب. أسمح لنفسي بقول نصوح: ستحتاج سوريا من السوريين -حكاما ومحكومين-، إلى
جهد أكبر للخروج من تركة نظام البعث، ويا لها من تركة تنوء بها الجبال!!
البناء من الصفر
يكفي أن نرى الخرائب التي دمرتها البراميل لتحترق عقولنا بتخيل إعادة
البناء المادي، فالقوم يسكنون في العراء والأساسيات من ماء وكهرباء وطرقات شبه
معدومة. أما البناء المعنوي للإنسان السوري المحطم، فمعركة أكبر. معركة الترميم
المادي تشمل كل شيء، المدرسة والبنية الصناعية والطرقات، شبكة الخدمات والزراعة
الفاشلة، كلها معارك تسير بالتوازي ولا يعرف المرء أيها أكثر أولوية ليضخ لها
المقدرات المتاحة، وهي محدودة حتى الآن. إنها معركة تبدأ من الصفر، لتصعد جبالا من
الهموم.
إذا أمكن البدء في هذه المسارات، فإن ترميم الإنسان سيظل أم المعارك. إننا نتابع المطالبة المكلومة بالمحاسبة، ونلتقط مؤشرات حرب أهلية، وكل الذين أجرموا نراهم يدفعون البلد إلى حافة الاحتراب الأهلي، وهو الوضع الوحيد الذي ينجيهم من المحاسبة، وهو الوضع نفسه الذي عاشته الثورة التونسية، مما أفشل مشروع العدالة الانتقالية وحوّل الضحايا من جديد إلى متهمين، حتى سكتوا حفاظا على سلامة البلد. حفاظا على سلامة البلد
فإذا أمكن البدء في هذه المسارات، فإن ترميم الإنسان سيظل أم المعارك. إننا
نتابع المطالبة المكلومة بالمحاسبة، ونلتقط مؤشرات حرب أهلية، وكل الذين أجرموا
نراهم يدفعون البلد إلى حافة الاحتراب الأهلي، وهو الوضع الوحيد الذي ينجيهم من
المحاسبة، وهو الوضع نفسه الذي عاشته الثورة التونسية، مما أفشل مشروع العدالة
الانتقالية وحوّل الضحايا من جديد إلى متهمين، حتى سكتوا حفاظا على سلامة البلد.
سلامة البلد الظاهرية أم المحاسبة والتنظيف؟
هذه معركة كبرى. درس الفشل
التونسي والمصري والليبي، تعني أن كل تردد أمام فلول البعث المسلحة، سيفتت مجهود
الثورة، وسيكون وضع سوريا كوضع من يعالج سرطان الدم بمرهم جلدي. إن جملة "اذهبوا
فأنتم الطلقاء" التي منحت الحياة لفلول نظام بن علي (ومبارك طبعا)، تهدد
مستقبل سوريا، لو أعيد رميها في شارع فقد أكثر من مليون شهيد. ننصح الثوار ولا
نعلّمهم؛ كل تسامح مع القتلة يقتل الثورة؛ فبناء الإنسان السوري الجديد يبدأ من
إشعاره بأنه يملك حقوقه، وأولها محاسبة قتلته.
المتربصون والأصدقاء المزيفون
مؤتمر العقبة كان حركة عدائية تجاه الثورة السورية، فقد أطلق قائمة
الاشتراطات دون حياء. المؤتمرون/ المتآمرون في العقبة (باستثناء دولة قطر)، يتقاطرون الآن على دمشق، لكنهم فعلوا ذلك بعد أن أذن لهم السيد الأمريكي. هؤلاء هم
الأصدقاء المزيفون الذين سيلدغون الثورة السورية ويسممون أحلامها؛ فالحرية
والديمقراطية تخيفهم، وقد أفشلوا الثورة التونسية والمصرية متسترين بإعلانات مساندة
وتعاطف في البداية. سوريا الثورة المسلحة ترعبهم، ولذلك سيكون كيدهم لها أكبر، فهم
يظنون أنهم قد قتلوا ما سبقها واستتب لهم الأمر، وسوريا تظهر لهم كحالة منفردة أو
وصلت متأخرة أو هكذا يصرون/ يتوهمون. الحذر من الأصدقاء المزيفين يسبق في تقدير من
فشلت ثورته، الاحتياط من أعداء معروفين وفي مقدمتهم دولة الكيان.
إيران المطرودة من المنطقة عدو مكشوف، ويحتفظ بقدرة عالية على التخريب من
الداخل، وقد عاد المرشد إلى التحريض. تقييمات الشهر الأول من نجاح الثورة، أنها
الثورة التي حررت ثلاثة بلدان (سوريا ولبنان والعراق)، وهذا يضاعف الكيد الإيراني
في البلدان الثلاثة. فالتململ الذي نطالعه في دولة العراق منذر بمزيد من دحر إيران،
والأمر نفسه في لبنان؛ حيث يضيق الخناق على من تبقى حيّا من حزب الله. التقية
الإيرانية سم زعاف في كأس ماء الثورة السورية، وهذا تذكير لا درس.
ومن النصيحة أيضا، أن نقول للسوريين الثائرين؛ ألا يهتموا بأيتام بشار من
العرب، وهم يملؤون الآن السوشيال ميديا والتلفازات، فهؤلاء "فاغنر
إعلامي" يعيش بذلة مرتزقة فقد مشغّله، إنهم ينوحون على بشار، وفي الحقيقة هم
ينوحون على المصروف الذي انقطع. إن الاهتمام بهم مضيعة للوقت والجهد، ويكفي أن
تصدر قوائم بأسمائهم مشابهة لقوائم كوبونات النفط، التي كان يوزعها صدام حسين على
أبواقه العربية ليخرسوا إلى الأبد. هذا طلب إلى الثورة السورية عسى أن تجد له فجوة
من وقت.
بعد انتهاء الاحتفالات بالنصر، ستكشف الصعوبات عن وجهها. يملك السوريون قيادة ونخبا وشعبا، وورقات/ دروس مهمة، هي دروس الفشل العربي، وهذا أوان قراءتها لتجاوزها. وجب التنويه بأننا من خارج سوريا، نعيد اكتشاف التنوع السوري المخيف (والمخصب في آن واحد)، لقد كنا نسمع عن سوريا المتعددة حتى اكتشفنا التعدد الحقيقي. كيف يتحول التعدد والتنوع (الإثني والطائفي والمذهبي) إلى عنصر قوة في محيط من التجاذبات غير البريئة؟
الوعد السوري
التركة ثقيلة والمال قليل، لكن الأمل السوري كبير، وشت لنا بذلك الوجوه
والأقوال. لكن بعد انتهاء الاحتفالات بالنصر، ستكشف الصعوبات عن وجهها. يملك
السوريون قيادة ونخبا وشعبا، وورقات/ دروس مهمة، هي دروس الفشل العربي، وهذا أوان
قراءتها لتجاوزها. وجب التنويه بأننا من خارج سوريا، نعيد اكتشاف التنوع السوري
المخيف (والمخصب في آن واحد)، لقد كنا نسمع عن سوريا المتعددة حتى اكتشفنا التعدد
الحقيقي. كيف يتحول التعدد والتنوع (الإثني والطائفي والمذهبي) إلى عنصر قوة في
محيط من التجاذبات غير البريئة؟ هذه معجزة سورية برسم المستقبل، فتوليف هذا التنوع
في سياق سياسي وتحويله إلى عنصر قوة فعالة، تعدّ مهمة جبارة.
اشتغل نظام البعث بالتفريق ليسود، والثورة تقف أمام مهمة إعادة بناء التنوع، ضمن سياق لا يمكن إلا أن يكون ديمقراطيا.
الديمقراطية هي الكلمة المفتاح، وفيها الخلاص لسوريا ولجوارها الجغرافي
والإثني والطائفي. وترجمة هذا على الأرض أن سوريا وهي تعالج أدواءها تقدم حلّا/
علاجا لأكثر من سوريا. "سوريا عربية" كانت عبارة تغمط حق غير العرب فيها،
وسوريا مسلمة جملة أخرى ستغمط حق غير المسلمين فيها (إذا عنَّ للإسلاميين السُّنة
فرض لونهم المذهبي)، فحتى إسلامها كشف لنا تنوعا عجيبا. مظلة الخطاب القومي سقطت إلى
الأبد، ومظلة الخطاب الإسلامي لن تغطي التنوع؛ وحدها الديمقراطية تغطي هذه
الفسيفساء العجيبة.
هل يتسع الخيال السياسي السوري لتوليفة سياسية غير إثنية وغير مذهبية، تخترق
التنوع وتؤلف منه كتلة على أساس ديمقراطي؟ دون تقديم دروس من المتفرج إلى المقاتل، هذا مفتاح مستقبل سوريا والمنطقة، ودون الحاجة إلى تصدير الثورة، الديمقراطية
ستصدر نفسها.
النقاش الدستوري القريب سيوضح لنا الاتجاه، وفي الأثناء لنتواضع لشجاعة من حرر
نفسه. هناك أمل، فذات يوم كانت دمشق عاصمة العالم.