تقارير

القصف الإيراني لـ "إسرائيل".. كيف يمكن فهمه بعيدا عن الانحياز الأيديولوجي؟

إيران دولة تلعب السياسة كما ينبغي، وترسم سياساتها بأناة وروية كما تنسج سجادها، وهي قادرة على أن تتفاوض مع الغرب من موقع الند للند.. الأناضول
تباينت الأنظار واختلفت الآراء في تفسير القصف الصاروخي الإيراني الذي استهدف مواقع إسرائيلية متعددة مساء الثلاثاء الأول من أكتوبر الجاري، بين من يصفها بالمسرحيات التي تأتي في إطار اتفاقات سرية بين إيران وأمريكا وإسرائيل، وبين من يهول من وقوعها ووقعها ويعول عليها كثيرا في خضم معركة طوفان الأقصى المفتوحة منذ السابع من أكتوبر الماضي.

وباستحضار خلفيات الحدث وجذوره فإن الجدل لا يتوقف عن تحديد طبيعة العلاقة بين إيران وإسرائيل، إن كانت عداوة مستحكمة، أم تخضع في كواليسها وبواطنها لصداقة مستترة، فالرافضون لسردية التفسير الذي يجنح إلى تصوير القصف الإيراني باعتباره مسرحية لا يكفون عن التأكيد على أن العلاقة بينهما هي عداوة حقيقية، وأن الصراع صراع جدي بين مشروعين متغايرين عقائديا وسياسيا.

ويتساءل الرافضون لسردية التفسير المؤامرتي: ما الداعي لكل هذه المسرحيات؟ وما الذي حمل إيران على القيام بهذه المسرحيات؟ ومتى كانت المسرحيات تطفح بالدماء والقتل والأشلاء؟ وما هذه المسرحيات التي تُرغم ملايين الإسرائيليين على دخول الملاجئ عنوة في تل أبيب وباقي مدن الكيان الصهيوني، وتوقف الملاحة الجوية وتعطل حركة المطارات والمسافرين؟

الكاتب الصحفي الأردني، باسل رفايعة كتب تدوينة على موقع (إكس) جاء فيها: "أنا لا أفهم في الصواريخ لكن..، لست خبيرا عسكريا لكن..، لست محللا سياسيا لكن..، لم يقل أحد من الذين استدركوا بـ’لكن’ سوى موقفه ومشاعره وأمنياته، متجنبا الإقرار بتوجيه إيران ضربة حقيقية إلى العدو الصهيوني، ونقل المواجهة خطوة إلى الأمام، ولا تهم المسافة".

وأردف بالقول: "لم يقل معظم المستدركين إن الصواريخ التي ’لم تقتل أو تجرح أحدا’ يجري تقييمها دوليا لصالح طهران، من حيث اختراق المنظومة الدفاعية الأمريكية المتطورة جدا، وتوجيهها نحو أهداف عسكرية واستراتيجية، وليس مدنية.."، مضيفا "استدرك كما تشاء القصة ليست حبا أو بغضا بإيران، العدو الصهيوني يعرف معنى وصول الصواريخ تحت قبته الحديدية، وإذا كان هو والبنتاغون في قلق، فربما لأنهم يفهمون أكثر منك قليلا في الصواريخ البالستية".



وفي المقابل فإن من يشككون في حقيقة القصف الإيراني لإسرائيل يتساءلون: لماذا لا تستهدف الصواريخ الإيرانية مواقع سيادية ومنشآت حيوية إسرائيلية؟ ولماذا لا توقع الصواريخ الإيرانية قتلى وجرحى في صفوف الإسرائيليين؟ ولماذا لا تكون الصواريخ الإيرانية مدمرة ودقيقة كما هي الصواريخ الإسرائيلية؟

في هذا الإطار كتب الكاتب والمحلل السياسي السعودي، عبد الحميد الغبين عبر حسابه على منصة (إكس): "نتائج صواريخ إيران على إسرائيل: ارتياح نفسي في أوساط ما يسمى محور المقاومة، بعد الصدمة النفسية والمعنوية، أثر مقتل قادة حزب الله وعلى رأسهم حسن نصر الله، رفع الحرج عن إيران وسط أنصارها".

وأضاف أن "دخول العرب سواء من أنصار إيران أو من هم ضدها في جدلية بين دقة الصواريخ وتدميرها للقواعد العسكرية الإسرائيلية وبين أنها مجرد أنابيب حديد، ومخرج السيناريو أراد تطبيق بيت الشعر الشهير للمتنبي على هذه الأمة المغيبة عن الوعي: أَنامُ مِلءَ جُفوني عَن شَوارِدِها** وَيَسهَرُ الخَلقُ جَرّاها وَيَختَصِمُ.

وتابع بأن "الفيديو أدناه يتم تداوله على أنه صاروخ إيراني دمر مبنى الموساد.. وحقيقة الفيديو هو قصف روسي لمستودع أسلحة أوكراني" وفق قوله.



 
ووفقا لمراقبين فإن رصد طرق التعاطي الشعبوية مع القصف الصاروخي الإيراني لإسرائيل يُظهر أنها لا تخرج في أغلبها عن نظرتي التهوين والتهويل، كما تحضر بقوة نظرية المؤامرة كرؤية تفسيرية لفهم الحدث وتحليله، ما ينتج عنه صورا متعددة من تزييف الوعي، وتشويه الفهم، في ظل ندرة التحليل الموضوعي الذي يكاد أن يغيب عن المشهد.

كيف يمكن فهم طبيعة العلاقة بين إيران وإسرائيل في التاريخ القريب؟ يجيبنا عن ذلك الأكاديمي والباحث المغربي، الدكتور أحمد الزقاقي موضحا أنها مرت بمرحلتين رئيستين: الأولى تميزت بصداقة متينة بدأت بالاعتراف بالكيان الصهيوني وانتهت بإقامة علاقات استراتيجية معه، تقوم على الدعم الكامل وتبني "السردية الإسرائيلية" بشكل مطلق، نصبت أمريكا فيها شاه إيران شرطيا لخدمة مصالحها في المنطقة..

وأضاف: "أما المرحلة الثانية فتميزت بعداوة مستحكمة بعد نجاح "الثورة الإسلامية" الإيرانية (1979م) التي فجرها العقل الشيعي التقليدي والمرجعيات الدينية المستظهرة بالمساجد والحسينيات، ووجهت بذلك ضربة قاصمة للنفوذ الأمريكي بالمنطقة، وتم قطع العلاقات مع الكيان الصهيوني، وتسليم مقر السفارة "الإسرائيلية" لمنظمة التحرير الفلسطينية..".

وتابع الزقاقي حديثه لـ"عربي21" بالقول: "اليوم في سياق طوفان الأقصى وملحمة السابع من أكتوبر المجيدة، لم ينته الجدال حول انخراط إيران وحزب الله واليمن والمقاومة الإسلامية بالعراق وكلها تجمعها (المذهبية الشيعية) في معركة إسناد المقاومة في غزة".

ولفت إلى أن ثمة أسئلة تُثار حول انخراط إيران وأذرعها في المنطقة من أبرزها: هل القوم صادقون في دعمهم؟ ألم يفعلوا كذا وكذا في سوريا؟ أليست عقائدهم منحرفة ومخالفة لما يعتقده عامة المسلمين؟ ألم تصرح إيران من قبل بسيطرتها على أربع عواصم عربية؟.. إلخ.


                                   د. أحمد الزقاقي.. باحث وأكاديمي مغربي

في الإجابة عن الأسئلة السابقة رأى الزقاقي أن "ميزان العدل القرآني الذي تضمنته الآية الكريمة (يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين لله شهداء بالقسط، ولا يجرمنكم شنآن قوم على أن لا تعدلوا اعدلوا هو أقرب للتقوى) {المائدة:7}، يدفعنا إلى القول: نعم يقال للحزب: أخطأت يوم أجَّرت بندقية المقاومة لنظام مستبد طائفي، ويقال له أصبت وشكرا لإسناد أهل غزة، ثم نمضي لمواجهة العدو ونحن جميعا متحدون".

وأردف بأنه "بعدما قدمت وحدة الساحات ثمنا باهظا لإثبات صدقيتها باستشهاد زعمائها، بدت كل دعوات التحريش الطائفي التي تذكيها الدعاية الأمريكية والصهيونية تافهة، وغدت وحدة الساحات تعبيرا عن وحدة المصير، ووحدة الدين، ووحدة الهدف تجاه عدو الأمة التاريخي، وقد مثل القصف الإيراني للكيان تعبيرا حقيقيا عن تلك الوحدة لا مجرد "مسرحية" إذ لا توجد دولة عاقلة في العالم تخاطر بأمنها القومي".

من جهته رأى أستاذ العلوم السياسية بالجامعة الهاشمية في الأردن، الدكتور جمال الشلبي أن تفسير القصف الإيراني لإسرائيل إما بالتهوين من شأنه، أو التهويل من أمره أنه "يصدر عن مواقف أيديولوجية ناجزة ومسبقة ومنحازة، ولا يصدر عن تحليل موضوعي مبني على معطيات الواقع، ولا يقدم قراءة عقلانية تحليلية وفق ما تقتضيه أصول وقواعد التحليل السياسي بعيدا عن القراءة الرغائبية والانحياز الأيديولوجي".

وأضاف أن "من يشكك في ما تقوم به إيران يصدر عن رؤية تتعاطى معها بوصفها دولة مجوسية فارسية رافضية (نسبة للروافض)، لذا فموقفهم معروف سلفا من إيران وكل ما تقوم به في المنطقة، وتيار آخر يدعم إيران ويقف إلى جانبها، لأنه مقتنع أن إيران تقف ضد المشروع الصهيوني في المنطقة، من باب عدو عدوي صديقي".

وأردف الشلبي في حديثه لـ"عربي21" بأن "ثمة تيارا ثالثا يتمثل في التوجهات الأكاديمية ذات التحليل الرصين، والتي تنطلق من كون إيران دولة إقليمية قوية، لها حضورها وتأثيرها وفاعليتها في الإقليم، وهي مستعدة في ظل المعطيات السابقة للوصول إلى توافقات وتفاهمات مع مختلف الأطراف بما يخدم مصالحها، ويحقق طموحها وأهدافها في المنطقة".


                  د. جمال الشلبي.. أستاذ العلوم السياسية بالجامعة الهاشمية في الأردن

ولفت إلى أن "إيران دولة تلعب السياسة كما ينبغي، وترسم سياساتها بأناة وروية كما تنسج سجادها، وهي قادرة على أن تتفاوض مع الغرب من موقع الند للند، ومن المؤكد أن الغرب (أمريكا وأوروبا) لديه مصالح في التعامل مع إيران، ما يؤهلها للوصول إلى تسويات وتفاهمات ضمن رؤيتها وبما يخدم مصالحها".

وعن انتشار نظرية المؤامرة في تفسير العلاقة بين إيران وإسرائيل، والنظر إلى قصفها الصاروخي لإسرائيل بوصفه مسرحيات، قلل الشلبي من قيمة ذلك، وأبدى رفضه للتفسير التآمري، لأنه "تفسير رغائبي بامتياز وينطلق من رؤى أيديولوجية، لا تحفل كثيرا بالعوامل والمعطيات الواقعية الهامة والمؤثرة".

وختم حديثه بالإشارة إلى أن "إيران لم تعد دولة هامشية، بل أصبحت دولة مواجهة مع إسرائيل، وهذا ما كشفت عنه هجماتها الصاروخية الأولى والثانية، فالأولى كانت أقل تدميرا وتأثيرا، والأخيرة حملت جرعة أكبر في التهديد والقدرة على التدمير، تريد من وراء ذلك ايصال رسالة واضحة لإسرائيل بأنها قادرة على استهداف أية أهداف حيوية وهامة في قلب إسرائيل إذا ما تمادت في قادم الأيام، وتجرأت على استهداف أهداف حيوية داخل الجغرافيا الإيرانية".