لم تكن أوروبا مفضوحة وعارية ومثيرة للشفقة كما هي اليوم بعد أن أصبح الغزو الروسي لأوكرانيا حقيقة تفقأ العيون.
يبدو الأوروبيون المساكين هذه الأيام كالأيتام على مائدة اللئام وهم يرون الروسي يجتاح أوكرانيا الأوروبية الشرقية بعد اعترافه بجمهوريتين انفصاليتين، بينما يكتفون هم وحليفهم الأمريكي المفترض حتى هذه اللحظة بفرض عقوبات سخيفة لا تسمن ولا تغني من جوع على موسكو.
وقد أصبحت العقوبات الأمريكية والأوروبية في نظر الكثير مدعاة للسخرية، لأنها أضعف بكثير من كبح جماح الدب الروسي الهائج.
وقد علقت عليها في تويتر بتغريدة ساخرة تقول إن بايدن طالب القوات الروسية الغازية بأن تجري فحص كورونا قبل أن تجتاح أوكرانيا، وإلا لمنع الروس من شرب الكوكاكولا أو تناول البيرغر الأمريكي.
لقد هزلت أوروبا وبان هزالها، حتى أنها نسيت أن بعض دولها الكبيرة تمتلك سلاحاً نووياً يمكن أن يهدد الروس، لكن الغزو الروسي جعل الأوروبيين يبدون ضائعين تائهين بلا حول ولا قوة على حين غرة، ربما لأول مرة في تاريخهم الحديث.
كم كانت وزيرة الخارجية الألمانية بائسة ومثيرة للتهكم عندما ناشدت العالم أن يقف في وجه العدوان الروسي على أوكرانيا، مما يذكرنا بمناشدات الجائحة العربية (الجامعة) التي لا تملك في وجه الأحداث الكبرى سوى الشجب والتنديد والاستنكار.
وعلى ما يبدو أن القادة الأوروبيين أخذوا دورة في الجامعة العربية، وربما نراهم قريباً يعيدون استخدام تصريحات النظام السوري الهزلية: نحتفظ بحق الرد في الزمان والمكان المناسبين.
لقد كشفت الأزمة الأوكرانية ضعف القادة الأوروبيين الحاليين وعرّتهم بعد أن باتوا يتسولون لقاءً خشبياً مذلاً مع بوتين في الكرملين ويتحملون نزقه وبلطجته بشكل مخجل.
أما الشعوب في أوروبا ووسائل إعلامها فصارت تترقب على أحر من الجمر مكالمة هاتفية ناشفة بين بوتين المتعجرف وبعض القادة الأوروبيين الخائفين لعلها تطمئنهم قليلاً على وضع قارتهم العجوز.
لقد مضت إلى غير رجعة تلك الأيام التي كانت فيها أوروبا تلك القارة التي يحسب لها ألف حساب، فقد انتهت أيام موسيليني وهتلر وتشرتشل وديغول الذين كانت قراراتهم وجيوشهم تهز العروش وترعب الدنيا.
لقد اكتشف العالم أن قارة أوروبا هي قارة عجوز فعلاً وهي غير قادرة على حماية نفسها فما بالك بالدفاع عن الآخرين.
وكشفت الأزمة الأوكرانية بما لا يدع مجالاً للشك أن الاتحاد الأوروبي هو تكتل من ورق، وأن الناتو كذبة بروتوكولية، وأن أمريكا تستخدمه عندما يخدم مصالحها فقط وأن دول الناتو تتصرف عند الشدائد بمبدأ (اللهم أسألك نفسي). وقد علق أحدهم بتغريدة ساخرة قائلاً: «صحيح إللي استحوا ناتو».
أما بالنسبة لأمريكا فإن علاقتها بالأوروبيين بعد الأزمة الأوكرانية لن تكون كما قبلها فقد انضمت أوروبا إلى مجموعة الدول والكيانات الضعيفة التي تقع تحت الابتزاز الأمريكي منذ عقود طويلة مثلها مثل دول الخليج وكوريا الجنوبية وسنغافورة واليابان وغيرها.
لقد صار البعبع الروسي (الأمريكي) يهدد الأوروبيين كما يهدد البعبع الكوري الشمالي اليابان وكوريا الجنوبية.
إن انكشاف أوروبا بهذا الضعف المخزي وجدته أمريكا فرصة رائعة جاءتها من غير عناء وعلى طبق من ياقوت، وهيهات هيهات أن تضيع أمريكا فرصة كهذه، فهي أم الابتزاز و«السلبطة» وخبرتها في هذا المجال تفوق الوصف. أوروبا في قادم السنين ستعرف معنى الابتزاز الحقيقي تحت رحمة «بسطار» أبناء العم سام.
لقد أظهرت الأزمة الروسية الأوكرانية أن أمريكا ما زالت تنظر إلى الأوروبيين بعين العطف والشفقة والوصاية، كما لو كانوا قاصرين وبحاجة لمن يأخذ بيدهم وتعاملهم بعقلية الحرب العالمية الثانية عندما اخترعت لهم مشروع مارشال لانتشالهم من آثار الحرب والنهوض بهم من تحت الأنقاض.
لم تتغير النظرة الأمريكية لأوروبا أبداً كما أظهرت الأزمة الأخيرة. تصوروا أن الإدارة الأمريكية كانت تتحدث في مناسبات كثيرة نيابة عن الألمان وهم في طليعة الدول الأوروبية اقتصادياً وتكنولوجياً، مع ذلك فإن الأمريكيين مازالوا يتعاملون مع الأوروبيين كما لو أنهم بلا حول ولا قوة، لهذا وجدنا بايدن يبحث لألمانيا عن بديل لخط الغاز الروسي نورد ستريم اثنين، وكأن ألمانيا تحتاج وصياً عليها يؤمن لها وقود التدفئة والطبخ.
وإذا كان الأمريكيون يتعاملون مع ألمانيا وهي من أقوى دول العالم وليس أوروبا فقط بهذه العقلية، فما بالك بالدول الأوروبية الصغيرة كبلجيكا ولوكسمبورغ وهولندا وسويسرا وغيرها.
صحيح أن أصواتاً ألمانية كثيرة ظهرت لتشجب هذا التعامل الأمريكي مع الأزمة الأوكرانية، إلا أن ألمانيا اضطرت بعد الاعتراف الروسي بجمهوريتين من الجمهوريات الأوكرانية الانفصالية إلى تعليق العمل بخط الغاز نورد ستريم 2 الذي كلف أكثر من عشرة مليارات دولار تحت الضغط الأمريكي.
وليحمد الأوروبيون ربهم ألف مرة في اليوم أن بايدن هو من يرأس الولايات المتحدة حالياً خلال أزمة أوكرانيا! فلو أن هذه الأزمة الفاضحة حصلت في زمن ترامب لكنا شاهدنا ماكرون يقف ذليلاً صاغراً بين يديه مثله مثل نوري المالكي وأشرف غني وغيره من الطراطير في منطقتنا، فترامب، كما تعلمون، نموذج مثالي للتكبر والعنجهية الأمريكية وأستاذ في فن الابتزاز السياسي بلا منازع.
ولا ننسى أنه ابتز أوروبا بشكل واضح من قبل عندما أخذ يطالبها بدفع نفقات الحماية الأمريكية لها، كما فعل مع الخليج، حيث ترك لإيران حرية تهديد المنطقة كي تضطر دول الخليج لدفع نفقات الحماية الأمريكية. وقد تحدث البعض عن خطة مماثلة بين ترامب وبوتين، بحيث تهدد روسيا أوروبا كي تحتمي بالأمريكيين أكثر وبالتالي تدفع لهم أثماناً جديدة مقابل الحماية.
نفهم من الأزمة الاوكرانية أن العالم ما زال عبارة عن غابة كبيرة يسودها أسوأ ما في شريعة الغاب ألا وهو أن «الغلبة للوحوش فقط» ولا عزاء للحيوانات الضعيفة، بمن فيهم الأوروبيون.
(القدس العربي اللندنية)