قضايا وآراء

غزة إذ تُنهي عهد الكلام واللعب بالألفاظ

"يجد الشعب الفلسطيني نفسه متروكا لوحده تقريبا"- الأناضول
مع نمو مخاطر توسيع جرائم الإبادة الجماعية في غزة، دون اكتراث إسرائيل لقرارات محكمة العدل الدولية وللمحكمة الجنائية الدولية، وترسيخ مظاهر هذه الإبادة كردٍ مباشر على الإخفاق الكبير الذي لحق بإسرائيل منذ السابع من تشرين الأول/ أكتوبر الماضي، وتكرار الفشل في الميدان العسكري والسياسي والأمني، وعدم تحقيق شعارات العدوان في القضاء على حركة "حماس" واستعادة الأسرى من المقاومة بدون صفقة وتثبيت أمر واقع من التدمير والتهجير والمذابح، فإن الهستيريا الصهيونية تبلغ ذروتها الفاشية، ليس فقط بتوسيع العدوان على الفلسطينيين بكل مدن الضفة ومعاقبتهم اليوم على خطوة اتخذتها دول مثل إسبانيا وأيرلندا والنرويج، بعدم السماح للقنصلية الإسبانية بتقديم خدماتها في المناطق المحتلة على سبيل المثال، بل شملت هذه الهستيريا كل المجتمع الدولي.

هجوم إسرائيلي مستعر على تحرك طلبة الجامعات حول العالم المنادي بوقف الحرب، ومهاجمة الأمين العام للأمم المتحدة، وتمزيق ميثاقها وشيطنة وكالاتها وتكرار الشعار الباهت عن معاداة السامية، ثم استهداف وسائل الإعلام وقتل الصحفيين، وقصف عمال الإغاثة الدوليين، ثم عربدة على الدول التي اعترفت بفلسطين،
مع جرائم صهيونية مستمرة، وتحديات تفرضها حكومة صهيونية مستفحلة بفاشية وعنصرية، يجد الشعب الفلسطيني نفسه متروكا لوحده تقريبا لولا بعض المواقف غير العربية
وتوسيع هذه العربدة لتشمل مدن الضفة المحتلة والقدس، وإطلاق العنان لكل خطط الحقد والإبادة والاستيطان وإشهار التعاليم التلمودية والتوراتية بوجه الفلسطينيين والعرب من قبل أقطاب حكومة نتنياهو، ثم تتويج كل ذلك بإعادة مشاهد الإبادة الجماعية في رفح ليقولوا للعالم كله: ماذا أنتم فاعلون؟

في وضع كهذا، مع جرائم صهيونية مستمرة، وتحديات تفرضها حكومة صهيونية مستفحلة بفاشية وعنصرية، يجد الشعب الفلسطيني نفسه متروكا لوحده تقريبا لولا بعض المواقف غير العربية، وكانت قوية على الاحتلال وسياساته وسمعته، وتميزت بها دول في أمريكا اللاتينية وجنوب أفريقيا إلى إسبانيا وأيرلندا والنرويج، ومن محكمة العدل الدولية والجنائية الدولية، مقابل غياب موقف عربي موحد أو منفرد، يقضي بدعم وتنفيذ قرارات تسهم بوقف العدوان ولجم جرائم الإبادة الجماعية أو تغيير صورة العجز المخزي بعدم القدرة على مد يد العون الإنسانية والإغاثة للضحايا.

وهنا تظهر المفارقة المؤلمة لتأثير وأثر مواقف سياسات دول غربية كالدول التي اعترفت بفلسطين، وبين مواقف عربية أنهت اجتماع قمتها قبل أيام دون أثر يذكر عليها وعلى شعوبها وقضاياها، ودون تأثير على مسرح السياسة الدولية سوى بالانهماك بتلميع نفسها لدخول نفق التطبيع مع المشروع الصهيوني.

لم يكن ممكنا والحال هذه، في ظل إصرار حكومة نتنياهو على المضي بجرائم الإبادة في غزة وفي مدينة رفح، لتحقيق هزيمة "مطلقة" ومستحيلة لمقاومة الشعب الفلسطيني وتمهيد الطريق وتقديم كل التسهيلات المواتية لتحقيق التطبيع، أن لا يحدث شيء عربي مغاير لأوضاع ألفها المشروع الصهيوني مع النظام الرسمي العربي، لكن إهمال العرب اليوم إسناد الشعب الفلسطيني، ودعم مقاومته وصموده فوق أرضه، والتجاهل الكلي لأدوات ضغط حقيقي على مصالح الاحتلال ومن يدعمه، هو في الحقيقة تكملة التصرف على أساس أن الشعب الفلسطيني ومقاومته بالتحديد طرف ليس "أصيلا" في أرضه، مع عدم النظر لحقيقة المشروع الصهيوني في فلسطين ومقاومة شعبها له.

وفي الوقت الذي لم تجد فيه البراهين الوافية عن الطبيعة الاستعمارية والعدوانية لإسرائيل آذانا صاغية وعقولا متبصرة، يتصور بعض النظام العربي مع سلطة فلسطينية بائسة ويائسة أن إحجامهم عن الغوص بالأوهام مع المستعمر سيفقدهم الرغد المنتظر، دون أن يروا أبعد من ذلك رغم وضوح المشهد على الأرض، فيتكرر الكلام العربي بألفاظ فارغة عن رغبته برؤية حل عادل لقضية شعب يقاوم مستعمره.

ولا شك أن خيبة الأمل التي تصيب الجانب العربي والرسمي الفلسطيني، ليست نابعة من براهين صهيونية، على طريقة تفكيكها بمرافعات جنوب أفريقيا ولا باستياء عارم عبرت عنه على سبيل المثال كولومبيا وتشيلي وغيرهما بقطع العلاقة مع إسرائيل، الخيبة من الفلسطيني نفسه ومن وجوده وبقائه فوق أرضه مذكرا كل الخائبين بعارهم وخزيهم الأبدي.

ومهما يكن من أمر هذه الخيبة، فهي ليست الأولى من نوعها وقد تكررت على النحو ذاته عندما اختار الشعب الفلسطيني طريقه وطريقته بالنضال وبكل الأشكال التي تُطرح أسئلتها على من يفتش عن ذرائع العجز الذاتي: هل قاوم الفلسطيني بالكلمة دون أن يُقتل؟ وهل قاوم بالشعر والبحث دون أن تصيبه متفجرة؟ وهل قاوم بالحجر دون أن يُقهر ويُعدم بالميدان؟ وهل قاوم إبادته الجماعية بالبندقية والمدفع دون لوم وحصار ونبذ وعقاب؟ بالطبع لا، إذا القضية ليست في وسائل المقاومة، القضية عند المحتل وطبيعته الفاشية، والقضية الأخرى هي الإمعان العربي في تطبيق سياسة الجبن أمام المحتل، وتشديد سياسة القمع على الشعوب، واتباع خط مساوم ومتخاذل لقضيته المركزية.

العجز العربي والدولي عن وقف جرائم الإبادة مستمر على هذا الشكل مع وقائع ثبتتها تجربة أكثر من ثلاثة عقود منذ مدريد وأوسلو، وقادت لبناء دولة المستوطنين على أرض الدولة "المعترف بها" وترسيخ سياسة الفصل العنصري

ولعل من المهم أن نتحدث هنا عن أهمية الحراك الدولي الواسع اليوم المندد بسياسات الاحتلال مع الاعتراف بدولة فلسطين، أو القرارات الصادرة عن المحكمة الجنائية الدولية ومحكمة العدل ومواقف جامعات ومؤسسات دولية تحاصر الاحتلال وجرائمه. هذه الأهمية تمتلك الزخم والحضور بفضل مقاومة الشعب الفلسطيني وصموده وبسالته. ولنا أن نتخيل لو أن هذا النضال والحراك يحظى بدعم عربي حقيقي يوفر ظروف ترجمته على الأرض باستعادة مركزة للقضية الفلسطينية، والاستفادة من المكاسب التي حققها الشعب الفلسطيني بمقاومته، واستغلال التحولات السياسية الأخيرة لبعض الدول الغربية للضغط على الاحتلال لوقف جرائم الإبادة، واستكمال معركة دحر الاحتلال بخطاب صلب موجّه للولايات المتحدة أولا.

العجز العربي والدولي عن وقف جرائم الإبادة مستمر على هذا الشكل مع وقائع ثبتتها تجربة أكثر من ثلاثة عقود منذ مدريد وأوسلو، وقادت لبناء دولة المستوطنين على أرض الدولة "المعترف بها" وترسيخ سياسة الفصل العنصري. الأمر يتطلب بالأساس الإقلاع التام عن التلفظ بعبارات التمسك الفلسطيني والعربي بخيارات لا تستقيم مع الإمعان الصهيوني بجرائم الإبادة والمضي بسياسة التهويد والاستيطان والسطو المستمر على الأرض.

الهستيريا الصهيونية تجاه الشعب الفلسطيني، أدركها العالم اليوم المصاب بهستيريا صهيونية مليئة بالأكاذيب المتصدعة والتي حاول المجتمع الدولي أن يلائم نفسه معها، وتحاول الولايات المتحدة خلق مواءمة عربية معها بتقديم إسرائيل لمهمة لا تستطيع النجاح فيها، فغزة تنهي اليوم عهد الكلام واللعب بالألفاظ والأوهام.

x.com/nizar_sahli