مقالات مختارة

بطل كل عام

1300x600

طريق الخيانة سالك ومزدحم بالجثث المحنطة، ومواكب التطبيع مع العدو الإسرائيلي تتلاحق، وخذلان القضية الفلسطينية عادة الوقت عربيا ودوليا، والسياسة الفلسطينية بفصائلها في تناحر لا ينتهي، لكن الشعب الفلسطيني برجاله ونسائه العاديين، وبشبانه وشاباته، بل حتى بأطفاله المقاومين، وبسجل تضحياته الهائلة، لا يستسلم أبدا، ولا يرفع الراية البيضاء في صراع عابر للقرون، ويوقد شعلة الكفاح جيلا فجيل، ويوما بعد يوم، ولا تخبو أحلامه في النصر الموعود، وتحرير وطنه من آخر وأبشع ظاهرة احتلال عنصري استيطاني باق على سطح المعمورة.


وفي الأيام والأسابيع والشهور الأخيرة، وعلى مدى عام 2021 المنقضي كله، بدا أن المقاومة الفلسطينية تبعث حيويتها من جديد، رغم كل عوامل التراجع والانهيار والتعرية في الوضع العربي، وركام المآسي في أقطار عربية منكوبة، وتدافع محن وكوارث تكاد تلهي وتنسى محنة الشعب الفلسطيني، إلا أن الرد العفي جاء من قلب فلسطين ذاتها، بقيامة «القدس» وحرب «سيف القدس»، وملحمة هروب الأسرى الستة من سجن «جلبوع» فائق التحصين، وتوالي بطولات الأسرى والأسيرات وإضراباتهم الطويلة عن الطعام، ومعارك «الأمعاء الخاوية» طلبا للحرية، واندلاع نيران المقاومة في قرى الضفة الغربية، وبما حول قرية «بُرقة» إلى رمز جديد لعنفوان الناس العاديين، وإلى عنوان لصدام متصل بين المواطنين الفلسطينيين مع قطعان المستوطنين وجيش الاحتلال، استشهد فيه من استشهد شبانا وشابات وعجائز، ومن دون أن تخضع القرية الباسلة بسكانها الذين لا يزيدون عن 4500 نسمة، ولا خضعت قرى الجوار بين «نابلس» و»جنين» (بزريا وسيلة الظهر وسبسطة).


وكان التحدي بدهس وقتل ومطاردة مستوطنين مستعمرين، ورد عدوان آلاف مؤلفة من قوات جيش الاحتلال، ونفض غبار الخوف من سيل الرصاص الحي والرصاص المطاطي، وبدء سيرة مقاومة شعبية فلاحية، تستلهم المدد من صمود القدس، ومسيرات عيد الميلاد الفلسطينية، التي ازدانت بأعلام فلسطين وأغاني الشهادة ومواكب «الدبكة» في شوارع العاصمة المقدسة المحتلة، ومن حول الكنائس العتيقة والمسجد الأقصى المبارك، بما دفع قوات الاحتلال إلى انفلات أعصاب، واعتقال أطفال بتهمة حمل علم فلسطين عند مداخل «الأقصى»، فوق العجز عن كسر إضراب الأسير هشام أبوهواش، ودهس المسنة الفلسطينية القروية «غدير مسالمة فقهاء»، ونفاد الحيل في وقف ثورة الأسيرات، وبأسماء مقاومين ومقاومات نبيلات، فوق أن تعد وتحصى، وكل يوم يهل وافد جديد إلى ساحات المعارك، فوطأة الاحتلال وجرائمه المحمومة تتفاقم، والاستيطان يتوحش، وهدم المنازل والأحياء، وشبهات أي حل سلمي تتوارى، ولم تبق إلا المقاومة وحدها، تنجب أساطيرها وشهداءها وأغانيها، وتلد عصرا فلسطينيا مقتحما، لا تحكم فيه لإرادة أو سياسة فصيل ولا كل الفصائل، ولا انتظار لقرارات حركات ولا هيئات ولا سلطات، بما جعل بعض الفصائل تصحو من رقادها الطويل، وتلهث وراء مقاومة الشعب التلقائية المتدفقة، على نحو ما فعلته قيادات في حركة «فتح» بالضفة الغربية، وتوالي صيحات نفيرها بالاحتشاد والاصطفاف وراء المبادرين في «بُرقة»، وأخواتها من قرى المقاومة الجديدة، التي تنهك جيش الاحتلال وتحطم معنويات المستوطنين المستعمرين، وتبقيهم تحت وطأة الإحساس بخطر داهم، رغم أن «بُرقة» ورفيقاتها، كلها تقع في المنطقة (ج) المقررة بمقتضى اتفاق أوسلو سيئ الصيت، وحيث لا وجود للسلطة الفلسطينية، بل الكلمة والأمر والنهي والإدارة فيها لجيش الاحتلال، الذي يفاجأ ببراكين المقاومة من حيث لم يحتسب ويقدر، وبتطورها من تظاهرات ومسيرات الاحتجاج إلى غضب الرصاص، والرد في كل الأحوال بما ملكت الأيدي من حجارة وسكاكين، وفي انتفاضات تبدو مفرقة، وإن كانت تبشر بانتفاضة شعبية شاملة كاسحة في الضفة والقدس.

ولا يكاد يمر يوم، بل ربما ولا ساعة، من دون ارتقاء شهداء وجرحى جدد، فقد وصل كل بديل آخر للمقاومة وحساب الدم إلى الحائط المسدود، خطة «أوسلو» توفاها الله ودهستها الظروف، والمفاوض الفلسطيني تعب من تكرار الكلام والسلام عبر ثلاثين سنة مضت، ونفتالي بينيت رئيس الوزراء الإسرائيلي الحالي يزايد على عجرفة سلفه نتنياهو، ويقول ببساطة، إنه لا دولة فلسطينية، ولا تفاوض على شبر في القدس والضفة الغربية، ثم إن رهان بعض المتنفذين الفلسطينيين على الرئيس الأمريكي جو بايدن سقط تماما ومبكرا، وواشنطن سلمت بأولويات كيان الاحتلال، وطوت وعدها بفتح قنصلية للفلسطينيين في القدس المحتلة، ودول التطبيع «الإبراهيمي»، تحمل «إسرائيل» على أكتافها وتهتف بعظمة احتلالها، ودول التطبيع البارد الأقدم، تتلهي بكلام باهت حول إحياء مفاوضات جرى دفنها، والرئيس الفلسطيني محمود عباس أشهر يأسه، وقال قبل شهور من على منبر الجمعية العامة للأمم المتحدة، إنه يمنح الاحتلال مهلة عام أخير للانسحاب، وإلا جرى الانتقال لخيارات أوسع من «حل الدولتين»، وردت عليه «إسرائيل» بوابل من السخرية، وسقطت الأقنعة عن عملاء الاحتلال في العمق الفلسطيني، حتى لو تخفوا على طريقة المسمى منصور عباس، وخادعوا بكونهم من سدنة الشعارات الإسلامية، وكأن «إسلاميتهم» المزعومة صارت دينا في خدمة كيان الاحتلال، والمحصلة الظاهرة المتكررة مرات، أنه لم تعد من مناطق رمادية في المشهد الفلسطيني، بل إما أبيض أو أسود، وقد اسودت وتضخمت وشاهت وجوه عربية وفلسطينية، ولم يعد من خيار متاح إلا الخيار الأول، الذي سبقت إليه رصاصة العاصفة الأولى في الأول من يناير 1965، ورصاصات «كتائب عز الدين القسام» و»سرايا القدس» و»كتائب شهداء الأقصى» في الانتفاضتين الأولى والثانية، وفي حروب غزة الصامدة الأربعة، التي أعجزت جيش العدو الإسرائيلي عن كسب أي نصر فيها، وفي عمليات فداء وحروب دهس وسكاكين، بادر إليها شبان فلسطينيون، بدت لهم الانتفاضات الكبرى كتاريخ بعيد، وتصور البعض أنه جرى تدجينهم واحتواؤهم، فإذا بالنسغ و»جينات» المقاومة تعود لتظهر مجددا، وتحسم على طريقتها جدالا ولجاجا بلا معنى، يخدر الناس ويمنيهم بملفات ورزم قرارات الأمم المتحدة المؤيدة لعدالة الحق الفلسطيني، وبإحلال الحركة الدبلوماسية محل مبدأ المقاومة، ثم بإقامة جدران وفصل وتفرقة بين المقاومة الشعبية السلمية والمقاومة المسلحة، وهو ما يدرك الشعب الفلسطيني بطلانه اليوم، فالحق بغير قوة تسنده ضائع باليقين، وانتظار المدد من عالم بعيد فوات للعقل، وانتظار دعم أغلب الحكام العرب مضيعة للوقت، وما من بديل صحيح جبرا لا اختيارا، سوى أن يأخذ الشعب الفلسطيني قضيته بيديه، ربما حتى من دون انتظار وفاق فصائل، عزلت نفسها عن جوهر قضية التحرير الوطني الفلسطيني، وانشغلت وانغمست بلعبة محاور إقليمية، تستثمر شعبية القضية في خدمة مصالحها البعيدة عن الوجع والهم الفلسطيني.


نعم، يدرك الشعب الفلسطيني اليوم، أن كل شيء دون جلاء الاحتلال باطل وقبض ريح، فلا مفاوضات تجدي في ظل موازين قوى مختلة، ناهيك من أن المفاوضات لم تعد واردة أصلا عند كيان الاحتلال، الذي يتصور أن تقليص معنى الصراع، وإبداء الاستعداد لمنح تيسيرات اقتصاد، أو خطط إعمار، أو فرص عمل في المستعمرات، وإلى سواها من حيل الالتفاف، قد تلهي الشعب الفلسطيني عن تذكر قضيته الأصلية، وقد تمد جسور مودة واستنامة لواقع بقاء الاحتلال وتأييده، وتحويل الحق الفلسطيني إلى أحاديث ذكريات، وهو ما أثبتت وقائع العام المنقضي عبثه واستحالته واقعيا، فقد كان عام 2021 مثالا ساطعا لقوة الحقيقة المخفية، وكان بامتياز عام الوحدة الكفاحية لكل الشعب الفلسطيني، في الأرض المحتلة بعدوان 1967، كما في سابقتها المحتلة بحرب 1948، وثبت أن الخطوط وجدران الفصل العنصري، حيطان من زجاج، لم تمنع ولا حجبت قدرة الفلسطينيين على إعادة استظهار قوتهم الكامنة، فحضور الشعب الفلسطيني على أرضه المقدسة حقيقة كبرى باهرة، وعدد الفلسطينيين على أرضهم صار يزيد ويتكاثف في اطراد، ويتفوق على أعداد المستوطنين المستعمرين المجلوبين من أربع جهات الدنيا، فقد دخل المشروع الصهيوني في أزمة وجودية معقدة، ولم تعد من «مخازن يهود» مستعدة لرفده بمادة بشرية إضافية، ثم إن الفلسطينيين لم يعودوا كما مهملا وخاملا، بل علمتهم المحنة الفريدة، وخلقتهم خلقا جديدا، يكملون به دائرة التحول من تفوق الكم إلى اكتساب التطور الكيفي، وبثقافة استشهاد تحولهم إلى قناديل بشرية، قادرة بالتراكم الكفاحي على تحطيم رهبة الاحتلال المسلح بالقنابل الذرية، وعلى تغيير موازين القوة في سنوات وعقود تجيء، يكون فيها الشعب الفلسطيني بطلا للعام وكل عام.

 

(القدس العربي اللندنية)

الأكثر قراءة اليوم
الأكثر قراءة في أسبوع