قضايا وآراء

هل يتمكن القوس الأمريكي من خنق الصين؟

الأناضول
تسود منطقة جنوب وشرق آسيا في الفترة الأخيرة الكثير من التوتّرات، ناتجة عن محاولة الولايات المتحدة تعزيز حضورها في المنطقة لمواجهة الصعود الصيني واستعداداً لأي سيناريوهات مستقبلية سلبية يمكن أن تحدث. من المعروف أنّ الوجود الأمريكي في المنطقة ليس جديداً، لكنّه أخذ دفعات أكبر في مرحلة الحرب العالمية الثانية مع دخول الولايات المتحدة الحرب في مواجهة اليابان، والتي نتج عنها حضور عسكري كبير لها في اليابان وبقية المنطقة، وتعزّز هذا الحضور في المرحلة الثانية خلال الحرب الكورية (1950-1953).

اتسمت الفترة التي أعقبت الحرب الكورية بنوع من الهدوء النسبي في المنطقة، وخصوصاً بعد لقاء الرئيس الأمريكي ريتشارد نيكسون مع الرئيس الصيني ماو تسي تونغ عام 1972م، لكن مع انهيار الاتحاد السوفييتي عام 1991م، بدأت الولايات المتحدة تنظر إلى المنطقة بشكل مختلف، إذ أدركت أنّ الدعم الأمريكي للصين بمواجهة الاتحاد السوفييتي لم يعد له مبرر، وأنّ "التنين الأحمر" كما وُصفت الصين حينها، يمكن أن تشكّل التهديد المقبل لزعامة الولايات المتحدة للعالم، خصوصاً بعد نجاحات الصين كقوة اقتصادية.

يبدو أنّ انشغال الولايات المتحدة بحروبها ضد ما يسمى بالإرهاب في المنطقة الإسلامية أجّل المواجهة مع الصين عملياً إلى مرحلة الرئيس دونالد ترامب، الذي أطلق حرباً تجارية مع الصين شكّلت بداية انعطافة في العلاقات الأمريكية الصينية التي اتسمت خلال العقود العقود الخمسة الماضية بالتعاون والتكامل الاقتصادي.

انشغال الولايات المتحدة بحروبها ضد ما يسمى بالإرهاب في المنطقة الإسلامية أجّل المواجهة مع الصين عملياً إلى مرحلة الرئيس دونالد ترامب، الذي أطلق حرباً تجارية مع الصين شكّلت بداية انعطافة في العلاقات الأمريكية الصينية التي اتسمت خلال العقود العقود الخمسة الماضية بالتعاون والتكامل الاقتصادي
منذ بداية عهد الرئيس الأمريكي الحالي، جو بايدن، حدّدت إدارته الصين كمنافس استراتيجي، وهو في الحقيقة لفظ منمق للتعبير عن خصومة الولايات المتحدة الأمريكية للصين، وبدأت خطة احتواء للصين من خلال إثارة نشاطات الصين البحرية والجوية في بحر جنوب الصين، والادعاء بأن الصين تحاول حل قضية تايوان بالقوة والاحتلال العسكري.

ورغم الاتفاقية بين واشنطن وبكين على مبدأ "الصين الواحدة"، التي تتلخص في الاعتراف بأنّ هناك صين واحدة فقط هي دولة الصين الشعبية، وأنّ تايوان جزء لا يتجزأ منها، وبموجب هذه السياسة تقيم الولايات المتحدة علاقات رسمية مع جمهورية الصين الشعبية وليس مع تايوان التي تعتبرها بكين إقليماً صينيّاً لا بد من أن يعود يوما إلى كنف الوطن الأم، إلا أنّ واشنطن بدأت في السنوات الأخيرة تشجّع تايوان بمختلف السبل على التعبير عن وضع استقلالي، وعملت عمليّا على تقويض مبدأ "الصين الواحدة" من خلال دعم تايوان عسكرياً وسياسياً.

لذلك هذا الوجود والدعم المعلن لتايوان وزيارة رئيسة مجلس النواب الأمريكي نانسي بيلوسي إلى الجزيرة في آب/ أغسطس الماضي، والعمل على تآكل فكرة الصين الواحدة بالتدريج، والتوسع في استخدام القواعد والدعم العسكري لكوريا الجنوبية، ينظر إليه من طرف الصين على أنه استعداد من قبل الولايات المتحدة لحرب صارت غير مستبعدة، خاصة مع وجود تصريحات لقيادات عسكرية أمريكية بهذا الصدد.

تحاول الولايات المتحدة من خلال تصريحات وزير الدفاع الأمريكي لويد أوستن، وحضوره في المنطقة وتعزيز الوجود العسكري في كوريا الجنوبية والفلبين، محاصرة الصين عبر تشكيل قوس عسكري في جنوب شرق آسيا، فواشنطن تمتلك العديد من القواعد والمنشآت العسكرية في اليابان، وعدد قواتها هناك الذي يزيد عن 50 ألف جندي هو الأكبر خارج الولايات المتحدة، تليها كوريا الجنوبية كثالث مستضيف للقوات الأمريكية بعد اليابان وألمانيا، وتضم أكبر قاعدة عسكرية من حيث المساحة، بالإضافة إلى أنّ الفلبين التي أبرمت اتفاقاً مع الولايات المتحدة قبل أيام، يسمح للجنود الأميركيين باستخدام أربع قواعد عسكرية إضافية، هي الأقرب إلى تايوان بمسافة نحو 1200 كيلو متر.. وكل هذا يترافق مع مساعي واشنطن لتعزيز نفوذها العسكري والاقتصادي في إندونيسيا، التي تتواجد فيها أيضاً استثمارات صينية ضخمة.

سبق ذلك عقد قمة رباعية لتجمع "كواد" عام 2021، الذي تشكل عام 2007، أُعلن الهدف منها "خلق توازن قوى في آسيا"، وهي القمة الأولى التي شارك فيها قادة الولايات المتحدة والهند وأستراليا واليابان مباشرة، وهي دول لها خصومات مع الصين، فالهند لديها مشاكل حدودية مع بكين، واليابان عدو الصين التاريخي وتنظر إليها بريبة وحذر، كما أنّ واشنطن أطلقت مبادرة أمنية ثلاثية تحت مسمى "أوكوس"، بين أستراليا والمملكة المتحدة والولايات المتحدة، لتعزيز التعاون الدبلوماسي والأمني والدفاعي في منطقة المحيطين الهندي والهادي، والعمل على مواجهة تحديات القرن الحادي والعشرين، في إشارة غير مباشرة إلى الصين.
الصين هي إحدى الجهات المستفيدة من الحرب الروسية الأوكرانية، لأنها منحتها فرصة لإضعاف الغرب ومزيداً من الوقت لتعزيز نموها الاقتصادي وبناء الذات واستكمال عملية التحديث، كما أنّ الحرب الحاليّة تعطيها أن تشكّل نموذجاً مستقبلياً عن الطرق والوسائل التي يمكن أن يتم استخدامها ضد الصين من طرف الولايات المتحدة وحلفائها

هذه التحركات ستدفع الصين -على الأرجح- نحو التقارب مع روسيا، وتغيير سياستها الحذرة بالتعامل مع موسكو خاصة أنّها أخذت موقفاً حذراً منها بعد الحرب الروسية الأوكرانية، خوفاً من أن تطالها العقوبات المفروضة على روسيا، ولذا فإنّ هناك شكوى غير معلنة من قبل روسيا من موقف بكين التي تحجم عن مساعدتها عسكرياً واضعة في ذهنها المصالح الاقتصادية الضخمة، مع الاتحاد الأوروبي الشريك التجاري المهم والسوق الأمريكية التي تستوعب الجزء الأكبر من صادراتها، مستحضرة أن أية عقوبات يمكن أن تطالها ستلحق الضرر بالتقدم الاقتصادي الذي حققته طيلة عقود، وخصوصاً مع بداية تعافي اقتصادها من جائحة كورونا.

يعتقد كثيرون أنّ الصين هي إحدى الجهات المستفيدة من الحرب الروسية الأوكرانية، لأنها منحتها فرصة لإضعاف الغرب ومزيداً من الوقت لتعزيز نموها الاقتصادي وبناء الذات واستكمال عملية التحديث، كما أنّ الحرب الحاليّة تعطيها أن تشكّل نموذجاً مستقبلياً عن الطرق والوسائل التي يمكن أن يتم استخدامها ضد الصين من طرف الولايات المتحدة وحلفائها.

لعل من أهم ما استفادته الصين الحرب الروسية الأوكرانية هو العمل على تأمين احتياجاتها من الطاقة، حيث تسعى الصين إلى تعزيز علاقاتها مع الدول العربية خاصة السعودية، لتأمين احتياجاتها في هذا المجال. وكان أبرز جهود الصين زيارة الرئيس الصيني شي جين بينغ إلى السعودية خلال شهر كانون الأول/ ديسمبر 2022م، إذ شهدت الزيارة عقد ثلاث قمم، سعودية وعربية وخليجية، تم التوقيع خلالها على اتفاقيات بقيمة 30 مليار دولار مع الرياض في مجالات عدة، إضافة للاتفاق على تعزيز التعاون في الطاقة والدفاع.
سعي الولايات المتحدة إلى حصار الصين يعني الدفع باتجاه نشوء تحالفات دولية على غرار التحالفات التي نشأت قبيل وأثناء الحرب العالمية الأولى والثانية، وستدخلنا في أجواء حرب عالمية ثالثة، لكنها مع ذلك ستواجه صعوبة في تطبيق استراتيجيها بإنشاء تحالف استراتيجي من دول شرق وجنوب آسيا ودفعه لمواجهة مباشرة مع الصين

يمكن القول إنّ سعي الولايات المتحدة إلى حصار الصين يعني الدفع باتجاه نشوء تحالفات دولية على غرار التحالفات التي نشأت قبيل وأثناء الحرب العالمية الأولى والثانية، وستدخلنا في أجواء حرب عالمية ثالثة، لكنها مع ذلك ستواجه صعوبة في تطبيق استراتيجيها بإنشاء تحالف استراتيجي من دول شرق وجنوب آسيا ودفعه لمواجهة مباشرة مع الصين، لأنّ دول منظمة آسيان كانت المستفيد الأول من الصعود الصيني خاصة ضمن مشاريع مبادرة "الحزام والطريق"، فنهضتها مرتبطة بنهضة الصين، كما أنّ اعتماد الصين استراتيجية الحياد وإقامة العلاقات بناء على الاحترام والمنفعة المتبادلة مع تلك الدول بعيداً عن أية نزعة عسكرية لا يشجع هذه الدول إلى انتهاج سياسات عدائية مفتوحة ضد الصين، وتعلم هذه الدول أنّ حرباً من هذا النوع ستنفجر في حِجرها وستكون المتضرر المباشر منها، ولذا فإنّ حشدها عسكرياً ضد الصين سيكتنفه الكثير من الصعوبات، فضلاً عن الاعتقاد السائد في المنطقة بانحسار الدور الأمريكي عالمياً.

أمّا الهند -المعادل الإقليمي للصين- فمشكوك في انخراطها في مواجهة من هذا النوع مع الصين رغم الخلافات الحدودية بينهما، لأنّ الأولوية الهندية اليوم تتجه نحو تحوّل الهند إلى عملاق اقتصادي عالمي، لا الدخول في حروب عالمية مدمرة مسرحها المرجح الجوار الهندي، كما أنّ المواجهة مع الصين سيجعلها في مواجهة -شبه مؤكدة- مع باكستان نتيجة للعلاقات الصينية الباكستانية المميزة، ويمكن أن تؤدي إلى خسارة الهند لحليفها التقليدي روسيا، التي تخوض صراعاً عسكرياً مريراً مع حلف الناتو في أوكرانيا. لذلك فإنّ الهند وإن كانت تحاول التماشي مع الاستراتيجية الأمريكية في بداياتها لكنها لن تستطيع -على الأغلب- أن تلبي الطموحات الاستراتيجية الأمريكية عند أية مواجهة كبرى.
الأكثر قراءة اليوم
الأكثر قراءة في أسبوع