قد لا يُلام امرؤ يفرك عينيه تعجباً، أو على سبيل التيقّن، حين يقرأ خبراً عن اجتماعات تخصّ حركة
عدم الانحياز؛ تُعقد على مستوى الوفود في باريس، حيث مقرّ منظمة اليونسكو؛ أو على مستوى القمّة في أذربيجان أو أوغندا، وقبلها في فنزويلا وإيران ومصر وكوبا وماليزيا وجنوب أفريقيا. عدم انحياز في هذه الأزمنة؟ للمرء إياه أن يتساءل، الآن حين يمرّ عام على الاجتياح الروسي في أوكرانيا، وتمرّ ساعات على الاحتشاد الأمريكي والأطلسي هنا وهناك، ويعلّق الرئيس الروسي فلاديمير بوتين توقيع موسكو على اتفاقية «ستارت الجديدة»…؟
وبين
خداع العالم أو مخادعة الذات أو مزج أكذوبة مفضوحة الأركان بدعابة ثقيلة الدم، ثمة طراز مضحك/ مبكٍ من التشبث بفكرة شبعت انحساراً واحتضاراً، وموتاً بطيئاً في جوانب عديدة؛ لكنّ المتشبثين ليسوا البتة على استعداد لتشييع ما تبقى منها إلى مقابر التاريخ، اتكاءً على مبدأ عتيق يقول إنّ إكرام الميت دفنه. القمم ذاتها لم تعد تُعقد سنوياً، بل على سبيل المناسبات المواتية، كما في قمة أذربيجان الـ18، أواخر أكتوبر/تشرين الأول 2019، التي خرجت بتوصيات تخاطب مواضعات عالم مضى وانقضى. وحين خاطب الرئيس الأذربيجاني إلهام علييف وفود 20 بلداً وممثلي نحو 160 منظمة وكياناً، لم تنحصر المفارقة في أنّ بلده منحاز إلى روسيا من الرأس حتى أخمص القدمين، فحسب؛ بل كذلك في مشاركة كوريا الشمالية، إلى جانب أفغانستان وإيران والبوسنة والهرسك و… سويسرا!
انطوى تاريخ الحركة على تجاور عجيب بين زعماء أنظمة دكتاتورية استبدادية (من الإندونيسي سوهارتو، إلى السوري حافظ الأسد، مروراً بأمثال عيدي أمين وجعفر النميري…) مع زعماء من طراز نلسون مانديلا وياسر عرفات.
وكي يستقرّ المرء على بلد عربي، كان مفاجئاً أن تستذكر الجزائر وجود حركة عدم الانحياز، في سنة 2014، فتقيم لها أشغال ندوة وزارية حضرها 60 وزير خارجية، وعدد من مسؤولي المنظمات الدولية والإقليمية؛ بعد أن كانت الجزائر، ذاتها، قد احتضنت قمة الحركة الرابعة، سنة 1973. يومها قال البيان الرسمي إنّ تلك الأشغال هدفت إلى «العمل سوياً من أجل الوصول إلى أرضية تفاهم شاملة حول القضايا ذات الاهتمام المشترك بما فيها مسائل التنمية التي تشكل هاجسا لجميع دول العالم النامي، وقضايا الأمن والإرهاب العابر للأوطان».
القمة الـ15، في شرم الشيخ 2009، شددت على أنّ الانعقاد في مصر تحديداً يكتسب أهميته «ليس فقط من حجم المشاركة الكبير، ومستوى التمثيل المتميز فيها، أو من طبيعة الظروف الدولية الاستثنائية، والتطورات الراهنة التي يشهدها العالم، وفى مقدمتها الأزمة المالية العالمية» و«إنما أيضاً من مكان انعقادها بما لمصر من دور محوري في مسيرة حركة عدم الانحياز».
انطوى تاريخ الحركة على تجاور عجيب بين زعماء أنظمة دكتاتورية استبدادية (من الإندونيسي سوهارتو، إلى السوري حافظ الأسد، مروراً بأمثال عيدي أمين وجعفر النميري…) مع زعماء من طراز نلسون مانديلا وياسر عرفات.
وأن تكون الحركة أقرب إلى جثة هامدة أمر لا يبدّل حقيقة أنها تعدّ في عضويتها 120 دولة، و17 دولة مراقبة، و11 منظمة عالمية، بما يجعلها التكتل الدولي الأكبر بعد منظمة الأمم المتحدة؛ كما لا يلطّف حقيقة موازية تشير إلى أنّ الجوهر لم يعد يخصّ هذه التفاصيل، بل صار يدور حول مصير الحركة ذاتها، وما إذا كان الاسم لايزال ينطبق على المسمّى أساساً، أو يعبّر عن واقع حال فعلي.
ففي سنة 1961 كان الزعيم الهندي جواهر لال نهرو قد نحت هذه العبارة العجيبة، «عدم الانحياز» وأراد منها ثلاثة أغراض: التحرّر من ربقة الاستعمار، بمختلف أشكاله القديمة والحديثة؛ وتخفيف حدّة التوتر الدولي بين القطبين ــ المعسكرين، الرأسمالي والاشتراكي؛ وتحقيق التنمية الاقتصادية لبلدان العالم الثالث، بوصفها البلدان التي تمثّل الكتلة الطبيعية لمفهوم عدم الانحياز.
وكان لافتاً أن تتحوّل هذه المبادئ إلى «فلسفة» في العلاقات الدولية، هيمنت على مؤتمر باندونغ (إندونيسيا، 1955) للدول الآسيوية والأفريقية، ولم يعتمدها بعض أبرز زعماء هذه الدول (نهرو، جمال عبد الناصر، كوامي نكروما) فحسب؛ بل انضمّ إليهم اليوغسلافي جوزف بروز تيتو، زعيم دولة كان يصعب اعتبارها غير منحازة، أياً كانت مشكلاتها العقائدية أو السياسية مع المعسكر الاشتراكي. ليس هذا فقط، بل انطوى تاريخ الحركة اللاحق على تجاور عجيب بين زعماء أنظمة دكتاتورية استبدادية (من الإندونيسي سوهارتو، إلى السوري حافظ الأسد، مروراً بأمثال عيدي أمين وجعفر النميري…) مع زعماء من طراز نلسون مانديلا وياسر عرفات.
غير أنّ «الفلسفة» حملت الكثير من مبررات وجودها، في سياقات اشتداد الحرب الباردة بين واشنطن وموسكو، وانقلاب مفهوم الاستقطاب إلى ما يشبه الخيار القسري، في الاقتصاد والأمن أسوة بالسياسة والاجتماع. ثمّ استقرت، وإنْ في المستوى اللفظي وحده طيلة عقود، على سلسلة من «المطالب» العامة التي يظلّ الاتكاء عليها تذكرة نافعة، محدودة الجدوى. بينها احترام حقوق الإنسان، وإقرار المساواة بين الأعراق والأمم، واحترام حقّ الأمم في الدفاع عن النفس عند تعرّضها للعدوان، والامتناع عن التهديد بالعدوان واستخدام القوّة، وحلّ النزاعات الدولية بطرق سلمية.
وفي ضوء الانتهاك المتعاقب لهذه المبادئ، كلّها، كلّ يوم تقريباً، بات واضحاً أنّ مفهوم «عدم الانحياز» اغترب عن محتواه الدلالي، وصارت مؤتمرات الحركة محض لقاءات فاقدة للمعنى؛ خاصة حين يتواصل فيها التجاور بين دولة مثل إيران، تنحاز عسكرياً لصالح نظام وراثي استبدادي في سوريا؛ أو أخرى مثل بورما (ميانمار) أو كوريا الشمالية، حيث لا تنحاز الأنظمة إلا ضدّ الشعوب؛ وثالثة مثل أفغانستان، كانت لا تزال تحت احتلال أمريكي وأطلسي، وتُصنّف غير منحازة!
ومن نافل القول إنّ أيّ اجتماع للحركة، حتى على مستوى وزراء الخارجية، لن يخرج عن واقعة شاذة ضمن مشهد عالمي يهيمن عليه طراز واحد من الانحياز، بمعنى المصطلح القديم بين واشنطن وموسكو، وفي مستويات القطبية الأحادية أو القليل من الاستقطابات الفرعية؛ وهذه، كما لا يخفى، ذروة الشكلانية الجوفاء في إدارة مؤسسات دولية انقلبت إلى ما يشبه الميراث التاريخي الصرف، ولم تلفظ أنفاسها بعد لأسباب تتصل جوهرياً بالنفاق السياسي والديكور التجميلي.
وذات يوم، سنة 1998، شاءت المفارقة، القاسية تماماً ولكن التعليمية المفيدة بالقدر ذاته، أن تنعقد قمّتان في فترة زمنية واحدة: القمّة الأمريكية ــ الروسية، والقمّة الـ 12 لدول عدم الانحياز؛ فكان الفارق صارخاً بالطبع، ولم تكن اعتبارات الجغرافيا والمسافات الشاسعة هي وحدها التي فصلت بين موسكو ودوربان في جنوب أفريقيا. كان ثمة اعتبارات أخرى جوهرية تخصّ الموقع والدور والوظيفة الذي تشغله القمّتان في نظام العلاقات الدولية، وكان ثمة الكثير الذي يدور حول التاريخ والاقتصاد والسياسة والثقافة والديموغرافيا، أو كلّ ما يُبقي الشمال شمالاً والجنوب جنوباً، باختصار كلاسيكي.
وذاك الذي، في السطور الأولى أعلاه، فرك عينيه تعجباً يحقّ له أن يضيف سلسلة أسئلة ذات وجاهة: عدم انحياز، بين مَنْ ومَنْ؟ لصالح مَنْ بالضبط (إذْ ينبغي أن يكون هنالك ذلك الفريق الثالث الذي يصبّ موقف عدم الانحياز لصالحه) وأين؟ خطوة آمنة أولى هي حصر المصطلح بين مزدوجات، بحيث تكون له مساحة دلالية مفتوحة بعض الشيء، سواء لجهة التأويل أو لجهة الالتباس: إنه مصطلح، مثله مثل سواه من مصطلحات فقدت الكثير من مخزونها الدلالي هذه الأيام، من دون أن تنقرض أو تُسحب تماماً من التداول. خطوة تالية هي وضع الفكرة بأسرها جانباً، ليس لأنها باتت نافلة مُماتة فقط، بل أساساً لأن كتلة الدول الأعضاء منحازة شاءت أم أبَت، ومنحازة بحكم ما يُناط بها من وظائف ضمن التقاسم الدقيق للأدوار الإجمالية في نظام العلاقات الدولية.
تسمياته الأخرى متوفرة بالطبع، على غرار «حوار الشمال والجنوب» من باب الكياسة، و«حوار الأغنياء والفقراء» من باب تسمية الأشياء بمسمّياتها الفعلية.