دعا الرئيس جو بايدن حلفاء أمريكا في حلف شمال الأطلسي إلى واشنطن، قبل أربعة أشهر فقط للاحتفال بالذكرى الخامسة والسبعين لتحالفهم، وهو رمز لعصر الزعامة الأمريكية العالمية، الذي كان يحتفى به ذات يوم باعتباره حجر الزاوية للديمقراطية، وأفضل طريقة للحفاظ على السلام بين القوى العظمى.
وجاء في مقال للصحفي ديفيد سانغر، نشرته صحيفة "
نيويورك تايمز"؛ إن الرئيس المنتخب دونالد
ترامب لم يخف رغبته في الإشراف على تدمير هذا النظام العالمي، وفي ولايته الأولى لم يكن يعرف حقّا كيف يفعل ذلك، وكانت تحركاته تواجه معارضة من قبل مؤسسة راسخة، لكن الآن أوضح أنه يمتلك المعرفة والدافع والخطة.
وأكد المقال أنه "إذا أوفى ترامب بوعود حملته، فسوف يتم استبدال عصر التجارة الحرة إلى حد كبير بالرسوم الجمركية، وهي "أجمل كلمة" في اللغة الإنجليزية كما يقول، دون الإشارة إلى حقيقة أن هذا النهج ساهم في الكساد العظيم".
وأوضح: "لا يزال بعض الحلفاء الديمقراطيين يقعون تحت حماية المظلة النووية الأمريكية، لكن الأمر سيكون أكثر من مجرد نزوة للرئيس الجديد من أي التزامات بمعاهدة، وخلال الحملة، قال ترامب؛ إنه "سيشجع" روسيا "على فعل كل ما تريده" لأعضاء الناتو الذين لم يساهموا بما يكفي، حتى لو ظلت
الولايات المتحدة، على الورق، أحد الأعضاء الرئيسيين في التحالف الأطلسي، فإن تأملات ترامب العامة حول ما إذا كان سيفي بالتزامات المعاهدة التي وقعتها واشنطن في عام 1949 قد تكون كافية لتآكل المؤسسة من الداخل".
وعلاوة على ذلك، فإن المهمة الأمريكية التي أعلنها جورج بوش الابن في تنصيبه الثاني، قبل ما يقرب من عقدين من الزمان، "للسعي إلى دعم نمو الحركات والمؤسسات الديمقراطية في كل دولة وثقافة"، قد انتهت رسميا الآن.
وعلى مدى السنوات الأربع الماضية، كان الرئيس بايدن يزعم أن ولاية ترامب الأولى كانت مجرد ومضة في التاريخ الأمريكي، وليس نقطة تحول، وفي أول اجتماع له مع أقرب حلفاء الأمة، أعلن أن "أمريكا عادت"، ووعد باستعادة عالم يمكن الاعتماد فيه على الولايات المتحدة.
وفي رواية بايدن، أثبت هذه النقطة عندما حشدت أمريكا الغرب للوقوف في وجه الرئيس الروسي فلاديمير بوتن والاندفاع للدفاع عن أوكرانيا.
لكن الانتخابات أثبتت أن ترامب ومرحلته في الحكم لم تكن شذوذا، فرؤيته "أمريكا أولا" ستحدد أن العصر يعتمد إلى حد كبير على كيفية مزج خطابه الانعزالي ورغبته الغريزية في أن يكون اللاعب المركزي في عصره.
ونقلت الصحيفة عن ال براندز، مؤرخ الحرب الباردة في جامعة جونز هوبكنز قوله: "خلال ولايته الأولى، تحدث ترامب غالبا وكأنه يريد الانتهاء من تقليد القيادة الأمريكية. غالبا ما تصرف وكأنه يعيد معايرته. ما يقلق العديد من حلفاء الولايات المتحدة، هو الخوف من أن تكون الولاية الثانية هي النسخة الأكثر نقاء دون تخفيف نبرة أمريكا أولا، مع كل العواقب المزعزعة للاستقرار التي قد تجلبها".
وأوضحت أن "الفارق الجوهري الذي يجسده ترامب هو هذا: لقد نظر الرؤساء من هاري ترومان إلى بايدن إلى حلفاء أمريكا إلى حدّ كبير باعتبارهم مضاعفا للقوة. أما ترامب، فينظر إلى هذه التحالفات باعتبارها عبئا، وغالبا ما يعلن أنه لا يفهم لماذا تدافع الولايات المتحدة عن الدول التي تتحمل واشنطن عجزها التجاري. لقد أعلن في ولايته الأولى رفضه لمفهوم أن أوروبا كانت حصنا ضد الاتحاد السوفييتي، وفي وقت لاحق، روسيا. أو أن اليابان كانت حاملة الطائرات الأمريكية في المحيط الهادئ، أو أن كوريا الجنوبية هي المفتاح لاحتواء كوريا الشمالية".
وعندما غادر ترامب واشنطن في 20 كانون الثاني/ يناير 2021، في حالة من العار على ما يبدو، أعلن بايدن على الفور أنه يستعيد الدور التقليدي لأمريكا، وتضمنت إنجازاته المميزة في الغالب توسيع خريطة التحالفات.
وفي العام الماضي، أوضح وزير خارجية بايدن، أنتوني بلينكن قائلا: "نبدأ بالمشكلة التي نحتاج إلى حلها ونعمل من هناك؛ تجميع مجموعة الشركاء ذات الحجم المناسب والشكل المناسب لمعالجتها".
وكانت هناك شراكة جديدة بين أستراليا وبريطانيا والولايات المتحدة، قائمة على أسطول محتمل من الغواصات التي تعمل بالطاقة النووية، لاحتواء الصين التوسعية، وكان هناك حلف ناتو أكبر وإحياء العلاقات مع الفلبين والهند، وشراكة جديدة بين طوكيو وسيئول؛ الحليفين الأمريكيين اللذان لا يتحدثان معا إلا لماما، ناهيك عن التخطيط لتدريبات عسكرية مشتركة.
وأضاف المقال: "السؤال الآن، هو ما إذا كان ترامب سيتكيف مع أي من هذه التغييرات، ويأخذها على أنها خاصة به، تماما كما حاول بايدن - دون جدوى إلى حد كبير - توسيع اتفاقيات إبراهيم في الشرق الأوسط، وهو العنصر الوحيد في السياسة الخارجية لترامب الذي أشاد به مساعدوه أحيانا؟".
وذكر أنه "من المرجح أن يأتي الاختبار الأول في أوكرانيا. لقد ألمح ترامب وزميله في الترشح، نائب الرئيس المنتخب جيمس ديفيد فانس، بانتظام إلى قطع عشرات المليارات من الدولارات من المساعدات الأمريكية، وأصر ترامب على أنه لو كانت هناك صفقة فقط على الأرض، لما حدثت الحرب أبدا".
ويتوقع المسؤولون الأوكرانيون تماما أن يحاول ترامب فرض هذه الصفقة - ربما بإعلان أن بوتين يمكنه الاحتفاظ بنحو 20 بالمئة من البلاد التي يحتلها بالفعل، وقد يجبر هذا الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي على التخلي عن الأراضي، أو المخاطرة بقطع كامل للمساعدات العسكرية والاستخباراتية الأمريكية.
وإذا كان الأمر كذلك، فسيرسل رسالة عبر أوروبا، مفادها أن جميع الحدود الدولية قابلة للتفاوض، ولن يراقب أي زعيم أجنبي الأمر باهتمام أكبر من الرئيس الصيني شي جين بينغ، الذي قد يستنتج أن ما نجح مع بوتن في أوكرانيا قد ينجح معه في تايوان.
أيا كان ما يختاره، فسوف يكتشف ترامب أنه يعمل في عصر أكثر تعقيدا بكثير مما كان عليه قبل أربع سنوات.
وخلال الحملة الانتخابية، لم ينطق بكلمة واحدة عن أكبر تغيير جيوسياسي في السنوات القليلة الماضية: الشراكة المتنامية والمشؤومة في بعض الأحيان بين روسيا والصين.
وعندما يتحدث ترامب عن البلدين، فإنه يكون تبسيطيا في كلامه؛ فهو يتحدث بحرارة عن علاقته ببوتين، الذي لم يتحدث معه بايدن منذ ما يقرب من ثلاث سنوات، ويهدد الصين بفرض تعرفات جمركية معرقلة، ويعلن أن شي لن يأخذ تايوان؛ لأنه "يحترمني ويعرف أنني مجنون"، مستخدما لفظة نابية للتأكيد.
وكيف سيتعامل ترامب مع العلاقة بين الرجلين، اللذين أمضيا مئات الساعات معا في أكثر من 50 اجتماعا، يبقى لغزا. ولكن من الواضح أن كلا من بوتين وشي يعتقد أنهما قادران للتلاعب على غرور ترامب ــ بوتين، من خلال الثناء على قوته، وشي من خلال التلويح بصفقات تجارية، يعتقد أنها ستصرف انتباه ترامب عن نطاق الاستثمارات العسكرية والتكنولوجية الصينية.
وكتب بيتر فيفر، الأستاذ بجامعة ديوك، الذي خدم في مجلس الأمن القومي في أثناء إدارة بوش، في مجلة "فورين أفيرز" يوم الأربعاء؛ "إن جوهر نهج ترامب في السياسة الخارجية ــ المعاملاتية العارية ــ لا يزال دون تغيير. ولكن السياق الذي سيحاول فيه تنفيذ شكله الغريب من إبرام الصفقات تغير بشكل كبير؛ فالعالم اليوم مكان أكثر خطورة مما كان عليه خلال ولايته الأولى".
ويشير إلى أن حملة ترامب كانت مليئة "بالواقعية السحرية: مجموعة من التفاخر الخيالي والوصفات السطحية، التي لا تعكس أي فهم حقيقي للتهديدات التي تواجهها الولايات المتحدة".
وفي مواجهة هذه القضايا، هناك أمر واحد واضح: لن يكون عام 2025 تكرارا لعام 2017.
وجاء في المقال، أنه "عندما وصل ترامب لأول مرة إلى
البيت الأبيض، وهو غير متأكد من كيفية التعامل مع العالم من حوله، لجأ إلى رجال ــ كانوا جميعا رجالا تقريبا ــ، قال إنهم بدوا وكأنهم خرجوا على شكل مصبوب واحد".
وكان هناك ريكس تيلرسون، الرئيس التنفيذي السابق لشركة إكسون موبيل، وجيمس ماتيس، الجنرال السابق الذي اجتذب ترامب؛ لأن قواته أطلقت عليه لقب "الكلب المسعور" (كان ماتيس يكره هذا اللقب)، وكان هناك أربعة مستشارين للأمن القومي، أولهم استمر أقل من شهر، وكان معظم هؤلاء المستشارين يأملون في احتواء وتوجيه ترامب، وحاولوا تعديل دوافعه وتحويلها إلى سياسة متماسكة.
فشل معظمهم، وتم فصل أغلبهم، وندد الكثير منهم به خلال الحملة الأخيرة؛ باعتباره غير لائق للعودة إلى المنصب، (وكان الجنرال المتقاعد جون كيلي، الذي شغل منصب رئيس موظفي البيت الأبيض، الأكثر صراحة، قد خلص إلى أن ترامب يفي بتعريف الفاشي، ولا يفهم الحدود التي يفرضها الدستور على الرئيس).
وختم المقال: "هذه المرة، أوضح ترامب أنه لا ينوي توظيف شخصيات من المؤسسة قد تجادله أو تبطئ من مطالبه، إنه يريد موالين يخدمون أجندته، وسيتعلمون كيفية التعامل مع رئيس يعتقد أن أعظم قوته، تكمن في إقناع الحلفاء والخصوم على حد سواء بأنه قادر على الضرب في أي اتجاه".